أصل المشكلة بين الدين والعلم

السبت،17ربيع الثاني1436//7 فبراير/شباط 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أ. د. عبد الحليم عويس
بصرف النظر عن أن أصل المشكلة قد يتركَّز في بعض الرجال في كِلا الحقلَين، هؤلاء الذين يفرضون إرادتَهم الحديدية على حركة المَصدرَين العظيمَين للحياة الإنسانية؛ خضوعًا لاعتبارات شخصية، أو لضيق أفُق، بصرف النظر عن هذا، فإن التاريخ يدلُّنا على أن الرحلة من فيثاغورث إلى كوبرنيكوس إلى جاليليو – رحلةٌ مليئة بالأسى والحسرة؛ بسبب خوف كنيسة العصور الوسطى على نفوذها، وادِّعائها أنها وحدها مصدر العلم، مُغلِقةً كلَّ منافذ العقل، هذه حقيقةٌ تاريخية معروفة.

• لكن المشكلة مع ذلك عند بعضهم ليست في رجال الدين وحدهم، فالبحث العلمي المُحايد يُثبت أن للمشكلة جانبَين آخرَين؛ جانبًا في الكتُب المُقدَّسة، فلم يعد مقبولاً أن تظل القيمة الدينية التاريخية للنصوص المنسوبة إلى الله اليوم بمعزل عن الدراسة التاريخيَّة النقدية والعِلمية؛ لكي نُثبت ما صدر عن الله، ونَنْفي ما أضيف مِن البشر، وذلك يوجب دراسة الظروف التاريخية والعامة التي تلك النصوص، ولا سيما بعد أن أصبح نقد النصوص عِلمًا، فقد كان له الفضل في جَعلِنا نكتشف مشاكل خطيرة، مِن مُتناقِضات وأمور بعيدة عن التصديق، وكلها تظل باقية بلا حلٍّ، وإننا لنأسف مع “موريس بوكاي” لذلك الموقف الذي يهدف إلى تبرير الاحتفاظ في نصوص التوراة والإنجيل ببعض المقاطع الباطلة خلافًا لكل منطق، إن ذلك – بحق – موقف يُسيء كثيرًا إلى الإيمان بالله لدى بعض العقول المُثقَّفة[1].

لكننا هنا يجب أن نُسارع فنُحذِّر من العجَلة في الحكم على النصوص؛ فالتطور العِلمي سريع ومُتغيِّر، وبالتالي فلا يعتمد من حقائق العلم إلا ما ثبَت بشكل نهائي، لكن عندما نعرف أن أسفار العهد القديم قد كُتبَت على مدى تسعة قرون، وأنها قد صُحِّحت وأُكملت أكثريتُها بسبب أحداث حدثَت، وضرورات خاصة، فإن لنا أن نُخضِع هذه الأسفار لمنهج نقديٍّ تاريخيٍّ وعلمي يوثِّق نِسبة نصوصها إلى الله، وينفي الإضافات الأدبية التي اتصلت بالنص الديني.

وقد أَحسَن المجمع المسكوني الفاتيكاني الذي أصدر وثيقته بعد ثلاث سنوات من المناقشة (62-1965) حول أسفار العهد القديم (التوراة)، فقال: “بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وضعه المسيح، تسمَح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة مَن هو الله، ومن هو الإنسان، غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان”.

ويتحدث عن هذا الأمل الأب (كانيجس) الأستاذ بالمعهد الكاثوليكي بباريس، فيقول: “يكاد شعب المؤمنين ألا يعرف بهذه الثورة التي حدثَت في مناهج تفسير التوراة، إن هذه الثورة تفتح الطريق بشكل يقلُّ أو يكثر لانقلاب في أرسخ رؤى تقليد الوعظ والإرشاد الكنسيَّين، إنه لم يعد واجبًا الأخذ بحرفية الأحاديث الواردة عن المسيح في الأناجيل؛ فهي كتابات ظرفية أو خصامية”[2].

• أما من ناحية ما تتضمَّنه أسفار التوراة والأناجيل من إشارات علمية، فالذي يبدو لي أنها إشارات قليلة جدًّا وعامة، وأكثرها يتعلق بقضايا خلق الكون وأصله، ومراحل تكوينه، مما هو بعيد عن منطقة التحقيق العِلمي، وكل ما ورَد من معلومات يمكن أن يقوم على أساس مدى سلامتها من التناقض الداخلي، ومدى مُطابقتِها للمنطق والعقل، وما ثبت من معلومات تاريخية مؤكَّدة.

اقرأ أيضا  جنود إسرائيليون يعتدون على أسير فلسطيني طالب بالعلاج

وعلى العكس من ذلك، فإن القرآن تضمَّن إشاراتٍ علميةً كثيرة، بعضها لم يكن بإمكان القرون السابقة – قبل القرن العشرين – أن تُفسِّره وتَعرِفه، وبعضها تَنبُّؤات عِلمية تحقَّقت، وبعضها أصبح في حكم القانون العِلمي كآية: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [النازعات: 30].

ونحن لا نميل إلى التسرُّع في التفسيرات الجزئية العِلمية للآيات القرآنية على النحو الذي ذهب إليه بعض المُعاصِرين، إلا أننا نعتقد أن المنهج الذي التزم به الأستاذ “نديم الجسر” في كتابه “قصة الإيمان”، ومنهج وحيد الدين خان في كتابه “الإسلام يتحدى” – هو المنهج المقبول؛ لأنه المنهج الذي يُبرز القوانين الطبيعية التي توشك أن تستقرَّ قواعدها.
••••
• أما الجانب الآخَر من القضية، ففي رأينا ورأي من نعرف من الدارسين المُحايدين، أن النصَّ القرآني هو النص الوحيد الصادر عن الله بألفاظه ومعانيه، والمحفوظ في الصدور، والمكتوب أيضًا، والمُسجَّل – كما هو الآن – قبل وفاة النبيِّ محمد المسؤول عن تبليغ النصِّ الإلهي بأمانة كاملة، ثم دُوِّن في حدود العامَين التاليَين لوفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان المسلمون جميعًا يتعبدون بتلاوته في الصلاة، وخلال العام، وبخاصة في رمضان، وهم جمعٌ يستحيل تواطؤهم على تغيير النصِّ أو التلاعب به، والجيل الذي تلقاه عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الجيل الذي نقله إلى الأجيال التالية، في ظلِّ الإيمان الذي يؤمن به المسلم العادي جدًّا مِن أن أيّ تغيير في كلمة قرآنية يُعتبر كفرًا صراحًا وخروجًا عن الإسلام، وبالتالي فقد توافر للنص القرآني من الصحة ما جعل “موريس بوكاي” في دراسته المقارنة للكتُب المقدسة يقول: “إن صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تُعطي النصَّ مكانة خاصة بين كتُب التنزيل، ولا يشترك مع نصِّ القرآن في هذه الصحة لا العهدُ القديم ولا العهد الجديد”[3].

وأيًّا كان الأمر، فإن مشكلة الكتب المقدسة تُمثِّل مشكلة يلزم دراستها دراسة علميةً تاريخيةً وَفق منهج النقد التاريخي، فضلاً عن ضرورة عرض الحقائق العِلمية الواردة في الكتُب المُقدَّسة على محكِّ العقل والمَنطِق، وما يثبت نهائيًّا من قوانين العلم، وهذه إحدى جوانب مشكلة النزاع بين الدين والعلم.
••••
أما الجانب الآخر للمشكلة، فهو رجال العلم الذين يَنطلِق بعضهم من تصورات ثابتة، وكأنها دين يَدينون به، ولا يَحيدون عنه بدلاً، والحق أن “برتراند راسل”، و”هكسلي” من أبرز النماذج على ذلك؛ إذ على الرغم من وضوح الحقائق العِلمية يُصرُّون على صرف النظر عن قضايا أساسية، أهمها: غائية الكون، وتناسقه، والقضايا الما ورائية، ويرفضون المعطيات الدينية للقوانين العِلمية المُكتشفَة، على أمل اكتشاف قوانين مضادَّة؛ لأنهم – ابتداءً – لا يُريدون الاعتراف بمبدأ خالق الكون مهما تكن الأدلة قوية وواضِحة.

اقرأ أيضا  أزمة مفتوحة بين "إسرائيل" وألمانيا

• إن هؤلاء – أيضًا – وخلْفهم كل الأيديولوجيِّين والعلمانيين اللائكيِّين والماركسيين – يُصرُّون على فرض المذهب على المنهج، والتفسير الواحدي على الواقعة، وقد يَخترعون مائة حلٍّ خياليٍّ لكل مشكلة، إلا أن يكون الحلُّ صادرًا عن الدين!

• إن هذا أيضًا موقف لا عِلمي، وهو بحدِّ ذاته مشكلة!
••••
لوحة الكون، تناسق وعقل:
سواء شئنا أم أبَينا، فإن العالم مِن حولنا مجموعة هائلة من التعميم والإبداع والتنظيم، ورغم استقلال بعضها عن بعض، فإنها متشابكة مُتداخِلة، وكلٌّ منها أكثر تعقيدًا في كل ذرة مِن ذرات تركيبها مِن المخِّ الإلكتروني[4].

إن ما يَحدث في عالم النبات مِن تلقيح بين ذكورة وأنوثة بعيدة، ومِن علاقات توافقيَّة اضطرارية أحيانًا، ومن هرمونات تقوم بأداء وظائف مختلفة، ليَدلُّنا على أن عالم النبات يَخضع لتفاعلات دقيقة، وحركة منظَّمة، وقوانين ثابتة.

إن جميع النباتات والحيوانات لم تُخلَق لكي تعيش في بيئة ثابتة محدَّدة الأوصاف، بل إن لدَيها مِن الاستعدادات ما يَجعلها قادرة على مُسايَرة الأجواء والظروف الأخرى في حالة الاضطرار، فمَن الذي زوَّدها بأدوات القدرة على التكيُّف؟!

• ومنذ أكثر من مائة وعشرين سنة رتَّب العالم الروسي (مانداليف) العناصر الكمياوية تبعًا لتزايد أوزانها الذرية ترتيبًا دوريًّا، فهل يمكن إرجاع ذلك إلى مجرَّد الصدفة، وقد تنبأ العلماء بفضل هذا الترتيب بوجود عناصر لم يكن البشر قد توصَّلوا إليها بعد؟

• وهذا الإنسان الذي لا يعدو في البداية أن يكون بيضةً مثل بيضة الدجاجة، قُطْرها يَتراوح بين جزء وجزأين مِن 240 جزءًا مِن القيراط، ووزنها جزء مِن مليون جزء مِن الجرام، وهي تتلاقح مع حيوان منوي ذكرٍ صغيرٍ جدًّا بالنسبة إليها؛ لأن طوله عبارة عن (60 جزءًا مِن ألف جزء من الملليمتر)، وهو يتمتَّع بذكاء يسمح له أن يَعبر إليها طريق الرحم الشاقِّ، ويُكوِّن لنفسه رأسًا مكوَّرًا يستطيع به أن يخرق جدار البيضة الهائل بالنسبة إليه، ويصنَع (!!) نهرًا مِن الماء يسبح فيه، مستخدمًا حركة لولبية تساعده على اللحاق بالبُوَيضة في الوقت المناسب، وصانعًا بعنُقه ذيلاً يساعده على السباحة في بحر الرحم، وربط هذا الذيل ربطًا دقيقًا بأنشوطة يستطيع أن ينفكَّ منها، إذا دخل إلى البويضة.

وعندما يَلتقي بأنثاه، يَجدها قد أعدَّت له حَفلة استقبال شخصية، وطردَت شرَّ طِردَة مائتي مليون من الحيوانات المُنافِسة كانت تسعى إليها، وفتحت له إلى قلبها بابًا خاصًّا يُسمَّى باب الجاذبية، فإذا دخل أغلق الباب وعاشا معًا في بيت الزوجية، الذي يَستعدُّ كل شهر لاستقبال العروسَين وإيوائهما وإطعامهما، فتَنتفِخ خلايا غشائه المُخاطي، وتتَّسع شُعيراته الدموية، وتنشط الغدد!

وتَمضي الرحلة المشتركة بين الزوجَين في بيت الرحم المِضياف، يتبادلان الهدايا الوراثية، وعناصر التخطيط النووي (الكرموزمات) و(الجينات)[5]؛ حتى يَعبُرا رحلة أخرى طويلة في اتحاد تامٍّ، وكل يوم مِن أيام هذه الرحلة حافل بإعجاز خاصٍّ.

اقرأ أيضا  المغرب.. جماعة إسلامية تندد بوصول سفير إسرائيل للرباط

• فإذا خرَجا إلى العالم، كانا إنسانًا سويًّا آخَر، يَحمل في حيازه الدماغي والجسمي مِن آيات الإعجاز الإلهي ما يَكفي وحده أقوى دليلٍ لوجود رحلة اتِّساق وانسِجام ونظام دقيق، يُسيِّرها إلهٌ مبدع لهذا الكون؛ ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]؟!

• إن الكرة الأرضية – كجزء مِن الكون – تخضع لنِسب مِئوية مُعيَّنة، وقد قسمها العلماء إلى أقسام دائمة، وحدَّدوا حجمَها وسُرعتَها فيما يتعلق بمدارها حول الشمس ودورانها حول مِحوَرِها، وإذا وقع أيُّ خلَل في حجمها أو سرعتها، اختلَّ نظامها كلُّه[6].

• وتخضع كل الكواكب: عطارد، والزُّهَرة، والمريخ، والقمر، لطبيعة خاصة ونظام خاص، يَحكم كلاًّ منهم؛ بحيث يبدو كل منهم وكأنه حبة في عقد، وأضف إليها كل النجوم؛ لتَكتمِل حبات العقد الجميل.

إن العناصر المبثوثة في الكون مِن نتروجين وأيدروجين وأوكسوجين وكربون وغيرها – مبثوثة بحساب دقيق، ونِسَب في غاية الدقة، وإن أيَّ خلل في نِسَب هذه العناصر كان مِن الممكن أن يُشعل الكون بحريق لا تُطفئه مياه المحيطات.

وأيُّ كونٍ فسيح هذا؟
إن الضوء يقطع في الثانية 186 ألف ميل، وفي السنة يقطع ستة ملايين مليون ميل (سنة ضوئية)، ويَبعد القمر عن الأرض – وهو أقرب الكواكب إليها – 240 ألف ميل تقريبًا، أما الشمس، فتبعد 33 مليون ميل تقريبًا، أما النسر الطائر، فيبعد عنَّا بنحو 30 سنة ضوئية، والسِّماك الرامح يبعد عنا 50 سنة ضوئية؛ أي: 294 مليون ميل تقريبًا، ووراء هذا نجوم تبعد عنا ألف سنة ضوئية، ووراء مجرَّتنا هذه سدم منها سديم (المرأة المُسلسَلة)، الذي يَبعد عنا مليون سنة ضوئية[7].

وقد رأوا إلى الآن بآلات التصوير نصف مليون سديم!

وصدق القرآن العظيم؛ ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [الواقعة: 75، 76].

أجلْ، أيُّ كَون فسيح ومنتظم ومنسجم هذا؟!
[1] موريس بوكاي: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة (ص:10)، طبع مصر.
[2] المرجع السابق (ص: 60، 68).
[3] المرجع السابق (ص: 151).
[4] الله يتجلى في عصر العلم: مقال هاتاواي عن المبدع الأعظم.
[5] نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 381).
[6] كريس مريسون: العلم يدعو إلى الإيمان (ص: 54).
[7] نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 306).
ــــــــــــــــــــــــــ
– الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.