الرِّضا .. من محاسن الإسلام

الإثنين 25 جمادى الأولى1436//16 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الإيمانُ يقينٌ يسكُنُ الأعماق، ومعرفةُ الله لها مذاقٌ حلوٌ يطبَعُ النفوسَ على النُّبل والتسامِي، ويُصفِّي النفوسَ من كدَرِها. إنه شوقٌ إلى الله، ومُسارعةٌ إلى مرضاتِه
روى مسلمٌ في “صحيحه” عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ – رضي الله.عنه -، أنه رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «يا أبا سعيد! من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا وجبَت له الجنة». فعجِبَ لها أبو سعيد، فقال: أعِدها عليَّ يا رسول الله، ففعَل .. الحديث.
الرِّضا عملٌ قلبيٌّ يجمعُ القبول والانقِياد، والرِّضا أساسُ الإسلام وقاعدةُ الإيمان، وشرطُ شهادة التوحيد؛ قال الله – عز وجل -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
فأقسمَ الحقُّ – سبحانه – أنهم لا يُؤمِنون حتى يُحكِّموا اللهَ ورسولَه، ويرتفِع الحرَجُ من نفوسِهم من حُكمه، ويُسلِّموا له تسليمًا، وهذه حقيقةُ الرِّضا بحُكمه وشرعِه.
وقد أسنَدَ الحرجَ والاستِسلامَ للنفس لا للقلبِ لحكمةٍ دقيقةٍ، وهي: أن النفسَ مكمَنُ الهوى والشهوات، والاحتِجاج والاعتِراض.
ومن هنا، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ذاقَ طعمَ الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً»؛ رواه مسلم.
وقال أيضًا: «من قال حين يسمعُ المُؤذِّن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، رضِيتُ بالله ربًّا، وبمُحمدٍ رسولاً، وبالإسلام دينًا؛ غُفِر له ذنبُه»؛ رواه مسلم.
وهذان الحديثان – كما قال ابن القيم – رحمه الله – عليهما مدارُ مقامات الدين، وإليهما تنتهي. وقد تضمَّنا الرِّضا بربوبيَّته – سبحانه – وألوهيَّته، والرِّضا برسولِه والانقِياد له، والرِّضا بدينِه والتسليم له.
ومن اجتمَعَت له هذه الأربعة فهو الصدِّيقُ حقًّا، وهي سهلةٌ بالدعوى واللسان، لكنها من أصعَب الأمور عند الحقيقة والامتِحان، ولاسيَّما إذا جاء ما يُخالِفُ هوَى النفسِ ومُرادَها.
فالرِّضا بإلهيَّته يتضمَّنُ: الرِّضا بمحبَّته وحدَه، وخوفِه ورجائِه، وإفرادِه بالعبادة والإخلاص له.
والرِّضا بربوبيَّته يتضمَّنُ: الرِّضا بتدبيره لعبده، والاعتِماد عليه، وأن يكون راضِيًا بكل ما يفعلُه به مولاه.
وأما الرِّضا بنبيِّه رسولاً فيتضمَّنُ: كمال الانقِياد له، والتسليمَ المُطلَق إليه.
وأما الرِّضا بدينِه: فإذا قال أو حكَم أو أمَر أو نهَى رضِيَ كلَّ الرِّضا،ولم يبقَ في قلبِه حرَجٌ من حُكمِه، وسلَّم له تسليمًا ولو كان مُخالِفًا لمُراد نفسِه أو هواها، أو قولَ مُقلِّده وشيخِه وطائفتِه.
إن الرِّضا بالله هو – واللهِ – عينُ العزَّة، والصُّحبة مع الله ورسولِه، وروح الأُنس به. من رضِيَ بالله ربًّا،وبمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم – رسولاً، وبالإسلام دينًا رسَخَت قدمُه في التوكُّل والتسليم والتفويض، ومن رضِيَ عن ربِّه رضِيَ الله عنه.
ولذلك كان الرِّضا بابُ الله الأعظم، وجنَّةُ الدنيا، ومُستراحُ العارِفين، وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابِدين، وقُرَّة عيون المُشتاقين.
ويُنافِي الرِّضا ويُقابِلُه: الاعتِراضُ والكراهيةُ لما أنزل الله، لبعضِه أو كلِّه؛ فالرِّضا هو الاستِسلامُ والقبولُ والانقِياد، وضدُّه الردُّ والاعتِراضُ والإباء. وأصلُ هذا الاعتِراض هو اتِّباعُ الهوى، والاستِمدادُ من غير الوحي، والتلقِّي من غير الله ورسولِه.
فمن الناس من حكَّم العقل والهوَى والرأيَ، وتتبَّع فلسفةَ التائِهين، ومنهم من حكَّم الذوقَ والوجدَ والكشفَ، وتلاعَبَ الشيطانُ بعقلِه، فانتَكَسَ إلى حضيض الخُرافة والوهم، ومنهم من بحثَ عن المصالِح الدنيويَّة، وركَنَ للأعراف الأرضية، وتبِعَ الهوى مُتدرِّعًا بالأقيِسَة والآراء لإباحة ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ، وإسقاط ما أوجَبَ، وتصحيح ما أبطَلَ.
وسببُ ذلك كلِّه: هو اتِّباعُ الهوَى، وعدمُ الرِّضا بالله ورسولِه ودينِه. ولهذا مُلِئَ القرآن الكريم بالتحذير من الهوَى؛ بل إن من مقاصِد الشريعة: إخراجَ المُكلَّف من داعِية الهوَى إلى اتِّباع الشرع، وبهذا يحصُلُ الابتِلاءُ، ويفترِقُ الطائِعُ عن العاصِي، والعابِدُ عن الفاسِق؛ قال الله – عز وجل -: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [المؤمنون: 71]، وقال – سبحانه -: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
إن التِزامَ شريعة الله، وتحرِّي طاعة الله هي قضيَّةٌ عقديَّة ومسألةٌ إيمانيَّة، قبل أن تكون أحكامًا عمليَّة، وفروعًا فقهيَّة. وإن سببَ كل انحِرافٍ وذلٍّ وهزيمةٍ وفُرقةٍ في حياتنا هو البُعدُ عن منهَج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسُّلوك، والتديُّن، وسبيل الإصلاح.
كما أن التفلُّت من الطاعات، والهربَ من التكاليف والواجِبات هو سببُ التخاذُل والتردِّي الذي تُعاني منه الأمة.
وإن الشرعَ لا يهبِطُ لمُستوى تفريطِ الإنسان حتى يُبرِّرَ له كسَلَه وعِصيانَه، فالشرعُ لا يتَّبِعُ هوَى الناس؛ بل الشارِعُ يُطالِبُهم أن يرقَوا إلى عزِّ الطاعة، ويعلُوا إلى سمُوِّ التعبُّد.
ولكن النفس وهي تتراخَى عن العمل بالتدريج، وتتفلَّتُ من الواجِبات، وتنحدِرُ عن قمَّة الامتِثال شيئًا فشيئًا لتُحاوِلُ أن تجِدَ لها تفسيرًا مُريحًا يُبرِّرُ لها تراخِيَها وتفريطَها، وهذه حقيقةٌ نفسيَّةٌ معروفة.
وإن من أعظم أبوابِ الفتن في هذا الجانِب: تتبُّع الخلافات الفقهيَّة،والاستِدلالُ بشواذِّ الآراء، وما لا يُعتبر من الأقوال، حتى عُطِّلَت الأحكامُ باسمِ الخِلاف، وانتُهِكَت الحُرمات باسم الخلاف، وانكسَرَت عزائِمُ المُتعبِّدين فكسَلُوا عن الطاعات، وانشَغَلُوا بفُضول المُباحات، واجتَرَأوا على المكروهات، وهي بابُ المُحرَّمات.
بل وجبَ بعضُ الناس أبوابَ الحيرة والاضطِراب بالاحتِجاج بالخلاف في مُواجَهة النصِّ، فكلَّما تُلِيَت عليه آيةٌ أو حديثٌ، أو ذُكِرَ له حُكمٌ تعلَّل بأن فيه خلافًا، وكأنَّما نسِيَ أن الله تعالى أنزلَ علينا هذا الكتاب لنُحكِّمَه في الخلافات؛ قال – سبحانه -: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة: 213].
فوظيفةُ الكتاب: هي الهداية، ورفع الخلاف، وبيانُ الحقِّ.
فنتعبَّدُ الله بتحكيم الوحي في الخلاف، لا أن نحتَجَّ بالخلاف على وحيِ الله؛ قال – سبحانه -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى: 10].
فعكَسَ المهازِيلُ هذا المفهوم وتحجَّجوا بالخلاف لأجل الهوَى، وهانَ عليهم الحرام؛ إذا علِمُوا أن في تحريمِه من خالَفَ! فأين الرِّضا والاحتِكامُ إلى الله؟!
إنها فتنةٌ من فتن العصر، وإن من يتتبَّعُ الخلافات وشُذوذ الأقوال يصنعُ لنفسِه دينًا مليئًا بكل الشهوات، بعيدًا عن مُراد الله وهديِ رسولِه؛ فاتِّباعُ الخلاف هو طريقٌ لاتِّباع الهوى ومُخالِفٌ للرِّضا.
قال ابن حزمٍ – رحمه الله -: “ولو أن امرأً لا يأخذُ إلا بما أجمعَت عليه الأمةُ فقط، ويترُكُ ما اختلَفُوا ففيه مما قد جاءَت به النصوص؛ لكان فاسِقًا بإجماع الأمة”.
وقال ابن عبد البرِّ: “الاختلافُ ليس حُجَّةً عند أحدٍ علِمتُه من علماء الأمصار”.
والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
إن على الأمة أن تأخذ أوامِرَ الله بجِدٍّ وحزم، وأن تبتغِيَ بها مراقِيَ العزِّ بعزمٍ، وألا تنظُرَ للأحكام على أنها تكالِيف تحتالُ لها بالتخفيف، فإن أحكام الشرع مهما عظُمَت فهي ليست أثقالاً؛ بل هي أسبابُ قوَّة، كالنسر المخلوق لطبقات الجوِّ العُليا، ويحمِلُ دائمًا من أجل هذه الطبقات ثُقلَ جناحَيه العظيمين.
والله تعالى يقول: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 171]، (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12].
ومما ينبغي أن يتعلَّمه الناسُ ويُبثَّ فيهم: نداءات الإيمان، ومواعِظ القرآن، ومعاني الورع والعفَّة والتقوى والخوف من الله ومُراقبته.
قال جُندبُ بن عبد الله – رضي الله عنه -: “كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، ونحن فِتيانٌ حَزاوِرة، فتعلَّمنا الإيمانَ قبل أن نتعلَّم القرآن،فازدَدنا به إيمانًا”؛ رواه ابن ماجه.
وفي البخاري: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “إن ما نزلَ أول ما نزلَ منه سورةٌ من المُفصَّل، فيها ذِكرُ الجنة والنار،حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلام نزلَ الحلالُ والحرام، ولو نزلَ أول شيءٍ: لا تشرَبُوا الخمر، لقالوا: لا ندَعُ الخمرَ أبدًا، ولو نزلَ: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندَعُ الزنا أبدًا. لقد نزلَ بمكَّة على محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وإني لجاريةٌ ألعَب:(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46]، وما نزلَت سورةُ البقرة والنساء إلا وأنا عندَه ..” الحديث.
فالرِّضا بالله وبدينِه وبرسولِه تمامُ الإيمان، والإيمانُ تمامُ الرِّضا.
الإيمانُ يقينٌ يسكُنُ الأعماق، ومعرفةُ الله لها مذاقٌ حلوٌ يطبَعُ النفوسَ على النُّبل والتسامِي، ويُصفِّي النفوسَ من كدَرِها. إنه شوقٌ إلى الله، ومُسارعةٌ إلى مرضاتِه.
الإيمانُ ينفَحُ القلبَ نورًا، ويملأُ الصدرَ سرورًا، وأيُّ إيمانٍ فوقَ الطُّمأنينة بالله، والرُّكون إليه، وامتلاءُ القلب به وحدَه دون سِواه. أصحُّ القلوب وأسلَمُها، وأقومَها وأرقُّها، وأصفاها وأقواها وأليَنُها من اتَّخذَ اللهَ وحدَه إلهًا ومعبودًا، وأخلصَ القلبَ له دون سِواه، واطَّرَح لأجل الله هواه، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء: 125].
وإسلامُ الوجه لله هو إقبالُ العبد بكليَّته على الله، وإعراضُه عمَّن سِواه، والخضوعُ لإرادتِه، والتذلُّلُ لعظمته وكبريائِه، والإيمانُ بوحدانيَّته وشريعتِه. وبه يكونُ كمالُ الإيمان وتمامُه.
الخوفُ من الله سراجٌ يُضِيءُ في حنايا القلوب، ومِشعلُ نورٍ تتلمَّسُ به سلامةَ الدروب، والتوقِّي من المزالِق والحذرُ من المحارِم سجِيَّة المتقين، وعنوانُ المؤمنين، وعند تصحيح الضمائِر تُغفَرُ الكبائِر.
وإذا عزمَ العبدُ على ترك الآثام أتَتْه الفتوح، وإذا أقبلَ العبدُ إلى الله، أقبلَ الله بقلوبِ العباد إليه.
قال سُفيان الثوريُّ: “عليك بالورع يُخفِّف الله حسابَك، ودَع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك يسلَم لك دينُك”.
وقال الضحَّاك: “أدركتُ الناسَ وهم يتعلَّمون الورع، وهم اليوم يتعلَّمون الكلام والجدَل”.
فارضَوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً؛ تذوقُوا طعمَ الإيمان، ويرضَى الله عنكم ويُرضِيكم.
——————-
فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب

اقرأ أيضا  دع ما يريبك...
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.