الإنسان والعبادة “السنة الضوئية”
الخميس6 جمادى الثانية1436//26 مارس/آذار 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم ، قيل : من عرف نفسه عرف ربه فمن أنت أيها الإنسان ؟ هل تعلم أنك المخلوق الأول عند الله ؟ المخلوق الأول رتبة لأن الله جلّ جلاله قال :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
لأن الإنسان قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول ، لذلك سخر الله له :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ﴾
[ سورة الجاثية: 13 ]
تسخير تعريف وتكريم ، موقف الإنسان الكامل من تسخير التعريف أن يؤمن، وموقفه الكامل من تسخير التكليف أن يشكر ، فإذا آمن وشكر حقق الهدف من وجوده ، لذلك قال تعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾
[ سورة النساء: 147]
العبادة علة وجود الإنسان في الدنيا :
أيها الأخوة الكرام ، كلكم يعلم أن معظم الطلاب درسوا في المدارس أن الكون جماد ونبات وحيوان وإنسان ، أليس كذلك ؟ الجماد شيء مادي يشغل حيزاً من الفراغ ، وله وزن ، وله أبعادٌ ثلاثة ، بينما النبات كائنٌ له وزن ويشغل حيزاً في الفراغ ، وله أبعادٌ ثلاثة ، لكنه ينمو ، يختلف عن الجماد أنه ينمو ، بينما الحيوان كائن يشغل حيزاً في الفراغ ، وله أبعادٌ ثلاثة ، وله وزن وينمو كالنبات ، ويمتاز عن النبات أنه يتحرك ، النبات لا يتحرك، و أما الإنسان فكائنٌ يشغل حيزاً في الفراغ ، وله أبعادٌ ثلاثة ، وله وزن ، وينمو ، ويتحرك ، لكنه يفكر أودع الله في الإنسان قوةٌ إدراكية تميز بها عن بقية المخلوقات ، هذه القوة الإدراكية جعلته فوق المخلوقات جميعاً ، لذلك الموقف الكامل من هذه القوة الإدراكية أن يؤمن ، أن يتعرف إلى الله ، أن يتعرف إلى حقيقة الكون ، أن يتعرف على حقيقة الحياة الدنيا ، أن يتعرف على حقيقة وجوده ، فإذا تعرف إلى الله حقق الهدف من وجوده بل أكّد إنسانيته ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الذاريات : 56]
علة وجودنا في الدنيا العبادة ، لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون ، مدينة كبيرة مترامية الأطراف عملاقة ، نقول : هذا الطالب الموجود في هذه المدينة علة وجوده في هذه المدينة شيء واحد الدراسة ، نيل الدكتوراه ، يجب أن نعتقد جميعاً أن علة وجودنا في الدنيا شيء واحد أن نعبد الله ، والعبادة لا كما يتوهمها معظم الناس أن نصلي فقط، وأن نصوم ، وأن نحج البيت ، وأن نؤدي زكاة أموالنا ، وأن ننطق بالشهادة ، هذه عبادات شعائرية ، لكن البطولة أن نخضع لمنهج الله عز وجل الذي قد يزيد عن خمسمئة ألف بند ، يبدأ هذا المنهج من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، هذا المنهج كبير ، كيف تأكل ، كيف تشرب ، كيف تتزوج ، كيف تربي أولادك ، كيف تتعامل مع الأقوياء ، مع الضعفاء ، هناك أسئلة لا تنتهي ، فأنت الكائن الأول بل أنت أعقد آلة في الكون ، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع عظيم هو الله ، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة ، فالجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة لأنها الجهة الخبيرة ، قال تعالى :
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
[ سورة فاطر: 14 ]
حرص الإنسان على سلامة وجوده وكمال وجوده واستمرار وجوده :
انطلاقاً من حرصك على سلامتك أحدث إحصاء لسكان الأرض سبعة مليارات ، أؤكد لكم أن السبعة مليارات إنسان لا يستثنى واحد منهم حريصون على سلامة وجودهم، وحريصون على كمال وجودهم ، وحريصون على استمرار وجودهم ، سلامة وجودك بالاستقامة، فالاستقامة تحقق السلامة ، وكمال وجودك بالعمل الصالح ، والعمل الصالح يحقق لك اتصالاً مع الله :
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
[سورة فاطر: 10]
واستمرار وجودك بتربية أولادك ، فلو جمعت أكبر ثروة في الأرض ، وارتقيت إلى أعلى منصب فيها ، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس ، لذلك الأخوة الكرام الأعزاء الجالية الإسلامية في هذا البلد المشكلة الأولى تربية أولادهم ، لأن الإهمال إذا حصل نشأ الابن نشأة تتناقض مع منهج أبيه ، ومع عقيدته ، ومع طموحه ، وما لم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس .
إذاً سلامة الوجود بالاستقامة على تعليمات الصانع وهي القرآن والسنة ، وكمال الوجود بالعمل الصالح ، واستمرار الوجود بتربية الأولاد .
كيفية إنفاق الوقت لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان :
لذلك الله عز وجل جعل هذا الإنسان له عمر ، وما من تعريف جامع مانع للإنسان كهذا التعريف ذكره الإمام الجليل والتابعي الكبير الإمام الحسن البصري قال : ” الإنسان بِضْعَةُ أيام ، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه ” . فأنت زمن ، أنت زمن رأس مالك هو الزمن ، هذا الزمن إما أن تنفقه انفاقاً استهلاكياً كشأن معظم سكان الأرض ؛ نأكل ، ونشرب ، ونتمتع ، ثم نفاجأ بالموت ، أو أن ينفق هذا الزمن الذي هو أنت وهو رأس مالك انفاقاً استثمارياً ، بمعنى أن تفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن ، لذلك لأن الإنسان زمن ولأن رأس ماله هو الزمن أقسم الله له بمطلق الزمن فقال :
﴿ وَالْعَصْرِ﴾
[ سورة العصر: 1 ]
قسم إلهي ، أقسم الله له بمطلق الزمن ، لأنه زمن ، وجواب القسم :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
[ سورة العصر: 2 ]
خاسر ، لماذا يا رب هو خاسر ؟ العلماء قالوا : لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان . سبت ، أحد ، اثنين ، ثلاثاء ، أربعاء ، خميس ، مضى أسبوع ، أسبوع ثان ، ثالث، رابع مضى شهر ، شهر ثان ، ثالث ، رابع مضى فصل ، أربعة فصول مضى عام ، عشرة أعوام عقد ، حياة الإنسان بضعة عقود ، ثم يتفاجأ أنه صار على مشارف الموت ، الإنسان لو كان عمره أربعين عاماً لو سألناه كيف مضت هذه الأعوام ؟ يقول لك : والله لا أدري مضت ، فإذا مضت الأربعون والأعم الأغلب أن الذي سيأتي أقل مما مضى ، فإذا مضت الأربعون عاماً التي بقيت تمضي كالأربعين ، وفجأة الإنسان سيحاسب عن كل كلمة قالها ، وعن كل خطوة خطاها ، وعن كل ابتسامة ، وعن كل عطاء ، وعن كل منع ، وعن كل صلة :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة الحجر:92-93 ]
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ِ ﴾
[ سورة العصر: 1-3]
الاستقامة على منهج الله علامة الإيمان :
قد يقول معظم أهل الأرض من المسلمين : نحن مؤمنون ، الجواب : علامة الإيمان الاستقامة على منهج الله ، وأي إيمان لا ينتج عنه استقامة لا شأن له عند الله ، الدليل، إبليس اللعين مؤمن ، ما الدليل ؟ قال :
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
[ سورة ص: 82 ]
آمن به رباً ، آمن به عزيزاً ، وقال :
﴿ فأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[ سورة ص : 79]
وآمن بالآخرة وهو إبليس اللعين ، لذلك دققوا في الآية الكريمة :
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
[ سورة الحاقة : 33]
هنا الشاهد ما آمن بالله العظيم ، آمن بالله خالقاً لكن ما آمن به عظيماً ، لو آمن به عظيماً لامتنع عن معصيته ، فلذلك نصيحة لكل مؤمن : لا تقس إيمانك بمعلومات تعرفها، قس إيمانك باستقامتك ، فإذا كنت مستقيماً فأنت مؤمن ورب الكعبة ، فلذلك سألت مرة أحدهم: هل بإمكانك أن تضغط لي التجارة كلها بكلمة واحدة ؟ مئة مليون نوع ، ألف مليون مستوى ، يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة إنها الربح ، فإن لم تربح فلست تاجراً ، كذلك الدين كله بعقائده ، بعباداته ، بمعاملاته ، بتاريخه ، بمؤلفاته ، بأسسه ، الدين كله يضغط بكلمة واحدة إنها الاستقامة ، فإن لم تستقم على أمر الله لن تقطف من الدين شيئاً ، دين من دون استقامة اسمه : تراث ، يقول لك : عنده خلفية إسلامية ، أرضية إسلامية ، عنده نشاط إسلامي، عنده منطلقات إسلامية ، الإسلام شيء آخر ، الإسلام منهج يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، فإذا خضعت لمنهج الله في كسب مالك ، في إنفاق مالك ، في طريقة اختيار زواجك ، في طريقة تربية أولادك ، في حالات الضعف ، في حالات القوة ، في علاقاتك ، إذا اعتمدت منهج الله عز وجل في كل حركاتك وسكناتك فأنت مؤمن ورب الكعبة .
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :
لذلك :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر: 1-3]
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول : ” هذه أركان النجاة ” ننجو بإيمان يحملنا على طاعة الله ، مقياس الإيمان هو الذي يحملك على طاعة الله ، وننجو بالعمل الصالح ، فحجمك عند الله بحجم عملك الصالح :
﴿ و لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾
[ سورة الأنعام: 132 ]
الإيمان والعمل الصالح :
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
[ سورة العصر: 3]
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
الآن دققوا :
﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾
[ سورة العصر: 3]
هل تصدقون أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ، الصلاة مثلاً فرض على كل مسلم ، وكذلك الدعوة إلى الله من خلال سورة العصر فرض على كل مسلم ، ولكن الدعوة إلى الله كفرض في حدود ما تعلم ومع من تعرف :
(( بلغوا عني ولو آية ))
[البخاري والترمذي عن ابن عمرو ]
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
[ سورة يوسف: 108 ]
فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله ، والدليل :
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾
[ سورة آل عمران: 31 ]
الدعوة إلى الله فرض في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، حضرت خطبة تأثرت بها أبلغها إلى زوجتك ، إلى أولادك ، إلى جيرانك ، إلى شركائك في العمل ، انقل الحقائق التي تلقيتها إلى من حولك ، هذه الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، أما الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل فتحتاج إلى تفرغ ، وإلى تعمق ، وإلى تبحر ، وإلى توسع ، وتقتضي هذه الدعوة أن تجيب عن كل سؤال، هذه الدعوة التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، إذاً :
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾
[ سورة العصر: 3]
تواصوا بالحق تعني الدعوة إلى الله :
﴿ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر: 3]
الصبر على الإيمان بالله ، والصبر على العمل الصالح ، والصبر على الدعوة إلى الله ، فهذه السورة كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله لا يتفرقون بعد اجتماعهم إلا على تلاوة هذه السورة :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر: 1-3]
سيدنا سعد بن أبي وقاص قال : ” ثلاثة أنا فيهن رجل ” كلمة رجل في الكتاب والسنة لا تعني أنه ذكر تعني أنه بطل :
﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾
[ سورة النور: 37]
ما هذه الثلاثة ؟ قال : ” ما صليت صلاةً وشغلت نفسي حتى أقضيها ، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها – والثالثة هذ الشاهد – وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى “.
العاقل من عرف سرّ وجوده وغاية وجوده ثم تحرك وفق منهج الله :
خالق الأكوان أرسل النبي العدنان ، فالكتاب والسنة هما الدين :
(( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ))
[الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ]
لا بد في كل بيت من كتاب حديث ، أي كتاب ، هذا الكتاب تقرأ به سنة النبي الكريم، قضية الجنة تحتاج إلى جهد ، وإلى التزام ، وإلى طلب علم ، ولأن الله سبحانه أودع فيك قوة إدراكية لذلك تلبية هذه القوة الإدراكية على عمل تفعله أن تطلب العلم ، لتعرف من أنت؟ ولماذا جاء الله بك إلى الدنيا ؟ وما حقيقة الدنيا ؟ وما حقيقة الكون ؟ وما حقيقة الدار الآخرة ؟ هذه المعلومات دقيقة لذلك قالوا : ما كل ذكي بعاقل ، إنسان قد يتمتع بذكاء عال ، والأول في الجامعة ، وعمل دكتوراه بالفيزياء النووية ، هذا أخطر موضوع ولم يؤمن بالله لا يعد عاقلاً ، ما كل ذكي بعاقل ، من هو العاقل ؟ الذي عرف سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الدار الآخرة ، ثم تحرك وفق منهج الله ، هذا هو العاقل ، والإنسان – كما قلت لكم -حريص على سلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده ، السلامة بالاستقامة ، والكمال بالعمل الصالح ، والاستمرار بتربية الأولاد .
الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك :
لكن بعضهم قال : الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، فإذا غذيت عقلك بالعلم ، وقلبك بالحب ، الذي يسمو بك أن تحب الله مثلاً ، وجسمك بالطعام والشراب تفوقت ، أما إذا اكتفيت بواحدة فتطرفت ، لذلك قال تعالى يصف أهل الدنيا :
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
[ سورة الفرقان: 44]
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
[ سورة المدثر : 50-51]
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
[ سورة المنافقون: 4 ]
وصف كلام الله عز وجل .
يا أيها الأخوة الكرام ، الحديث خطير متعلق بالمصير ، متعلق بسعادة أبدية أو بشقاء أبدي ، والإنسان كما قلت قبل قليل هو المخلوق الأول ، والمخلوق المكرم :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
[ سورة الإسراء: 70]
والإنسان هو المخلوق المكلف بعبادة الله عز وجل ، و العبادة هي طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، و أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
آيات معرفة الله ثلاثة أنواع ؛ كونية تكوينية و قرآنية :
أيها الأخوة الكرام ، كلكم يعمل أن الله عز وجل حينما قال :
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾
[سورة الجاثية: 6]
الآيات التي هي قنوات سالكة لمعرفة الله أنواع ثلاثة ، آيات كونية ، وآيات تكوينية، وآيات قرآنية ، الآيات الكونية خلقه ، والآيات التكوينية أفعاله ، والآيات القرآنية كلامه ، فإذا أردت أن تعرفه فعليك أن تسلك هذه القنوات ؛ الكون ثم أفعال الله عز وجل ثم القرآن ، لكن قال العلماء : بيننا وبين أقرب نجم ملتهب إلى الأرض أربع سنواتٍ ضوئية ، ما معنى سنة ضوئية ؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية ، فكم يقطع في الدقيقة ؟ ثلاثمئة ألف ضرب ستين ، كم يقطع في الساعة ؟ ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ، كم يقطع في اليوم ؟ ضرب أربع وعشرين ، كم يقطع في العام ؟ ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، كم يقطع في أربع سنوات ؟ ضرب أربع ، أي ابنك الصغير بدقيقتين بآلة حاسبة يحسب لك المسافة بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب ، ثلاثمئة ألف ضرب ستين ، ضرب ستين ، ضرب أربع وعشرين ، ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، ضرب أربع ، لو كان هناك طريق لهذا النجم وأردنا أن نصل إليه بمركبة أرضية قال : نحتاج إلى خمسين مليون عام كي نصل إلى أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض .
نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية ، المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية ، إحدى المجرات بموسوعة لايف تحتاج إلى أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية ، افتح القرآن اقرأ قوله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
[سورة الواقعة: 75]
مواقع النجوم المسافات بين النجوم :
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
[سورة الواقعة: 76]
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم علمنا بما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، احقن دماء المسلمين في كل مكان ، واحقن دماءهم في الشام ، يا رب العالمين .
والحمد لله رب العالمين