أخلاق خاتم الأنبياء وإعجازها

الإثنين 24 شوال 1436//10 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أمل حميد محمد العوفي
أخلاق خاتم الأنبياء وإعجازها
شكر وتقدير
الحمد لله تبارك وتعالى حمداً كما يحب ويرضى، وأشكره شكراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو سبحانه ولي كل نعمة، وبتوفيقه تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على نبيه سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه والسائرين على سنته إلى يوم الدين.

ثم امتثالاً لتوجيه النبي الكريم عليه أزكى التحية والتسليم كما جاء في الحديث النبوي الشريف ” من لا يشكر الناس، لا يشكر الله “[1]، أرى من الواجب أن أسجل جزيل شكري وفائق تقديري لكل من أولاني معروفاً بتوجيه أو تشجيع خلال إنجازي لهذا البحث، ولاسيما لأستاذي المشرف على البحث سعادة الدكتور توفيق علوان، الذي كان لتوجيهه ونصائحه الأثر الكبير في تصحيح مسار هذا البحث.

هذا ولا يفوتني في الختام أن أشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية متمثلة في القائمين عليها – لتهيئة الفرص الثمينة للدراسة، وتوفير التسهيلات التي ساعدتني على إنجاز العمل على الوجه المنشود.

لأولئك جميعاً، ولسائر أهل الفضل علي، أقدم شكري ودعائي لهم بمزيد من فضل الله تعالى وحسن الختام، إنه سميع مجيب.

تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد النبي الأمي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أرسى قواعد الدين ورسم معالم التشريع الحكيم، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

والحمد للّه الذي شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه، ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان من سبَّحت له ا لسماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها، والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال، وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت ﴿ تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [2].

وأشهد أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ والعقابُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً،وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداً وطاعةً.

إنني لن أستطيع أن ألزم الحياد في بحثي هذا عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين. ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.

ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّع، أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟ إنني أكتب عن أسوة وإمام جليل، أصلي فأذكره لأنه يقول: (( صلوا كما رأيتموني أصلي))[3]، أحجّ فأذكره لأنه يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم))[4]، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول: ((من رغب عن سنتي فليس مني))[5]، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾[6]

أسباب البحث في ها الموضوع:
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب الخلق الكريم – صلى الله عليه وسلم،ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له. ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله، لا للأشخاص. وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.

إن البحث في هذا الموضوع مِدَادُهُ دَمُ قلبي، ورقعته مُهْجَةُ نفسي، أحرره دفاعاً عن أحبِّ حبيب، وأرقُمه ذوداً عن أزكى مخلوق وأطهر بشر: محمد بن عبدالله، رسول رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين. ونتيجة لما اطلعت عليه ما تناقلته بعض وكالات الأنباء من اقتراف الصحيفة الدنمركية (جيلاندز بوستن/Jyllands-Posten) لخطأ شنيع وانحرافٍ فظيع بنشرها ( 12 ) رسماً ( كاريكاتيرياً ) أو ساخراً يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ / 30 سبتمبر 2005 تصور الرسول في أشكال مختلفة، وفي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه! وإمعاناً في غَيِّها طلبت الجريدة من الرسَّامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها.

ولما بلغني الخبر كدَّرني كثيراً وأصابني بهمٍّ كبير، وأحزنني حزناً عظيماً، وقد عمدتُ بنفسي للنظر في موقع الصحيفة المذكورة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، حتى وقفت على موقع الجريدة (Jyllands-Posten) في صفحاتها الصادرة بتاريخ 30 سبتمبر 2005م، فكان الخبر ليس كالمعاينة، حيث هالني ما رأيته، واقشعر جسمي، وبلغ بي ذلك كل مبلغ في النكير والاستهجان والامتعاض.

وهكذا كان الشأن عند عامة أهل الإسلام ممن بلغهم الخبر، حيث كان هذا العمل محل انتقاد واستهجان لديهم، ولدى غيرهم من العقلاء في أرجاء الأرض. وقد عمد إخواننا المسلمون في الدنمرك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنمركيين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمرك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ.

فكُتبت المقالات ووُجهت الرسائل إلى الحكومة الدنمركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً. وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من (5000 ) مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في العاصمة كوبنهاجن ضد الصحيفة، وما يفوق المليون شخص في دول العالم الإسلامي وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات الدنمركية ومسئولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبررات حرية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته!!.

ولا زال مسئولو صحيفة ( جيلاندز بوستن / Jyllands-Posten ) والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجم على الرسول الكريم الذي قال الله له: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [7]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدمة إليهم. فلذلك فإنه من الواجب الدفاع عن حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إننا إذا تأملنا في خلفيات هذه التهجمات فلنا أن نقول أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى البشرية. وأذكِّر الشعب الدنمركي وغيره من الشعوب النصرانية وغيرهم من أمم الأرض أن هذه السخريات ما هي إلا محض افتراء وكذب. فمحمدٌ رسول الله هو أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره هذه السخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم. ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سُمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ. ففي ” الصحيحين” عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ” ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ “. فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه”.

إن تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً، لا في رسمها، ولا في رمزها. لا في رسمها: أي ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبِشْراً وسروراً، وجه محمد له طلعةٌ آسِرَةٌ، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً. ولا في رمزها: فمحمد ما كان عابساً، ولا مكشراً، وما ضرب أحداً في حياته، لا امرأة ولا غيرها[8].

تقول عائشة زوج رسول الله، ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنْتَهَكَ حُرمة الله فينتقم لله بها ” رواه البخاري ومسلم.

وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنمركية وعلى حكومة الدنمرك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾[9].

وأدعو هؤلاء المستهزئين برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأدعو غير المسلمين لأن يشرفوا أنفسهم بالاطلاع على سيرته عليه الصلاة والسلام، ليطلعوا على كمال الإنسانية في شخصه عليه الصلاة والسلام. وقد شهد لمحمد عقلاءُ البشر ومثقفوهم، حتى من أهل الملل الأخرى، شهدوا له بالنُّبل والطهر والفضائل الجمَّة، وسأورد طرفاً من تلك الشهادات في آخر هذا البيان.

الغاية من البحث:
إن البحث في موضوع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واجب على كل مسلم في معرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أخلاقه السامية. كما أن ما حدث أخيرا، أحيا كثيرا من القضايا المتعلقة بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، كادت أن تغيب، فتموت بين الحوادث المتداخلة من حروب، واحتلال، وكوارث، وأموال وتجارات ملهية، وفتن وشهوات مفسدة، وغفلة عن الله تعالى والدار الآخرة! لقد تسبب المسيئون الى شخص الرسول الكريم في يقظة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيامها بدينها، واعتزازها بنبيها، وتعاليمه. فهمت حقيقة الصراع بين الإيمان والكفر، والولاء والبراء، وأدركت معاني الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 118 – 120] ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]. إن البحث في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز أخلاقه الكريمة غايته الإنتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن البحث في أخلاق النبي غايته محاربة ما يشاع من مثل تلك الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس. أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة،ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا، ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالإضافة الي ذلك كله فإن البحث في هذا الموضوع يهدف الي التأكيد على أربعة نقاط هامة هي كالتالي:

أولاً: دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد.
إن ادعاء صحيفة ( Jyllands-Posten ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله، ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع، لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.

وعلى الصحافيين الجديرين بصفتهم هذه أن يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها. ومن خلال الإطار العام للقانون في كل دولة). ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقاً فإننا نعتمد أيضاً على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه: (سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء).

ولا شك أن ما نشرته صحيفة (Jyllands-Posten) الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيءٌ لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلهم يعظمون رسول الله محمد.وسيبقى ذلك العمل مُسيئاً لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك – إذا لم تعالج هذه الإساءة – مصدر قرف واشمئزاز، بسبب بعض العقليات التي تقطن فيها،وتعادي الرُّسَلَ والشرائع السماوية وتسخر بها.

ثانياً: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالم إلا شقاءً.
إنه لا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح، بغياً وعدواناً، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين. فهذا المسلك يتحقق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم. وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤساً، ذلك أننا جميعاً بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام، المشوهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يَصُدُّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته. وهذا الصنف من الناس توعده الله في كتابه ونَدَّدَ بسوء فعالهم: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾[10].

وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم، مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا، بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقية نحو المقدسات.

ثالثاً: الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار.
إن تلك الإساءة التي نشرتها صحيفة (جيلاندز بوستن) لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة، الذين الذي حاربوا الأنبياء والمصلحين. وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم: فقال تعالى: ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [11]، وقال سبحانه عن اليهود: ﴿ كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ [12]، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [13].

رابعاً: الله يهدي من يشاء.
إن الصفات الحميدة، والخلق القويم، والسمات المعجزة هي التي مهدت الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخطت المصاعب.إن كثير من العالم الغربي قد شهد بإعجاز خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتميز شخصيته، وعلو شأنه، ونذكر هنا القليل من الكثير الذي ذكر:
1- يقول البروفيسور ( راما كريشنا راو ) في كتابه ” محمد النبيّ “: ” لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا “.

2- يقول المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر ) في كتابه ” الشرق وعاداته “: إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء.

3- يقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه “الشرقيون وعقائدهم”: كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبيُّ داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً، حتى مع أعدائه. وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة.

4- ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه “محمد”، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد. هذا النبيُّ الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد. وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية. وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لَوُفِّقَ في حلّ مشكلاتنا، بما يُؤَمِّنُ السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.

5- ويقول ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية، في كتابه “تاريخ حياة محمد”: إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا. فلقد خاض محمدٌ معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مُصِرَّاً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.

6- ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه “ديانة العرب”: ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.

7- ويقول (مايكل هارت) في كتابه “مائة رجل في التاريخ”: إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.

8- ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.

9- ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.

10- ويقول الفيلسوف الإنجليزي ( توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال: ” لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب،وأن محمداً خدّاع مزوِّر.

تلكم بعض أقوال مشاهير العالم، في محمد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني.

إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164] امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض،وأول من يدخل الجنة، وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، والحوض المورود، إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره، وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل، لقد شهد بفضل نبين صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو، وأنَّا لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائها، وكالشمس في إشراقها، ولعي أورد شيئاًً مما نطق به عقلاء القوم في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته وسطرته أيديهم راغبين غير راهبين، مختارين غير مكرهين -ونحن إذ نورد شيئاً من كلامهم لا نورده حاجةً منا إليهم لتزكية المقام المحمدي فقد زكاه ربه وطهره ونقَّاه، وإنما نورد ذلك من باب ﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾، ونورده – تنزلاً – مع مفتونٍ لا يقرأ إلا بالعجمية ولا يفهم إلا لغة أهلها؟!نخاطبه بلغته التي أعجب بها وهام في حبها.

المبحث الأول: الإعجاز في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولاً: طيب أصله المنيف صلى الله عليه وسلم..
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، و أحمد، و الماحي الذي يمحى به الكفر، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه، و والعاقب الذي ليس بعده نبي، و المقفي، و نبي الرحمة، و نبي التوبة، و نبي الملحمة. ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان… من ولد أسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام [14].

قال الله تعالى: ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [15]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها. يعني: في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة، صلوات الله عليهم أجمعين. فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة. أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والعاقب الذي ما بعده نبي، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، وعبد الله[16].

قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أميّاً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة وهادياً. وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من ولد إسماعيل لا محالة؛ على اختلاف كم أب بينهما.

وهذا النسب بهذه الصفة لا خلف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتمون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [17]: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم. وقد روي من طرق مرسلاً وموصولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح؛ من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وهذا رواه ابن عدي عن علي بن أبي طالب، وسند المرسل جيد. وثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه)) [18]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (302). ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))[19]، ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعله فرقتين فجلعني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً))[20]. صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.

ثانياً: الإعجاز في خلقه صلى الله عليه وسلم.
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم. فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.

لقد كان رسول الله أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة‏:‏ كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه‏.‏

كما روى البيهقي في دلائل النبوة،قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الأنباري حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب النبي فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: لن تراعوا إنه لبحر… قال فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم…

لقد كان رسول الله أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه [21]، وقال:” إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا..”[22]

وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:” ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين”[23]، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!

بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾[24]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[25]، ﴿ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾[26].

ثالثاً: خلقه صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وصف الله سبحانه وتعالى خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في أيات عديدة في القرآن الكريم منها:
1- ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق، البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.

2- ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾، لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة! وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق. لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون. إنه كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ♦♦♦ وأنت أحييت أجيالا من الرمم

3- ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير. أنت تهدي الى صراد مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك. أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك. وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام. هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت. وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.

4- ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾، لقد أدّ رسول الله الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة. بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها. بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ. بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر. بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار. بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية. بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.

5- ﴿ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.

6- ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس. كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.

7- ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا. أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا. وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم. شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل. شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران. شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة. شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس. شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.

8- ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب. فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.

9- ﴿ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ [الشرح: 3]: أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.

10- ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4] لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟ أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع. رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك. رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة. رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا. إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.

11- ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6] إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل، وتقطعت الحبال وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل. لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.

12- ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1] لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين. فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك. وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها. وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك. وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا. وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.

13- ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [27] فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه. فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.إن الله عز وجل هو المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون. فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.

المبحث الثاني
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فى القيادة والحياة
لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل فى الجنة، كما لهم الرَّفعةُ فى الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ فى الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد فى اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً.

وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾[28]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾[29]، فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ فى العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً. ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.

ولما كان جهاد أعداءِ الله فى الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه فى ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فى طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)) كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج،فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج.

فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما فى جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: ﴿ إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾ [30]. والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع فى مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها فى هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللَّهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾ [31]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ ﴾ [32]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [33]. فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: ﴿ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [34]، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ،بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ،ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم. وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته، وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ فى الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هى العليا [35].

المبحث الثالث
مواقف من خلق الرسول
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقه وكمال خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظُفْر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يحبب عادة لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة‏.‏

1-كمال النفس ومكارم الأخلاق:‏
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي‏.‏ وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة‏:‏ ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها‏.‏ وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً‏.‏ وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة‏.‏ وقال جابر‏:‏ ما سئل شيئاً قط فقال‏:‏ لا[36]‏.‏

وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي‏:‏ كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه‏.‏ قال أنس‏:‏ فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول‏:‏ ‏(‏لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا‏)‏‏.‏ وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري‏:‏ كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة‏.‏ وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف‏.‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول‏.‏ ‏(‏ما بال أقوام يصنعون كذا‏)‏‏.‏ وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له‏:‏ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏﴿ ‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏ ﴾‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏‏.‏ وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره‏.‏ كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل‏:‏ على ذبحها، وقال آخر‏:‏ على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعلي جمع الحطب‏)‏، فقالوا‏:‏ نحن نكفيك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه‏)‏، وقام وجمع الحطب‏.‏

ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال هند فيما قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه – لا بأطراف فمه – ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً – ما يطعم – ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها – سماحة – وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام‏.‏ وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره‏.‏ يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره‏.‏ الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة‏.‏

كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه‏.‏ قد ترك نفسه من ثلاث‏:‏ الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث‏:‏ لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا‏.‏ لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول‏:‏ إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ‏.‏ وقال خارجة بن زيد‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به ‏[37].‏

2-خلق الصبر عند رسو ل الله صلى الله عليه وسلم:
إنه لا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ [38]، صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [39]، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [40]، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾[41].

وصبره صلى الله عليه وسلم صبر الواثق بنصر الله، المطمئن الى وعد الله، الراكن الى مولاه، المحتسب الثواب من ربّه جلّ في علاه، وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه، يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمّد فلا ينال منه.

مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.

3-خلق الكرم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف “لا” إلا في التشهد:
كا قال “ل” قط إلا في تشهدّه ♦♦♦ لولا التشهد كانت لاؤه نعم

يعطي عليه الصلاة والسلام عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام:
تراه إذا ما جئته متهللا ♦♦♦كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتدا، قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه، وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ولا دينارا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل.

اقرأ أيضا  السيرة النبوية ومكانتها في الإسلام

4-خلق الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم:
كان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم بإحقاق الصدقة،أكملُ هَدْى في وقتها، وقدْرِها، ونِصابها، وَمَنْ تَجِبُ عليه، ومَصْرِفِها. وقد راعى فيها مصلحةَ أربابِ الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها اللَّه سبحانه وتعالى طُهرةً للمال ولصاحبه، وقيَّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمةُ بالمال على مَن أدَّى زكاتَه، بل يحفظُه عليه ويُنميه له، ويدفعُ عنه بها الآفاتِ، ويجعلُها سُوراً عليه، وحِصناً له، وحارساً له.فجعلها فى أربعة أصناف من المال: وهى أكثرُ الأموال دَوَراناً بين الخلق، وحاجتُهم إليها ضرورية.

ثم إنه أوجبها مَرَّةً كلَّ عام، وجعل حَوْل الزروع والثمار عند كمالِها واستوائها، وهذا أعدلُ ما يكون، إذ وجوبُها كلَّ شهر أو كُلَّ جمعة يضُرُّ بأرباب الأموال، ووجوبُها فى العمر مرة مما يضرُّ بالمساكين، فلم يكن أعدلَ مِن وجوبها كُلَّ عام مرة. ثم إنه فاوَتَ بين مقادير الواجب بحسب سعى أرباب الأموال فى تحصيلها، وسهولةِ ذلك، ومشقته، فأوجب الخُمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصَّلاً من الأموال، وهو الرِّكاز. ولم يعتبر له حَوْلاً، بل أوجب فيه الخُمسَ متى ظفر به.

وأوجب نصفه وهو العُشر فيما كانت مشقةُ تحصيله وتعبه وكُلفته فوقَ ذلك، وذلك فى الثمار والزروع التى يُباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولَّى اللَّه سقيها مِن عنده بلا كُلفة من العبد، ولا شراء ماءٍ، ولا إثارة بئرٍ ودولابٍ. وأوجب نِصف العُشر، فيما تولى العبد سقيَه بالكُلفة، والدَّوالى، والنواضِح وغيرها. وأوجب نِصف ذلك، وهو ربعُ العُشر، فيما كان النَّماء فيه موقوفاً على عمل متصلٍ مِن رب المال، بالضرب فى الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربص تارة، ولا ريبَ أن كُلفة هذا أعظم من كُلفة الزرع والثمار، وأيضاً فإن نمو الزرع والثمار أظهرُ وأكثر من نمو التجارة، فكان واجبُها أكثرَ من واجب التجارة، وظهورُ النمو فيما يُسقى بالسماء والأنهار، أكثرُ مما يُسقى بالدوالى والنواضح، وظهورهُ فيما وجد محصلاً مجموعاً، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع.

ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساةَ كلُّ مال وإن قلَّ، جعل للمال الذى تحتمله المواساة نُصُباً مقدَّرةً المواساة فيها، لا تُجْحِفُ بأرباب الأموال، وتقع موقِعها من المساكين، فجعل للوَرِقِ مائتى درهم، وللذهب عشرين مثقالاً، وللحبوبِ والثمار خمسةَ أوسق، وهى خمسة أحمال من أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة، وللإبل خمساً، لكن لما كان نِصابها لا يحتمل المواساة من جنسها، أوجب فيها شاة. فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمساً وعشرين، احتمل نصابُها واحداً منها، فكان هو الواجب.

ثم إنه لما قَدَّرَ سِنَّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان، بحسب كثرة الإبل وقلَّتِها من ابن مَخاض، وبنت مَخاض، وفوقه ابنُ لَبُون، وبنت لَبون، وفوقه الحِقُّ والحِقَّة، وفوقَه الجَذَعُ والجَذَعَة، وكلما كثُرت الإبلُ، زاد السِّن إلى أن يصل السِّنُ إلى مُنتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب فى مقابلة زيادة عدد المال. فاقتضت حكمته أن جعل فى الأموال قَدْراً يحتمل المواساة، ولا يُجحِفُ بها، ويكفى المساكين،ولا يحتاجُون معه إلى شئ، ففرض فى أموال الأغنياء ما يكفى الفقراء، فوقع الظلمُ من الطائفتين،الغنيُّ يمنعُ ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه، فتولَّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيم على المساكين وفاقةٌ شديدة، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف فى المسألة.

والله سبحانه تولَّى قَسْمَ الصدقة بنفسه، وجزَّأها ثمانيةَ أجزاء، يجمعُها صِنفانِ من الناس، أحدهما: مَن يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها، وكثرتِها، وقِلَّتها، وهم الفقراءُ والمساكين، وفى الرقاب، وابن السبيل. والثانى: مَن يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها، والمؤلَّفةُ قلوبُهم، والغارِمون لإصلاح ذاتِ البَيْن، والغُزاةُ فى سبيل اللَّه، فإن لم يكن الآخِذُ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له فى الزكاة [42].

5- شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا مما تناقلته الأخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.

وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[43]، وكان صدره بارزا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضّاح وثغرك باسم

وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به. وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان.

ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام وما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل:” والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل”[44]

6- زهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [45]، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:” لو كان لي كعضاة – أي شجر – تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا” [46].
وراودته الجبال الشمّ من ذهب ♦♦♦ عن نفسه فأراها أيما شمم

بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:” لا نورّث، ما تركناه صدقة” [47]، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل. إن ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.

بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل. ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:” كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل”[48]. ويروى عنه أنه قال:” ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”[49]. وقال:” مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها”[50]، وقال:” الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما”[51]، وقال:” ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت”[52]

7-تواضع محمد صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم عجيبا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه[53] يقول:” إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد”[54]، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال:”هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة”[55].

وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول:” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله”[56]، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول:” لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت”[57]

وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله: “اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين”[58]. وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول:” يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان”[59]. ويروي عن ربه أنه قال:”الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار”[60]، فكان صلى الله عليه وسلم محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم:” يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان”[61]، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال:” ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده”[62]

وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم. فصلى الله عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان.

8-الحلم عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح:” اذهبوا فأنتم الطلقاء”[63]. وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام: ﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[64].

وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾[65]، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال:”لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب”[66]، وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال:” لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر”[67]، وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال: “رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر”[68]. وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال:” من كف غضبه كف الله عنه عذابه”[69] وقال له رجل: اعدل، فقال:” خبت وخسرت إذا لم أعدل”[70]، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾[71]

وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية

9- رحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد وصفه ربه بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[72]، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال:” إنما أنا رحمة مهداة”[73]. ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال:” هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء”[74]،وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها.[75]

فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، صلى الله عليه وسلم.

كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.

وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول:”سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”[76]، ويقول:” مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت”[77]. ويقول:” لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله”[78]. وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله:” أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه”[79]. ويقول:” من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”[80]. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.

10-شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، ويكفي شجاعته مثلا أنه ما فرّ من معركة قط، وما تأخر عن القتال، وما نكص عند النزال، بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق واحمرّت الحدق وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسّرت الرماح على الجماجم، حينها تجد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس، عنده من الطمأنينة والثقة بربّه ما يكفي أمة وما يفيض على جيش.

أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة والقلوب الحاقدة يريدون روحه صلى الله عليه وسلم بأي ثمن، وهو أعزل من السلاح؟ فلما رأى تخوف أبي بكر عليه قال:” يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”[81]. وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة. ويفرّ المسلمون في حنين ولا يبقى إلا ستة من الصحابة، فيتقدم صلى الله عليه وسلم على بغلته الى جيش الكفار المدجج بالسلاح الكثير العدد القوي البأس، فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول:” شاهت الوجوه”[82]

11-الوفاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان إذا وعد وفى، فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد، ولا خيانة لعهد، مع حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة، ولكن هيهات، عاش عمره كله سلماً وحربا ورضىً وغضباً وحلاً وترحالاً، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة، فهل الصدق إلا ما كان عليه؟ وهل الأمانة إلا منه وإليه؟
لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده. لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض لميثاق. وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء، وحذّر من الخيانة ونقض الميثاق[83]، أليس هو القائل:” آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”[84].

12-الرسول صلى الله عليه وسلم معلما[85]:
بعث صلى الله عليه وسلم معلما الناس يعلم الناس مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وأشرف الخصال وأنبل السجايا. فعلّم صلى الله عليه وسلم بوعظه الذي كان يهز به القلوب فكأنه منذر جيش يقول صبّحكم ومساكم، وكان إذا وعظ علا صوته واشتدّ غضبه واحمرّت عيناه، فلا تسمع إلا بكاء ونحيبا وحنينا وأنينا وتفجّعا وتوجعّا وندما وحسرة وتوبة ورجوعا وإنابة. ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾[86] ” من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا الى الجنة”[87]، لقد علّم صلى الله عليه وسلم بخطبه القيمة الناعة في مناسبات العبادات، فكانت فيضا من الهدى ونهرا من النور، تزيد الإيمان وترفع اليقين، وعلّم صلى الله عليه وسلم بفتواه لمن سأله، فكان أفقه الناس وأعظمهم إجابة وأكثرهم إصابة، وأعرفهم بما يصلح للسائل، وعلّم صلى الله عليه وسلم بوصاياه ونصائحه التي تصل الى القلوب وتملأ النفوس تقوى وصلاحا. وعلّم بضرب الأمثال التي يعرفها الناس، وتوضيح المعاني بأمور محسوسة تقرب المعنى وتزيل الإشكال وترفع الوهم، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقصص الجذاب الخلاب الذي يثير في النفوس الإعجاب والإنصات والاستجابة، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقدوة الحية المتمثلة في سيرته العطرة وأخلاقه السامية وخصاله الجليلة التي أجمع على حسنها العقلاء وأحبها الأتقياء واقتدى بها الأولياء.

وأول كلمة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم كلمة “اقرأ”، وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة المعرفة، وأمره الله أن يقول: رب زدني علما، ولم يأمره بطلب زيادة إلا من العلم لأنه طريق الرضوان وباب التوفيق وسبيل الفلاح، وامتنّ عليه ربّه بأن علّمه ما لم يكن يعلم من المعارف الإيمانية والفتوحات الربانية والمواهب الالهية، وقال له ربه: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾[88]. فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فكان صلى الله عليه وسلم أسوة العلماء وقدوة طلبةا لعلم في الاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح، وقال:” مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث”[89]. فكانت مهمته الكبرى تعليم الكتاب والحكمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾[90]. حتى خرج من أصحابه صلى الله عليه وسلم علماء وفقهاء وحكماء ومفسرون ومحدّثون ومفتون وخطباء ومربّون ملؤوا الدنيا علما وحكما ورشدا واستفاقة.

وقد حثّ عليه الصلاة والسلام على العلم ونشره وتعليمه فقال كما في حجة الوداع:” فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع”[91]. وقال:” نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه”[92]. وقال:” بلّغوا عني ولو آية”[93]. وكانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها تعليما لأمته، فصلاته وصيامه وصدقته وحجه وذكره لربه وكلامه وقيامه وقعوده وأكله وشربه، كل هذا تعليم وأسوة لمن آمن به واتبعه، وكان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في التعليم، فما كان يلقي العلم على أصحابه جملة واحدة بل شيئا فشيئا ﴿ فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾[94]، ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾[95]، فكان يمتثل هذا في تدريسه لأصحابه، وكان يبدأ صلى الله عليه وسلم بكبار المسائل والأهم فالمهم، ويكرر المسألة حتى تفهم عنه، ويعلّم تعليما علميا بالقدوة، كالوضوء أمام الناس ليأخذوا عنه، وصلاته لهم ليصلوا كصلاته، وقوله:” صلوا كما رأيتموني أصلي”[96]. وحجه بهم وقوله:” لتأخذوا عني مناسككم” [97]

مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم[98]:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
منها وما يتعشق الكبراء
لو لم تُقم ديناً لقامت وحدها
ديناً يضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائل
يُغري بهن ويُولع الكرماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لا تفعل (الكرماء)
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً
لا يستهين بعفوك الجهلاء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هُما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة
في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته
ورضا الكثير تحلم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة
تعرو الندى وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتباب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
لجميع عهدك ذمة ووفاء
بك يا ابن عبدالله قامت سمحة
بالحق من ملف الهدى غزاء
بنيت على التوحيد وهي حقيقة
نادى بها الحكماء والعقلاء
الله فوق الخلق فيها وحده
والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شوى والحقوق قضاء
اتصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها
ما لم ينل في رومة الفقهاء
صل عليك الله ما صحب الدجى
حاد وحنت بالفلا وجناء

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ[99]:
بِطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ
مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرَّسُومُ وَتَهْمُدُ
وَلَا تَمْتَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ
بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ
وَوَاضِحُ آثَارٍ وَبَاقِي مَعَالِمَ
وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلًّى وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا
مِنْ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ
مَعَارِفُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِآيُهَا
أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ
وَقَبْرًا بِهَا وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي الرَّسُولَ فَأَسْعَدَتْ
عُيُونٌ وَمِثْلَاهَا مِنْ الْجَفْنِ تُسْعَدُ
يُذَكِّرْنَ آلَاءَ الرَّسُولِ وَمَا أَرَى
لَهَا مُحْصِيًا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَّدُ
مُفَجَّعَةً قَدْ شَفَّهَا فَقْدُ أَحْمَدَ
فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تُعَدِّدُ
وَمَا بَلَغَتْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ عَشِيرَهُ
وَلَكِنْ لِنَفْسِي بَعْدَ مَا قَدْ تَوَجَّدُ
أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنَ جُهْدَهَا
عَلَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ
فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَتْ
بِلَادٌ ثَوَى فِيهَا الرَّشِيدُ الْمُسَدَّدُ
وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمَّنَ طَيِّبًا
عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدُ
تَهِيلُ عَلَيْهِ التُّرَبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٍ
عَلَيْهِ وَقَدْ غَارَتْ بِذَلِكَ أَسْعَدُ
لَقَدْ غَيَّبُوا حُلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً
عَشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لَا يُوَسَّدُ
وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ
وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمَوَاتُ يَوْمَهُ
وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكَمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ
رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ؟
تَقَطَّعُ فِيهِ مَنْزِلُ الْوَحْيِ عَنْهُمُ
وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنَجَّدُ
يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ
وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
إمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمُ الْحَقَّ جَاهِدًا
مُعَلِّمُ صِدْقٍ إنْ يُطِيعُوهُ يُسْعَدُوا
عَفْوٌ عَنْ الزَّلَّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
وَإِنَّ يُحْسِنُوا فَاَللَّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ
فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يُتَشَدَّدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ
دَلِيلٌ بَهْ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنْ الْهُدَى
حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنَّى جنَاحَهُ
إلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي ذَلِكَ النُّورِ إذْ غَدَا
إلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنْ الْمَوْتِ مُقْصِدُ
فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إلَى اللَّهِ رَاجِعًا
يُبَكِّيهِ حَقُّ الْمُرْسَلَاتِ وَيُحْمَدُ
وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحُرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهَا
لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنْ الْوَحْيِ تُعْهَدُ
قِفَارًا سِوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا
فَقِيدٌ يُبَكِّينَهُ بَلَاطٌ وَغَرْقَدُ
وَمَسْجِدُهُ فَالْمُوحِشَاتُ لِفَقْدِهِ
خَلَاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَامٌ وَمَقْعَدُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ أَوْحَشَتْ
دِيَارٌ وَعَرَصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ
فَبَكِّي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَة
وَلَا أَعْرِفَنَّكِ الدَّهْرَ دَمْعُكَ يُجْمَدُ
وَمَا لَكِ لَا تَبْكِينَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِي
عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يُتَغَمَّدُ
فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَأَعْوِلِي
لِفَقْدِ الَّذِي لَا مِثْلُهُ الدَّهْرَ يُوجَدُ
وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ
وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ
وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا يُنَكَّدُ
وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ
إذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ
وَأَكْرَمَ صِيتًا فِي الْبُيُوتِ إذَا انْتَمَى
وَأَكْرَمَ جَدًّا أَبْطَحِيًّا يُسَوَّدُ
وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَا
دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ
وَأَثْبَتَ فَرْعًا فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبَتًا
وَعُودًا غَذَّاهُ الْمُزْنُ فَالْعُودُ أَغْيَدُ
رَبَّاهُ وَلِيدًا فَاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ
عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدٌ
تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّهِ
فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ
أَقُولُ وَلَا يُلْقَى لِقَوْلِيَ عَائِبٌ
مِنْ النَّاسِ إلَّا عَازِبُ الْعَقْلِ مُبْعَدُ
وَلَيْسَ هَوَايَ نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ
لَعَلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخْلَدُ
مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ
وَفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجْهَدُ

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، عن أنس رضي الله عنه قال” كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا” – الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت “ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم” – رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. قال تعالى مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[100]

قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم. فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً،فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.

عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا -رواه البخاري.

أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه: كف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه وغيره. على الرغم من حُسن خلقه حيث كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام. عن عائشة رضي الله عنها قالت “كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي” – رواه أحمد ورواته ثقات. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول “اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق” – رواه أبو داود والنسائي.

13-عدل النبي صلى الله عليه وسلم:
كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين. قال تعالى: ﴿ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾[101] كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة – رضي الله عنها – غيورة.
فعن أم سلمة – رضي الله عنها أنها – أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة، ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أُمكم – مرتين – ) ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة. رواه النسائي وصححه الألباني. قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت: (‏والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد‏،‏ لقطعت يدها‏).

14- عفو النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال “كان النبي صلى الله عليه وسلم من احسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟ قلت نعم، أنا أذهب يا رسول الله – فذهبت” رواه مسلم وأبو داود.

فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه إن الله تعالى قالى: (… وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه…) رواه البخاري.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه – صلوات ربي وسلامه عليه – ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.

فعن عبدالله بن الشخير – رضي الله عنه – قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن عائشة – رضي الله عنها ـ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.

وكان مـن تمثله صلى الله عليه وسلم للقرآن أنه يذكر الله تعالى كثيراً، قال عز وجل: ﴿وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [102]، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾[103]، ومن تخلقه صلى الله عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)[104]

لقد كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه. وعن عائشة – رضي الله عنها – أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)[105]

المبحث الرابع
شخصية غربية غيرت تاريخ الغرب (أودلف هتلر).
لا شك أنه من الغير العدل محاولة مقارنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصية أخرى مهما كان لها وضعها أو تأثيرها في التاريخ. فإنه ظلم للشخصية أن يتم مقارنتها بشخصية الرسول العظيمة فتبدو صغيرة وتافهة عند مقارنتها مع شخصية غيرت مسيرة الحياة الإنسانية ومصير الإنسان على الأرض. فعلى الرغم من أن أدولف هتلر لم يكن رجلا ً عاديا ً كي تلفه عجلة الزمن، و تنثره وراءها غبارا ً تضيع أثاره في أرجاء الكون الفسيح، و ليس أدولف هتلر ملكا ً للشعب الألماني وحده، وإنه واحد من العظماء القلائل الذين كادوا يوقفون سير التاريخ و يبدلون إتجاهه و يغيرون شكل العالم، فهو إذن ملك التاريخ، و لئن يكن هتلر الجندي لم يخلف وراءه سوى اسطورة يشوبها واقع هوة المأساة بعينها: مأساة دولة إنهارت أحلامها و نظام حكم تقوضت دعائمه و حزب تفرقت أركانه. إن ذكر شخص مثل أودلف هتلر ومثاليتها وشأنها عن الغرب لهو دليل واضح لإعجاز خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه في العالمين.

سيرته الشخصية:
لقد ولد أدولف هتلر في مساء 2 أبريل 1889 م، في قرية نمساوية صغيرة تسمى ( لبرونو )،وكان أبوه ألويس هتلر، يعمل موظف جمارك و كان ذا مسلك مثالي – كما يصفه هتلر -، أما والدته كلارا فقد كانت إبنة لأحد المزارعين، في السادسة من عمره دخل في مدارس التعليم الحكومية، و حصل على درجات عالية أثناء دراسته في المراحل الأولى، إلا أن مستواه الدراسي هبط في المراحل الأخيرة من التعليم العام.. يقول هتلر عن نفسه: ( في علاقاتي مع رفاقي بدأت أفكاري الشخصية تطبع تصرفاتي بطابع ٍ خاص، و على الرغم من حداثة سني، رحت أفكر في المستقبل، فما استهوتني مهنة و لا حرفة و ما راودني قط ميل إلى السير على منوال والدي، فقد بدت لي الوظيفة و كأنها حبل يشد المرء دائما ً إلى أسفل. و خيل لي في كل مرة كنت أحاول إقناع رفاقي بما يبدو لي صوابا ً؛ بأنني خلقت محرضا و قائدا ً )[106].

بعد أن إنتهى هتلر من الثانوية في العام 1907 م، كان لديه ميول شديد لدراسة الفنون الجميلة، فتوجه إلى فيينا، و حاول الإلتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة هناك، لكنه فشل في اختبار القبول.. و حاول مرة أخرى و فشل أيضا ً.. فسأل عميد الأكاديمية عن السبب فقال أنه يلمس من رسوماته ميلا ً أكبر لهندسة البناء لا للرسم الحر، و نصحه بالإلتحاق بكلية الهندسة.. لم يقتنع هتلر.. فعاد إلى قريته، و في تلك الأثناء ألم بوالدته مرض عضال، سرعان ما خطف روحها..

وفي عام 1919 م، انضم هتلر إلى حزب يميني متطرف في موينخ يُسمى ( حزب العمال الألماني )، وغير اسمه إلى ( حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي ). وأصبحت هذه الجماعات تعرف بعد ذلك باسم: ( الحزب النازيّ ). دعا النازيون إلى اتحاد جميع الألمان في أمة واحدة، كما دعوا إلى إلغاء معاهدة فرساي، التي وقعتها ألمانيا بعد الحرب. كان هتلر سياسياً ومنظماً ماهراً، لذلك لقب بـ: ( الفوهرر ) أي القائد، كما نظّم جيشاً بالحزب خاصاً سماه (جنود العاصفة). قاد الحزب النازي محاولة انقلاب سياسي في نوفمبر 1923 م، وفشلت المحاولة وحكم على هتلر بالسجن لمدة 5 أعوام قضى منها عام واحد ثم أفرج عنه. وخلال هذا العام بدأ في تأليف كتابه ( كفاحي )، الذي ضمنه مبادئ الحركة النازية، وقد أكمله في 1927م.

بدأ نجم هتلر في السطوع في 1928 م، عندما فاز حزبه باثني عشر مقعداً في مجلس النواب، وفي عام 1930 م، حدثت أزمة الكساد الاقتصادي العالمي، فأستغلها هتلر بوعود قطعها لرجال الصناعة الألمانية تضمنت حمايتهم من المد الشيوعي. كان من نتائج هذه السياسة أن ارتفع عدد أعضاء حزبه في المجلس إلى 106 أعضاء، وبرزت شخصية هتلر والتفت حولها الجماهير. وفي 13 يناير 1933 م، عين الرئيس الألماني هندبنرغ، هتلر، مستشاراً ( رئيساً للوزراء )، فأخذ يعمل على القضاء على خصوم النازية من الشيوعيين والاشتراكيين واليهود، مستخدماً وسائل مبتكرة في الدعاية. و بدأ الآن بتحقيق أهدافه القومية. وفي منتصف يوليو 1933 م، حظرت الحكومة حرية الصحافة المعارضة للأهداف القومية و الوطنية للحزب النازي، وجميع نقابات العمال والأحزاب السياسية المضادة، وكان الجستابو (الشرطة السرية) يطارد الأعداء والمعارضين للحكومة، برقابة شديدة، عجزوا معها عن فعل أي شيء.

وفي أغسطس 1934م، توفي الرئيس الألماني هندبنرغ، فحكم هتلر ألمانيا جميعها، وأطلق على نفسه لقب ( فوهرر – أندر رايخسكانزلر)؛ أي زعيم ألمانيا ومستشارها. ومنذ عام 1933، و هتلر يُعدْ ألمانيا للحرب، لتكون زعيمة للعالم. وفي عام 1936 م، أرسل هتلر قواته إلى منطقة الراين حيث حقق أول انتصاراته الإقليمية دون قتال. وفي مارس 1938 م، اجتاحت قوات هتلر النمسا، فأصبحت جزءاً من ألمانيا. و عاد الفرع إلى الأصل، و تحقق هدف هتلر الأول، فجمع الأمة الألمانية تحت راية واحدة هي ألمانيا الأم.

في الأول من سبتمبر 1939 م، اجتاحت ألمانيا بولندا بتحد ٍ سافر. فأعلنت – بعد يومين – كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا. ثم اكتسحت جيوش هتلر بولندا خلال أسابيع قليلة. وفي ربيع 1940 م، هزمت جيوش هتلر – بسهولة – الدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرج وفرنسا. وواصلت بريطانيا الحرب منفردة، وتمكنت من الصمود ضد عدد كبير من الغارات الجوية الألمانية. وكانت تلك بداية الحرب العالمية الثانية.

وفي أبريل 1941 م، غزت الجيوش الألمانية اليونان ويوغوسلافيا. فحدث تحالف بين أيطاليا و اليابان و ألمانيا مقابل التحالف الفرنسي البريطاني الأمريكي السوفييتي.. وفي يونيو من نفس العام، بدأ هتلر الهجوم على روسيا، واستولى على مساحات شاسعة من الاتحاد السوفيتي. غير أن السوفيت تمكنوا من سحق جيش ألماني قوامه 300 ألف رجل، خلال معركة ( ستالينجراد ) التي استمرت خمسة شهور ( خلال عامي 1942، 1943 م ). وكانت هزيمة ألمانيا نقطة تحول رئيسية في الحرب. كما أن القوات الألمانية انهزمت أمام الإنجليز في معركة العلمين في مصر، في النصف الثاني من عام 1942 م. ثم أخذ الجيش الألماني بالإنكسار حتى تراجع إلى ألمانيا فقط في العام 1945 م بعد خمس سنوات من القتال راح ضحيته ملايين البشر و أستخدمت فيه لأول مرة في التاريخ القنبلة النووية، لم يحتمل الفوهرر أدولف هتلر أصداء الهزيمة و إنهيار المخططات فأنتحر في مركز قيادته مع عشيقته ( إيفان براون ) تحت الأرض في 30 / نيسان / 1945 م، وبعد سبعة أيام أعلنت ألمانيا الإستسلام[107].

أقوال مؤثورة لهتلر:
1- (… لست أدري أيهما روعني أكثر من الآخر: بؤس سواد الشعب المادي، أم إنخفاض مستواه الخلقي؟ فقد لاحظت إنعدام الشعور بالواجب في اوساط العمال و الصناع فرب العائلة يهمل شؤون بيته و لا يهتم بتربية أولاده، لأن تحصيل الكفاف أو ما دون الكفاف يستأثر بإهتمامه. و إنعدام التربية البيتية في مجتمع كالمجتمع النمسوي، يؤدي حتما ً إلى استرخاء الوشائج التي تشد الأبناء إلى الأباء، و تشد بالتالي العائلة إلى الدولة.. مع العلم بأن الفقر هو صنو الجهل و صنو المرض، و متى ما اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة، و مات في النفوس كل شعور وطني… ).

2- (… كل طهارة يدعيها اليهود، هي طهارة ذات طابع خاص، فبعدهم عن النظافة يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي. و لقد أضطررت لسد أنفي في كل مرة ألتقي بها أحد اليهود، لأن الرائحة التي تنبعث من أردانهم تنم عن العداء المستحكم بينهم و بين الماء و الصابون و لكن قذارتهم المادية ليست شيئا ً مذكورا ً بالنسبة إلى قذارة نفوسهم.. فقد اتشفت مع الأيام أنه ما من فعل مغاير للأخلاق، و مامن جريمة بحق المجتمع، إلا و لليهود فيها يد طولى… ) ومن هذه المقولة يتبن التناقض في الشخصية والكفر بالديانات وعدم أحترام حقوق الإنسان.

3- (… أدركت أن العنف و الإرهاب هما سلاح الإشتراكية الديموقراطية، تشهره في وجوه الذين لا يجارونها، و أن تكتيكها في محاربة خصومه يقوم على تشويه سمعتهم بحملة من التشنيع تحطم أعصابهم، و قد تساءلت أكثر من مرة: لم َ لا يقوم في البلاد حزب أو حركة تقطع الطريق على الإشتراكية الديموقراطية بإعتمادها للتكتيك نفسه، جاعلة العنف و الإرهاب و سيلة لفرض عقيدتها و تخويف خصومها؟… ) ويظهر من هذه الكلمات إعتناقه للعنف والإرهاب والقتل وانتهاك الإنسانية.

4- (… إن ما نسميه ” الرأي العام ” لا يرتكز دائما ً على الخبرة الشخصية،و معرفة الأفراد معرفة حقيقية… فهو في الغالي خاضع لتأثير الصحافة التي تتولى تنشئة الجمهور سياسيا ً بما تنشر من أخبار و تبث من آراء… و قد أدهشتني السهولة التي يستطيع بها أرباب الصحافة أن يخلقوا تيارا ً معينا ً و أن يوجهوا الجمهور إلى وجهة تتعارض في بعض الاحيان مع مصلحة الجماعة، ففي بضعة أيام بإمكان الصحافة أن تجعل من حادث تافه قضية خطيرة تهز الدولة، و يمكنها كذلك أن تسدل الستار على القضايا الحيوية فلا يلبث الجمهور أن ينساها… ) يظهر من ه>ه المقولة إنكاره للشورى وإحقاق الحق وانقياده للأهواء الشخصية التي يعمل على تنفيذها رغم أنف المجتمع!.

5- (… الدولة هي واسطة لغاية ما.و غايتها هي الحفاظ على جماعة من البشر ينتمون، روحيا ً و ماديا ً، إلى عنصر واحد، إلى جانب توفيرها أسباب النمو لهذه الجماعة..) من هذه المقولة يظهر إعتناقه لفكره العنصرية التي ينبذها الإسلام، حيث لا يفرق الإسلام بين الشعوب ونوع الإنسان، بل يدعوا الى التوحيد والإجتماع وسيادة التعاون وروح المحبة في المجتمع.

أدولف هتلر يعتبر أكبر شرير عرفته الأنسانية وصاحب أضخم مجزرة بشرية شهدها العالم منذ من هذه اللمحة على حياه شخصية غربية غيرت مجري التاريخ الغربي ونقشت على تاريخها وصمة العار الذي يتغنى به ومازالت تعلق صوره وتعتز به. إن شخصيه في الواقع وإهتمامهم به على الرغم من المجازر والكوارث التي تسبب فيها، لدافع قوى لبيان مسيرة وهدى الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار شأنه لعل الغشاوة تسقط عن أعينهم، ويظهر لهم نور الإيمان ويقين الحق.

الخاتمة:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال‏: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[108]، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً‏.‏

وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن‏.

قد أتينا في هذا البحث على أخلاق من الشمائل المحمدية، وجمل من علامات نبوته مقنعة، في واحدة منها الكفاية والغنية، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا، واقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض وفص المقصد، ومن كثير الأحاديث وغريبها على ما صح واشتهر، وحذفنا الإسناد في جمهورها، طلباً للإختصار. وبحسب هذا البحث لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة. ومعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين: أحدهما: كثرتها، وأنه لم يؤت نبي معجزةً إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها. وقد نبه الناس على ذلك، فإن أردته فتأمل أخلاق من تقدم من الأنبياء.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد‏.‏ اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد‏.‏

________________________________________

[1] – رواه الترمذي في باب ما جاء في الشرك لمن أحسن إليك، وقال: هذا حديث صحيح.( سنن الترمذي بشرح تحفه الأحوذي: 6/87).
[2] – سورة الإسراء: الاية 44ا.
[3] -صحيح البخاري 631
[4] – صحيح مسلم 1297
[5] – صحيح البخاري 5063، صحيح مسلم 1401
[6] – سورة الأحزاب، الأية 21.
[7] – سورة الأنبياء: الأية 107.
[8] – الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 197.
[9] – سورة يس: الاية30
[10] – سورةإبراهيم: الآية 3].
[11] -سورة آل عمران:الأية 184
[12] – سورة المائدة:الآية 70
[13] – سورة الأنعام: الايتين 33 -34.
[14] – الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 214.
[15] – سورة الأنعام: الآية 124.
[16] – القول الأقوم، في معجزات النبي الأكرم،أبو يوسف محمد زايد،
[17] – سورة الشورى:الأية 23
[18] -خرج في الأحاديث الصحيحة،809.
[19] -صحيح السيرة النبوية، للحافظ ابن كثير، الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية،عمان، الأردن، ص 15.
[20] -صحيح السيرة النبوية، ما صحّ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه، وغزواته وسراياه والوفود إليه، للحافظ ابن كثير، محمد ناصر الدين الألباني،الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية، عمان، ص 15.
[21] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 9.
[22] – أخرجه البخاري 6094 ومسلم 2607 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[23] – أخرجه أبو داود 4359، والنسائي 4067
[24] – سورة الأحزاب: الأية 8
[25] – سورة التوبة: الأية 119.
[26] – سورة محمد: الأية 21.
[27] – سورة محمد، الاية 19
[28] -سورة الفرقان:الأية 51-52.
[29] -سورة التوبة: الآية 73.
[30] -سورة فاطر: الأية 6
[31] – سورة الفرقان: الآية: 20.
[32] -سورة محمد:الآية 4.
[33] -سورة محمد: الاية 31
[34] – سورة الأنفال: الأية 12.
[35] – زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثالث،ص 3
[36] – نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد الخضري بك، المكتبة العصرية، بيروت،2003م، ص 298.
[37] – الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري،
[38] – سورةالنحل: الآية 127
[39] – سورة طه، الأية 130
[40] – سورة يوسف، الأية 18
[41] – سورة الأحقاف، الاية 35
[42]- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثاني،ص3
[43] – سورةالنساء، الآية 84
[44] – أخرجه البخاري [36،2797] ومسلم 1876 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[45] – سورة الضحى، الأية 5
[46] – أخرجه مالك في الموطأ 977، والطبراني في الأوسط 1864 والكامل لابن عدي 3\97.
[47] – أخرجه البخاري [3039، 3712]، ومسلم برقم 1758
[48] -أخرجه البخاري 6416 عن ابن عمر رضي الله عنهما

[49] – أخرجه ابن ماجه 4102 والطبراني في الكبير 10522 والحاكم 7833 عن سهل بن سعد الساعدي

[50] -أخرجه أحمد [3701، 4196] والترمذي 2377، وابن ماجه 4109 عن عبدالله بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح

[51] – أخرجه الترمذي 2322 وابن ماجه 4112 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[52] -أخرجه مسلم 2958.

[53] – هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يامحب، أبو بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والجكم بالمدينة المنورة، طبعة خاصة، ص 425.

[54] – أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371.

[55] – أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286.

[56] – أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهما

[57] – أخرجه البخاري [2568، 5178].

[58] – أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري.

[59] – أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236

[60] – أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له

[61] – أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806

[62] – أخرجه أحمد [1842، 2557] والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[63] – أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815.

[64] – أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.

[65] – سورة الحجر الأية 85

[66] – أخرجه البخاري، 6116.

[67] – أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.

[68] – أخرجه البخاري [ 3150، 3405] ومسلم 1062.

[69] – أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298.

[70] – أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله

[71] -سورة المؤمنون،الأية 96

[72] – الأنبياء، الأية 107

[73] – أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه.

[74] – أخرجه البخاري [ 1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

[75] – أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه.

[76] – أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[77] – أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه

[78] – أخرجه أحمد [ 17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279

[79] – أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ [القيامة: 16]، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[80] – أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[81] – أخرجه البخاري [ 3653، 4663] ومسلم 2381 عن أبي بكر رضي الله عنه

[82] – أخرجه مسلم 1777 عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه.

[83] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 1422 هـ – 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 35.

[84] – أخرجه البخاري [ 33، 2682] ومسلم 59 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[85] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 1422 هـ – 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 65.

[86] -سورة النساء، الأية 112.

[87] – أخرجه مسلم 2699 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[88] – سورة محمد، الأية 19

[89] – أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282

[90] -سورة البقرة، الأية 129

[91] – أخرجه البخاري [1741، 7078] ومسلم 1679 عن أبي بكرة رضي الله عنه

[92] – أخرجه الترمذي 2658 عن ابن مسعود رضي الله عنه.

[93] – أخرجه البخاري 3461 عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما

[94] – سورة الاسراء، الأية 106

[95] – سورة الفرقان، الاية 22

[96] – أخرجه البخاري 631 عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه

[97] – أخرجه مسلم 1297 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

[98] – قطوف من الشمائل المحمدية والأخلاق النبوية والآداب الإسلامية، محمد بن جميل زينو

[99] – السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ لِابْنِ هِشَام، السيرة النبوية لابن هشام

[100] – سورة القلم: الآية 4

[101] – سورة النساء: الاية 135

[102] – سورة الأحزاب: الأية 35

[103] – سورة البقرة: الآية 152

[104] – أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.

[105] – رواه النسائي وصححه الألباني.

[106] – كفاحي. أدولف هتلر، ترجمة: لويس الحاج، دار بيسان للنشر و التوزيع.

[107]- كفاحي. أدولف هتلر، ترجمة: لويس الحاج، دار بيسان للنشر و التوزيع.

[108] – ‏ سورة ‏القلم‏: الآية‏ 4‏
الألوكة

الإثنين 24 شوال 1436//10 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أمل حميد محمد العوفي
أخلاق خاتم الأنبياء وإعجازها
شكر وتقدير
الحمد لله تبارك وتعالى حمداً كما يحب ويرضى، وأشكره شكراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو سبحانه ولي كل نعمة، وبتوفيقه تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على نبيه سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه والسائرين على سنته إلى يوم الدين.

اقرأ أيضا  أيها المسلمون اغتنموا رمضان قبل فوات الأوان

ثم امتثالاً لتوجيه النبي الكريم عليه أزكى التحية والتسليم كما جاء في الحديث النبوي الشريف ” من لا يشكر الناس، لا يشكر الله “[1]، أرى من الواجب أن أسجل جزيل شكري وفائق تقديري لكل من أولاني معروفاً بتوجيه أو تشجيع خلال إنجازي لهذا البحث، ولاسيما لأستاذي المشرف على البحث سعادة الدكتور توفيق علوان، الذي كان لتوجيهه ونصائحه الأثر الكبير في تصحيح مسار هذا البحث.

هذا ولا يفوتني في الختام أن أشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية متمثلة في القائمين عليها – لتهيئة الفرص الثمينة للدراسة، وتوفير التسهيلات التي ساعدتني على إنجاز العمل على الوجه المنشود.

لأولئك جميعاً، ولسائر أهل الفضل علي، أقدم شكري ودعائي لهم بمزيد من فضل الله تعالى وحسن الختام، إنه سميع مجيب.

تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد النبي الأمي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أرسى قواعد الدين ورسم معالم التشريع الحكيم، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

والحمد للّه الذي شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه، ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان من سبَّحت له ا لسماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها، والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال، وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت ﴿ تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [2].

وأشهد أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ والعقابُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً،وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداً وطاعةً.

إنني لن أستطيع أن ألزم الحياد في بحثي هذا عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين. ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.

ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّع، أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟ إنني أكتب عن أسوة وإمام جليل، أصلي فأذكره لأنه يقول: (( صلوا كما رأيتموني أصلي))[3]، أحجّ فأذكره لأنه يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم))[4]، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول: ((من رغب عن سنتي فليس مني))[5]، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾[6]

أسباب البحث في ها الموضوع:
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب الخلق الكريم – صلى الله عليه وسلم،ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له. ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله، لا للأشخاص. وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.

إن البحث في هذا الموضوع مِدَادُهُ دَمُ قلبي، ورقعته مُهْجَةُ نفسي، أحرره دفاعاً عن أحبِّ حبيب، وأرقُمه ذوداً عن أزكى مخلوق وأطهر بشر: محمد بن عبدالله، رسول رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين. ونتيجة لما اطلعت عليه ما تناقلته بعض وكالات الأنباء من اقتراف الصحيفة الدنمركية (جيلاندز بوستن/Jyllands-Posten) لخطأ شنيع وانحرافٍ فظيع بنشرها ( 12 ) رسماً ( كاريكاتيرياً ) أو ساخراً يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ / 30 سبتمبر 2005 تصور الرسول في أشكال مختلفة، وفي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه! وإمعاناً في غَيِّها طلبت الجريدة من الرسَّامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها.

ولما بلغني الخبر كدَّرني كثيراً وأصابني بهمٍّ كبير، وأحزنني حزناً عظيماً، وقد عمدتُ بنفسي للنظر في موقع الصحيفة المذكورة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، حتى وقفت على موقع الجريدة (Jyllands-Posten) في صفحاتها الصادرة بتاريخ 30 سبتمبر 2005م، فكان الخبر ليس كالمعاينة، حيث هالني ما رأيته، واقشعر جسمي، وبلغ بي ذلك كل مبلغ في النكير والاستهجان والامتعاض.

وهكذا كان الشأن عند عامة أهل الإسلام ممن بلغهم الخبر، حيث كان هذا العمل محل انتقاد واستهجان لديهم، ولدى غيرهم من العقلاء في أرجاء الأرض. وقد عمد إخواننا المسلمون في الدنمرك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنمركيين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمرك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ.

فكُتبت المقالات ووُجهت الرسائل إلى الحكومة الدنمركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً. وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من (5000 ) مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في العاصمة كوبنهاجن ضد الصحيفة، وما يفوق المليون شخص في دول العالم الإسلامي وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات الدنمركية ومسئولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبررات حرية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته!!.

ولا زال مسئولو صحيفة ( جيلاندز بوستن / Jyllands-Posten ) والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجم على الرسول الكريم الذي قال الله له: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [7]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدمة إليهم. فلذلك فإنه من الواجب الدفاع عن حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إننا إذا تأملنا في خلفيات هذه التهجمات فلنا أن نقول أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى البشرية. وأذكِّر الشعب الدنمركي وغيره من الشعوب النصرانية وغيرهم من أمم الأرض أن هذه السخريات ما هي إلا محض افتراء وكذب. فمحمدٌ رسول الله هو أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره هذه السخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم. ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سُمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ. ففي ” الصحيحين” عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ” ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ “. فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه”.

إن تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً، لا في رسمها، ولا في رمزها. لا في رسمها: أي ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبِشْراً وسروراً، وجه محمد له طلعةٌ آسِرَةٌ، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً. ولا في رمزها: فمحمد ما كان عابساً، ولا مكشراً، وما ضرب أحداً في حياته، لا امرأة ولا غيرها[8].

تقول عائشة زوج رسول الله، ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنْتَهَكَ حُرمة الله فينتقم لله بها ” رواه البخاري ومسلم.

وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنمركية وعلى حكومة الدنمرك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾[9].

وأدعو هؤلاء المستهزئين برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأدعو غير المسلمين لأن يشرفوا أنفسهم بالاطلاع على سيرته عليه الصلاة والسلام، ليطلعوا على كمال الإنسانية في شخصه عليه الصلاة والسلام. وقد شهد لمحمد عقلاءُ البشر ومثقفوهم، حتى من أهل الملل الأخرى، شهدوا له بالنُّبل والطهر والفضائل الجمَّة، وسأورد طرفاً من تلك الشهادات في آخر هذا البيان.

الغاية من البحث:
إن البحث في موضوع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واجب على كل مسلم في معرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أخلاقه السامية. كما أن ما حدث أخيرا، أحيا كثيرا من القضايا المتعلقة بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، كادت أن تغيب، فتموت بين الحوادث المتداخلة من حروب، واحتلال، وكوارث، وأموال وتجارات ملهية، وفتن وشهوات مفسدة، وغفلة عن الله تعالى والدار الآخرة! لقد تسبب المسيئون الى شخص الرسول الكريم في يقظة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيامها بدينها، واعتزازها بنبيها، وتعاليمه. فهمت حقيقة الصراع بين الإيمان والكفر، والولاء والبراء، وأدركت معاني الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 118 – 120] ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]. إن البحث في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز أخلاقه الكريمة غايته الإنتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن البحث في أخلاق النبي غايته محاربة ما يشاع من مثل تلك الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس. أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة،ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا، ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالإضافة الي ذلك كله فإن البحث في هذا الموضوع يهدف الي التأكيد على أربعة نقاط هامة هي كالتالي:

أولاً: دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد.
إن ادعاء صحيفة ( Jyllands-Posten ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله، ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع، لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.

وعلى الصحافيين الجديرين بصفتهم هذه أن يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها. ومن خلال الإطار العام للقانون في كل دولة). ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقاً فإننا نعتمد أيضاً على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه: (سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء).

ولا شك أن ما نشرته صحيفة (Jyllands-Posten) الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيءٌ لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلهم يعظمون رسول الله محمد.وسيبقى ذلك العمل مُسيئاً لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك – إذا لم تعالج هذه الإساءة – مصدر قرف واشمئزاز، بسبب بعض العقليات التي تقطن فيها،وتعادي الرُّسَلَ والشرائع السماوية وتسخر بها.

ثانياً: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالم إلا شقاءً.
إنه لا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح، بغياً وعدواناً، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين. فهذا المسلك يتحقق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم. وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤساً، ذلك أننا جميعاً بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام، المشوهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يَصُدُّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته. وهذا الصنف من الناس توعده الله في كتابه ونَدَّدَ بسوء فعالهم: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾[10].

وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم، مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا، بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقية نحو المقدسات.

ثالثاً: الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار.
إن تلك الإساءة التي نشرتها صحيفة (جيلاندز بوستن) لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة، الذين الذي حاربوا الأنبياء والمصلحين. وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم: فقال تعالى: ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [11]، وقال سبحانه عن اليهود: ﴿ كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ [12]، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [13].

رابعاً: الله يهدي من يشاء.
إن الصفات الحميدة، والخلق القويم، والسمات المعجزة هي التي مهدت الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخطت المصاعب.إن كثير من العالم الغربي قد شهد بإعجاز خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتميز شخصيته، وعلو شأنه، ونذكر هنا القليل من الكثير الذي ذكر:
1- يقول البروفيسور ( راما كريشنا راو ) في كتابه ” محمد النبيّ “: ” لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا “.

2- يقول المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر ) في كتابه ” الشرق وعاداته “: إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء.

3- يقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه “الشرقيون وعقائدهم”: كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبيُّ داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً، حتى مع أعدائه. وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة.

4- ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه “محمد”، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد. هذا النبيُّ الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد. وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية. وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لَوُفِّقَ في حلّ مشكلاتنا، بما يُؤَمِّنُ السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.

5- ويقول ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية، في كتابه “تاريخ حياة محمد”: إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا. فلقد خاض محمدٌ معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مُصِرَّاً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.

6- ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه “ديانة العرب”: ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.

7- ويقول (مايكل هارت) في كتابه “مائة رجل في التاريخ”: إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.

8- ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.

9- ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.

10- ويقول الفيلسوف الإنجليزي ( توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال: ” لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب،وأن محمداً خدّاع مزوِّر.

تلكم بعض أقوال مشاهير العالم، في محمد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني.

إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164] امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض،وأول من يدخل الجنة، وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، والحوض المورود، إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره، وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل، لقد شهد بفضل نبين صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو، وأنَّا لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائها، وكالشمس في إشراقها، ولعي أورد شيئاًً مما نطق به عقلاء القوم في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته وسطرته أيديهم راغبين غير راهبين، مختارين غير مكرهين -ونحن إذ نورد شيئاً من كلامهم لا نورده حاجةً منا إليهم لتزكية المقام المحمدي فقد زكاه ربه وطهره ونقَّاه، وإنما نورد ذلك من باب ﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾، ونورده – تنزلاً – مع مفتونٍ لا يقرأ إلا بالعجمية ولا يفهم إلا لغة أهلها؟!نخاطبه بلغته التي أعجب بها وهام في حبها.

المبحث الأول: الإعجاز في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولاً: طيب أصله المنيف صلى الله عليه وسلم..
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، و أحمد، و الماحي الذي يمحى به الكفر، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه، و والعاقب الذي ليس بعده نبي، و المقفي، و نبي الرحمة، و نبي التوبة، و نبي الملحمة. ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان… من ولد أسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام [14].

قال الله تعالى: ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [15]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها. يعني: في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة، صلوات الله عليهم أجمعين. فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة. أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والعاقب الذي ما بعده نبي، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، وعبد الله[16].

قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أميّاً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة وهادياً. وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من ولد إسماعيل لا محالة؛ على اختلاف كم أب بينهما.

وهذا النسب بهذه الصفة لا خلف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتمون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [17]: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم. وقد روي من طرق مرسلاً وموصولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح؛ من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وهذا رواه ابن عدي عن علي بن أبي طالب، وسند المرسل جيد. وثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه)) [18]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (302). ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))[19]، ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعله فرقتين فجلعني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً))[20]. صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.

ثانياً: الإعجاز في خلقه صلى الله عليه وسلم.
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم. فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.

لقد كان رسول الله أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة‏:‏ كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه‏.‏

كما روى البيهقي في دلائل النبوة،قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الأنباري حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب النبي فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: لن تراعوا إنه لبحر… قال فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم…

لقد كان رسول الله أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه [21]، وقال:” إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا..”[22]

وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:” ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين”[23]، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!

بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾[24]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[25]، ﴿ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾[26].

ثالثاً: خلقه صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وصف الله سبحانه وتعالى خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في أيات عديدة في القرآن الكريم منها:
1- ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق، البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.

2- ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾، لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة! وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق. لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون. إنه كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ♦♦♦ وأنت أحييت أجيالا من الرمم

3- ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير. أنت تهدي الى صراد مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك. أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك. وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام. هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت. وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.

4- ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾، لقد أدّ رسول الله الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة. بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها. بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ. بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر. بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار. بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية. بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.

5- ﴿ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.

6- ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس. كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.

7- ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا. أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا. وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم. شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل. شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران. شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة. شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس. شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.

8- ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب. فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.

9- ﴿ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ [الشرح: 3]: أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.

10- ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4] لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟ أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع. رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك. رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة. رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا. إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.

11- ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6] إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل، وتقطعت الحبال وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل. لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.

12- ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1] لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين. فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك. وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها. وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك. وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا. وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.

13- ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [27] فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه. فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.إن الله عز وجل هو المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون. فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.

المبحث الثاني
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فى القيادة والحياة
لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل فى الجنة، كما لهم الرَّفعةُ فى الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ فى الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد فى اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً.

وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾[28]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾[29]، فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ فى العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً. ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.

ولما كان جهاد أعداءِ الله فى الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه فى ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فى طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)) كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج،فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج.

فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما فى جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: ﴿ إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾ [30]. والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع فى مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها فى هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللَّهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾ [31]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ ﴾ [32]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [33]. فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: ﴿ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [34]، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ،بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ،ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم. وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته، وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ فى الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هى العليا [35].

المبحث الثالث
مواقف من خلق الرسول
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقه وكمال خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظُفْر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يحبب عادة لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة‏.‏

1-كمال النفس ومكارم الأخلاق:‏
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي‏.‏ وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة‏:‏ ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها‏.‏ وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً‏.‏ وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة‏.‏ وقال جابر‏:‏ ما سئل شيئاً قط فقال‏:‏ لا[36]‏.‏

وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي‏:‏ كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه‏.‏ قال أنس‏:‏ فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول‏:‏ ‏(‏لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا‏)‏‏.‏ وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري‏:‏ كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة‏.‏ وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف‏.‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول‏.‏ ‏(‏ما بال أقوام يصنعون كذا‏)‏‏.‏ وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له‏:‏ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏﴿ ‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏ ﴾‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏‏.‏ وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره‏.‏ كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل‏:‏ على ذبحها، وقال آخر‏:‏ على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعلي جمع الحطب‏)‏، فقالوا‏:‏ نحن نكفيك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه‏)‏، وقام وجمع الحطب‏.‏

ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال هند فيما قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه – لا بأطراف فمه – ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً – ما يطعم – ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها – سماحة – وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام‏.‏ وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره‏.‏ يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره‏.‏ الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة‏.‏

كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه‏.‏ قد ترك نفسه من ثلاث‏:‏ الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث‏:‏ لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا‏.‏ لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول‏:‏ إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ‏.‏ وقال خارجة بن زيد‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به ‏[37].‏

2-خلق الصبر عند رسو ل الله صلى الله عليه وسلم:
إنه لا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ [38]، صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [39]، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [40]، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾[41].

وصبره صلى الله عليه وسلم صبر الواثق بنصر الله، المطمئن الى وعد الله، الراكن الى مولاه، المحتسب الثواب من ربّه جلّ في علاه، وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه، يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمّد فلا ينال منه.

مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.

3-خلق الكرم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف “لا” إلا في التشهد:
كا قال “ل” قط إلا في تشهدّه ♦♦♦ لولا التشهد كانت لاؤه نعم

يعطي عليه الصلاة والسلام عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام:
تراه إذا ما جئته متهللا ♦♦♦كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتدا، قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه، وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ولا دينارا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل.

اقرأ أيضا  سُنَّة بناء المساجد

4-خلق الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم:
كان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم بإحقاق الصدقة،أكملُ هَدْى في وقتها، وقدْرِها، ونِصابها، وَمَنْ تَجِبُ عليه، ومَصْرِفِها. وقد راعى فيها مصلحةَ أربابِ الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها اللَّه سبحانه وتعالى طُهرةً للمال ولصاحبه، وقيَّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمةُ بالمال على مَن أدَّى زكاتَه، بل يحفظُه عليه ويُنميه له، ويدفعُ عنه بها الآفاتِ، ويجعلُها سُوراً عليه، وحِصناً له، وحارساً له.فجعلها فى أربعة أصناف من المال: وهى أكثرُ الأموال دَوَراناً بين الخلق، وحاجتُهم إليها ضرورية.

ثم إنه أوجبها مَرَّةً كلَّ عام، وجعل حَوْل الزروع والثمار عند كمالِها واستوائها، وهذا أعدلُ ما يكون، إذ وجوبُها كلَّ شهر أو كُلَّ جمعة يضُرُّ بأرباب الأموال، ووجوبُها فى العمر مرة مما يضرُّ بالمساكين، فلم يكن أعدلَ مِن وجوبها كُلَّ عام مرة. ثم إنه فاوَتَ بين مقادير الواجب بحسب سعى أرباب الأموال فى تحصيلها، وسهولةِ ذلك، ومشقته، فأوجب الخُمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصَّلاً من الأموال، وهو الرِّكاز. ولم يعتبر له حَوْلاً، بل أوجب فيه الخُمسَ متى ظفر به.

وأوجب نصفه وهو العُشر فيما كانت مشقةُ تحصيله وتعبه وكُلفته فوقَ ذلك، وذلك فى الثمار والزروع التى يُباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولَّى اللَّه سقيها مِن عنده بلا كُلفة من العبد، ولا شراء ماءٍ، ولا إثارة بئرٍ ودولابٍ. وأوجب نِصف العُشر، فيما تولى العبد سقيَه بالكُلفة، والدَّوالى، والنواضِح وغيرها. وأوجب نِصف ذلك، وهو ربعُ العُشر، فيما كان النَّماء فيه موقوفاً على عمل متصلٍ مِن رب المال، بالضرب فى الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربص تارة، ولا ريبَ أن كُلفة هذا أعظم من كُلفة الزرع والثمار، وأيضاً فإن نمو الزرع والثمار أظهرُ وأكثر من نمو التجارة، فكان واجبُها أكثرَ من واجب التجارة، وظهورُ النمو فيما يُسقى بالسماء والأنهار، أكثرُ مما يُسقى بالدوالى والنواضح، وظهورهُ فيما وجد محصلاً مجموعاً، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع.

ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساةَ كلُّ مال وإن قلَّ، جعل للمال الذى تحتمله المواساة نُصُباً مقدَّرةً المواساة فيها، لا تُجْحِفُ بأرباب الأموال، وتقع موقِعها من المساكين، فجعل للوَرِقِ مائتى درهم، وللذهب عشرين مثقالاً، وللحبوبِ والثمار خمسةَ أوسق، وهى خمسة أحمال من أحمال إبل العرب، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة، وللإبل خمساً، لكن لما كان نِصابها لا يحتمل المواساة من جنسها، أوجب فيها شاة. فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمساً وعشرين، احتمل نصابُها واحداً منها، فكان هو الواجب.

ثم إنه لما قَدَّرَ سِنَّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان، بحسب كثرة الإبل وقلَّتِها من ابن مَخاض، وبنت مَخاض، وفوقه ابنُ لَبُون، وبنت لَبون، وفوقه الحِقُّ والحِقَّة، وفوقَه الجَذَعُ والجَذَعَة، وكلما كثُرت الإبلُ، زاد السِّن إلى أن يصل السِّنُ إلى مُنتهاه، فحينئذٍ جعل زيادة عدد الواجب فى مقابلة زيادة عدد المال. فاقتضت حكمته أن جعل فى الأموال قَدْراً يحتمل المواساة، ولا يُجحِفُ بها، ويكفى المساكين،ولا يحتاجُون معه إلى شئ، ففرض فى أموال الأغنياء ما يكفى الفقراء، فوقع الظلمُ من الطائفتين،الغنيُّ يمنعُ ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه، فتولَّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيم على المساكين وفاقةٌ شديدة، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف فى المسألة.

والله سبحانه تولَّى قَسْمَ الصدقة بنفسه، وجزَّأها ثمانيةَ أجزاء، يجمعُها صِنفانِ من الناس، أحدهما: مَن يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها، وكثرتِها، وقِلَّتها، وهم الفقراءُ والمساكين، وفى الرقاب، وابن السبيل. والثانى: مَن يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها، والمؤلَّفةُ قلوبُهم، والغارِمون لإصلاح ذاتِ البَيْن، والغُزاةُ فى سبيل اللَّه، فإن لم يكن الآخِذُ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له فى الزكاة [42].

5- شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا مما تناقلته الأخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.

وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[43]، وكان صدره بارزا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضّاح وثغرك باسم

وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به. وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان.

ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام وما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل:” والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل”[44]

6- زهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [45]، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:” لو كان لي كعضاة – أي شجر – تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا” [46].
وراودته الجبال الشمّ من ذهب ♦♦♦ عن نفسه فأراها أيما شمم

بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:” لا نورّث، ما تركناه صدقة” [47]، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل. إن ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.

بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل. ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:” كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل”[48]. ويروى عنه أنه قال:” ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”[49]. وقال:” مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها”[50]، وقال:” الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما”[51]، وقال:” ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت”[52]

7-تواضع محمد صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم عجيبا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه[53] يقول:” إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد”[54]، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال:”هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة”[55].

وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول:” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله”[56]، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول:” لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت”[57]

وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله: “اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين”[58]. وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول:” يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان”[59]. ويروي عن ربه أنه قال:”الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار”[60]، فكان صلى الله عليه وسلم محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم:” يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان”[61]، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال:” ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده”[62]

وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم. فصلى الله عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان.

8-الحلم عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح:” اذهبوا فأنتم الطلقاء”[63]. وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام: ﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[64].

وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾[65]، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال:”لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب”[66]، وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال:” لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر”[67]، وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال: “رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر”[68]. وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال:” من كف غضبه كف الله عنه عذابه”[69] وقال له رجل: اعدل، فقال:” خبت وخسرت إذا لم أعدل”[70]، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾[71]

وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية

9- رحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد وصفه ربه بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[72]، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال:” إنما أنا رحمة مهداة”[73]. ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال:” هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء”[74]،وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها.[75]

فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، صلى الله عليه وسلم.

كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.

وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول:”سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”[76]، ويقول:” مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت”[77]. ويقول:” لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله”[78]. وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله:” أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه”[79]. ويقول:” من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”[80]. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.

10-شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، ويكفي شجاعته مثلا أنه ما فرّ من معركة قط، وما تأخر عن القتال، وما نكص عند النزال، بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق واحمرّت الحدق وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسّرت الرماح على الجماجم، حينها تجد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس، عنده من الطمأنينة والثقة بربّه ما يكفي أمة وما يفيض على جيش.

أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة والقلوب الحاقدة يريدون روحه صلى الله عليه وسلم بأي ثمن، وهو أعزل من السلاح؟ فلما رأى تخوف أبي بكر عليه قال:” يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”[81]. وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة. ويفرّ المسلمون في حنين ولا يبقى إلا ستة من الصحابة، فيتقدم صلى الله عليه وسلم على بغلته الى جيش الكفار المدجج بالسلاح الكثير العدد القوي البأس، فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول:” شاهت الوجوه”[82]

11-الوفاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان إذا وعد وفى، فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد، ولا خيانة لعهد، مع حرصهم الشديد على الظفر بعثرة له أو زلّة، ولكن هيهات، عاش عمره كله سلماً وحربا ورضىً وغضباً وحلاً وترحالاً، عاش حالة واحدة من الصدق والأمانة، فهل الصدق إلا ما كان عليه؟ وهل الأمانة إلا منه وإليه؟
لقد وعده رجل في مكان، فانتظر صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليفي بوعده. لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له، فما خان ولا خلف بالعهد، ولا نقض لميثاق. وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده، وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء، وحذّر من الخيانة ونقض الميثاق[83]، أليس هو القائل:” آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”[84].

12-الرسول صلى الله عليه وسلم معلما[85]:
بعث صلى الله عليه وسلم معلما الناس يعلم الناس مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وأشرف الخصال وأنبل السجايا. فعلّم صلى الله عليه وسلم بوعظه الذي كان يهز به القلوب فكأنه منذر جيش يقول صبّحكم ومساكم، وكان إذا وعظ علا صوته واشتدّ غضبه واحمرّت عيناه، فلا تسمع إلا بكاء ونحيبا وحنينا وأنينا وتفجّعا وتوجعّا وندما وحسرة وتوبة ورجوعا وإنابة. ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾[86] ” من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا الى الجنة”[87]، لقد علّم صلى الله عليه وسلم بخطبه القيمة الناعة في مناسبات العبادات، فكانت فيضا من الهدى ونهرا من النور، تزيد الإيمان وترفع اليقين، وعلّم صلى الله عليه وسلم بفتواه لمن سأله، فكان أفقه الناس وأعظمهم إجابة وأكثرهم إصابة، وأعرفهم بما يصلح للسائل، وعلّم صلى الله عليه وسلم بوصاياه ونصائحه التي تصل الى القلوب وتملأ النفوس تقوى وصلاحا. وعلّم بضرب الأمثال التي يعرفها الناس، وتوضيح المعاني بأمور محسوسة تقرب المعنى وتزيل الإشكال وترفع الوهم، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقصص الجذاب الخلاب الذي يثير في النفوس الإعجاب والإنصات والاستجابة، وعلّم صلى الله عليه وسلم بالقدوة الحية المتمثلة في سيرته العطرة وأخلاقه السامية وخصاله الجليلة التي أجمع على حسنها العقلاء وأحبها الأتقياء واقتدى بها الأولياء.

وأول كلمة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم كلمة “اقرأ”، وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة المعرفة، وأمره الله أن يقول: رب زدني علما، ولم يأمره بطلب زيادة إلا من العلم لأنه طريق الرضوان وباب التوفيق وسبيل الفلاح، وامتنّ عليه ربّه بأن علّمه ما لم يكن يعلم من المعارف الإيمانية والفتوحات الربانية والمواهب الالهية، وقال له ربه: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾[88]. فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فكان صلى الله عليه وسلم أسوة العلماء وقدوة طلبةا لعلم في الاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح، وقال:” مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث”[89]. فكانت مهمته الكبرى تعليم الكتاب والحكمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾[90]. حتى خرج من أصحابه صلى الله عليه وسلم علماء وفقهاء وحكماء ومفسرون ومحدّثون ومفتون وخطباء ومربّون ملؤوا الدنيا علما وحكما ورشدا واستفاقة.

وقد حثّ عليه الصلاة والسلام على العلم ونشره وتعليمه فقال كما في حجة الوداع:” فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع”[91]. وقال:” نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه”[92]. وقال:” بلّغوا عني ولو آية”[93]. وكانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها تعليما لأمته، فصلاته وصيامه وصدقته وحجه وذكره لربه وكلامه وقيامه وقعوده وأكله وشربه، كل هذا تعليم وأسوة لمن آمن به واتبعه، وكان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في التعليم، فما كان يلقي العلم على أصحابه جملة واحدة بل شيئا فشيئا ﴿ فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾[94]، ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾[95]، فكان يمتثل هذا في تدريسه لأصحابه، وكان يبدأ صلى الله عليه وسلم بكبار المسائل والأهم فالمهم، ويكرر المسألة حتى تفهم عنه، ويعلّم تعليما علميا بالقدوة، كالوضوء أمام الناس ليأخذوا عنه، وصلاته لهم ليصلوا كصلاته، وقوله:” صلوا كما رأيتموني أصلي”[96]. وحجه بهم وقوله:” لتأخذوا عني مناسككم” [97]

مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم[98]:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
منها وما يتعشق الكبراء
لو لم تُقم ديناً لقامت وحدها
ديناً يضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائل
يُغري بهن ويُولع الكرماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لا تفعل (الكرماء)
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً
لا يستهين بعفوك الجهلاء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هُما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة
في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته
ورضا الكثير تحلم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة
تعرو الندى وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتباب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
لجميع عهدك ذمة ووفاء
بك يا ابن عبدالله قامت سمحة
بالحق من ملف الهدى غزاء
بنيت على التوحيد وهي حقيقة
نادى بها الحكماء والعقلاء
الله فوق الخلق فيها وحده
والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شوى والحقوق قضاء
اتصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها
ما لم ينل في رومة الفقهاء
صل عليك الله ما صحب الدجى
حاد وحنت بالفلا وجناء

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ[99]:
بِطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ
مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرَّسُومُ وَتَهْمُدُ
وَلَا تَمْتَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ
بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ
وَوَاضِحُ آثَارٍ وَبَاقِي مَعَالِمَ
وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلًّى وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا
مِنْ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ
مَعَارِفُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِآيُهَا
أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ
وَقَبْرًا بِهَا وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي الرَّسُولَ فَأَسْعَدَتْ
عُيُونٌ وَمِثْلَاهَا مِنْ الْجَفْنِ تُسْعَدُ
يُذَكِّرْنَ آلَاءَ الرَّسُولِ وَمَا أَرَى
لَهَا مُحْصِيًا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَّدُ
مُفَجَّعَةً قَدْ شَفَّهَا فَقْدُ أَحْمَدَ
فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تُعَدِّدُ
وَمَا بَلَغَتْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ عَشِيرَهُ
وَلَكِنْ لِنَفْسِي بَعْدَ مَا قَدْ تَوَجَّدُ
أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنَ جُهْدَهَا
عَلَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ
فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَتْ
بِلَادٌ ثَوَى فِيهَا الرَّشِيدُ الْمُسَدَّدُ
وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمَّنَ طَيِّبًا
عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدُ
تَهِيلُ عَلَيْهِ التُّرَبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٍ
عَلَيْهِ وَقَدْ غَارَتْ بِذَلِكَ أَسْعَدُ
لَقَدْ غَيَّبُوا حُلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً
عَشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لَا يُوَسَّدُ
وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ
وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمَوَاتُ يَوْمَهُ
وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكَمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ
رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ؟
تَقَطَّعُ فِيهِ مَنْزِلُ الْوَحْيِ عَنْهُمُ
وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنَجَّدُ
يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ
وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
إمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمُ الْحَقَّ جَاهِدًا
مُعَلِّمُ صِدْقٍ إنْ يُطِيعُوهُ يُسْعَدُوا
عَفْوٌ عَنْ الزَّلَّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
وَإِنَّ يُحْسِنُوا فَاَللَّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ
فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يُتَشَدَّدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ
دَلِيلٌ بَهْ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنْ الْهُدَى
حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنَّى جنَاحَهُ
إلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي ذَلِكَ النُّورِ إذْ غَدَا
إلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنْ الْمَوْتِ مُقْصِدُ
فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إلَى اللَّهِ رَاجِعًا
يُبَكِّيهِ حَقُّ الْمُرْسَلَاتِ وَيُحْمَدُ
وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحُرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهَا
لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنْ الْوَحْيِ تُعْهَدُ
قِفَارًا سِوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا
فَقِيدٌ يُبَكِّينَهُ بَلَاطٌ وَغَرْقَدُ
وَمَسْجِدُهُ فَالْمُوحِشَاتُ لِفَقْدِهِ
خَلَاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَامٌ وَمَقْعَدُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ أَوْحَشَتْ
دِيَارٌ وَعَرَصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ
فَبَكِّي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَة
وَلَا أَعْرِفَنَّكِ الدَّهْرَ دَمْعُكَ يُجْمَدُ
وَمَا لَكِ لَا تَبْكِينَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِي
عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يُتَغَمَّدُ
فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَأَعْوِلِي
لِفَقْدِ الَّذِي لَا مِثْلُهُ الدَّهْرَ يُوجَدُ
وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ
وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ
وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا يُنَكَّدُ
وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ
إذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ
وَأَكْرَمَ صِيتًا فِي الْبُيُوتِ إذَا انْتَمَى
وَأَكْرَمَ جَدًّا أَبْطَحِيًّا يُسَوَّدُ
وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَا
دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ
وَأَثْبَتَ فَرْعًا فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبَتًا
وَعُودًا غَذَّاهُ الْمُزْنُ فَالْعُودُ أَغْيَدُ
رَبَّاهُ وَلِيدًا فَاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ
عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدٌ
تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّهِ
فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ
أَقُولُ وَلَا يُلْقَى لِقَوْلِيَ عَائِبٌ
مِنْ النَّاسِ إلَّا عَازِبُ الْعَقْلِ مُبْعَدُ
وَلَيْسَ هَوَايَ نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ
لَعَلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخْلَدُ
مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ
وَفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجْهَدُ

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، عن أنس رضي الله عنه قال” كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا” – الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت “ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم” – رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. قال تعالى مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[100]

قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم. فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً،فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.

عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا -رواه البخاري.

أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه: كف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه وغيره. على الرغم من حُسن خلقه حيث كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام. عن عائشة رضي الله عنها قالت “كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي” – رواه أحمد ورواته ثقات. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول “اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق” – رواه أبو داود والنسائي.

13-عدل النبي صلى الله عليه وسلم:
كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين. قال تعالى: ﴿ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾[101] كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة – رضي الله عنها – غيورة.
فعن أم سلمة – رضي الله عنها أنها – أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة، ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أُمكم – مرتين – ) ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة. رواه النسائي وصححه الألباني. قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت: (‏والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد‏،‏ لقطعت يدها‏).

14- عفو النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال “كان النبي صلى الله عليه وسلم من احسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟ قلت نعم، أنا أذهب يا رسول الله – فذهبت” رواه مسلم وأبو داود.

فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه إن الله تعالى قالى: (… وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه…) رواه البخاري.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه – صلوات ربي وسلامه عليه – ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.

فعن عبدالله بن الشخير – رضي الله عنه – قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن عائشة – رضي الله عنها ـ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.

وكان مـن تمثله صلى الله عليه وسلم للقرآن أنه يذكر الله تعالى كثيراً، قال عز وجل: ﴿وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [102]، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾[103]، ومن تخلقه صلى الله عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)[104]

لقد كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه. وعن عائشة – رضي الله عنها – أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)[105]

المبحث الرابع
شخصية غربية غيرت تاريخ الغرب (أودلف هتلر).
لا شك أنه من الغير العدل محاولة مقارنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصية أخرى مهما كان لها وضعها أو تأثيرها في التاريخ. فإنه ظلم للشخصية أن يتم مقارنتها بشخصية الرسول العظيمة فتبدو صغيرة وتافهة عند مقارنتها مع شخصية غيرت مسيرة الحياة الإنسانية ومصير الإنسان على الأرض. فعلى الرغم من أن أدولف هتلر لم يكن رجلا ً عاديا ً كي تلفه عجلة الزمن، و تنثره وراءها غبارا ً تضيع أثاره في أرجاء الكون الفسيح، و ليس أدولف هتلر ملكا ً للشعب الألماني وحده، وإنه واحد من العظماء القلائل الذين كادوا يوقفون سير التاريخ و يبدلون إتجاهه و يغيرون شكل العالم، فهو إذن ملك التاريخ، و لئن يكن هتلر الجندي لم يخلف وراءه سوى اسطورة يشوبها واقع هوة المأساة بعينها: مأساة دولة إنهارت أحلامها و نظام حكم تقوضت دعائمه و حزب تفرقت أركانه. إن ذكر شخص مثل أودلف هتلر ومثاليتها وشأنها عن الغرب لهو دليل واضح لإعجاز خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه في العالمين.

سيرته الشخصية:
لقد ولد أدولف هتلر في مساء 2 أبريل 1889 م، في قرية نمساوية صغيرة تسمى ( لبرونو )،وكان أبوه ألويس هتلر، يعمل موظف جمارك و كان ذا مسلك مثالي – كما يصفه هتلر -، أما والدته كلارا فقد كانت إبنة لأحد المزارعين، في السادسة من عمره دخل في مدارس التعليم الحكومية، و حصل على درجات عالية أثناء دراسته في المراحل الأولى، إلا أن مستواه الدراسي هبط في المراحل الأخيرة من التعليم العام.. يقول هتلر عن نفسه: ( في علاقاتي مع رفاقي بدأت أفكاري الشخصية تطبع تصرفاتي بطابع ٍ خاص، و على الرغم من حداثة سني، رحت أفكر في المستقبل، فما استهوتني مهنة و لا حرفة و ما راودني قط ميل إلى السير على منوال والدي، فقد بدت لي الوظيفة و كأنها حبل يشد المرء دائما ً إلى أسفل. و خيل لي في كل مرة كنت أحاول إقناع رفاقي بما يبدو لي صوابا ً؛ بأنني خلقت محرضا و قائدا ً )[106].

بعد أن إنتهى هتلر من الثانوية في العام 1907 م، كان لديه ميول شديد لدراسة الفنون الجميلة، فتوجه إلى فيينا، و حاول الإلتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة هناك، لكنه فشل في اختبار القبول.. و حاول مرة أخرى و فشل أيضا ً.. فسأل عميد الأكاديمية عن السبب فقال أنه يلمس من رسوماته ميلا ً أكبر لهندسة البناء لا للرسم الحر، و نصحه بالإلتحاق بكلية الهندسة.. لم يقتنع هتلر.. فعاد إلى قريته، و في تلك الأثناء ألم بوالدته مرض عضال، سرعان ما خطف روحها..

وفي عام 1919 م، انضم هتلر إلى حزب يميني متطرف في موينخ يُسمى ( حزب العمال الألماني )، وغير اسمه إلى ( حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي ). وأصبحت هذه الجماعات تعرف بعد ذلك باسم: ( الحزب النازيّ ). دعا النازيون إلى اتحاد جميع الألمان في أمة واحدة، كما دعوا إلى إلغاء معاهدة فرساي، التي وقعتها ألمانيا بعد الحرب. كان هتلر سياسياً ومنظماً ماهراً، لذلك لقب بـ: ( الفوهرر ) أي القائد، كما نظّم جيشاً بالحزب خاصاً سماه (جنود العاصفة). قاد الحزب النازي محاولة انقلاب سياسي في نوفمبر 1923 م، وفشلت المحاولة وحكم على هتلر بالسجن لمدة 5 أعوام قضى منها عام واحد ثم أفرج عنه. وخلال هذا العام بدأ في تأليف كتابه ( كفاحي )، الذي ضمنه مبادئ الحركة النازية، وقد أكمله في 1927م.

بدأ نجم هتلر في السطوع في 1928 م، عندما فاز حزبه باثني عشر مقعداً في مجلس النواب، وفي عام 1930 م، حدثت أزمة الكساد الاقتصادي العالمي، فأستغلها هتلر بوعود قطعها لرجال الصناعة الألمانية تضمنت حمايتهم من المد الشيوعي. كان من نتائج هذه السياسة أن ارتفع عدد أعضاء حزبه في المجلس إلى 106 أعضاء، وبرزت شخصية هتلر والتفت حولها الجماهير. وفي 13 يناير 1933 م، عين الرئيس الألماني هندبنرغ، هتلر، مستشاراً ( رئيساً للوزراء )، فأخذ يعمل على القضاء على خصوم النازية من الشيوعيين والاشتراكيين واليهود، مستخدماً وسائل مبتكرة في الدعاية. و بدأ الآن بتحقيق أهدافه القومية. وفي منتصف يوليو 1933 م، حظرت الحكومة حرية الصحافة المعارضة للأهداف القومية و الوطنية للحزب النازي، وجميع نقابات العمال والأحزاب السياسية المضادة، وكان الجستابو (الشرطة السرية) يطارد الأعداء والمعارضين للحكومة، برقابة شديدة، عجزوا معها عن فعل أي شيء.

وفي أغسطس 1934م، توفي الرئيس الألماني هندبنرغ، فحكم هتلر ألمانيا جميعها، وأطلق على نفسه لقب ( فوهرر – أندر رايخسكانزلر)؛ أي زعيم ألمانيا ومستشارها. ومنذ عام 1933، و هتلر يُعدْ ألمانيا للحرب، لتكون زعيمة للعالم. وفي عام 1936 م، أرسل هتلر قواته إلى منطقة الراين حيث حقق أول انتصاراته الإقليمية دون قتال. وفي مارس 1938 م، اجتاحت قوات هتلر النمسا، فأصبحت جزءاً من ألمانيا. و عاد الفرع إلى الأصل، و تحقق هدف هتلر الأول، فجمع الأمة الألمانية تحت راية واحدة هي ألمانيا الأم.

في الأول من سبتمبر 1939 م، اجتاحت ألمانيا بولندا بتحد ٍ سافر. فأعلنت – بعد يومين – كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا. ثم اكتسحت جيوش هتلر بولندا خلال أسابيع قليلة. وفي ربيع 1940 م، هزمت جيوش هتلر – بسهولة – الدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرج وفرنسا. وواصلت بريطانيا الحرب منفردة، وتمكنت من الصمود ضد عدد كبير من الغارات الجوية الألمانية. وكانت تلك بداية الحرب العالمية الثانية.

وفي أبريل 1941 م، غزت الجيوش الألمانية اليونان ويوغوسلافيا. فحدث تحالف بين أيطاليا و اليابان و ألمانيا مقابل التحالف الفرنسي البريطاني الأمريكي السوفييتي.. وفي يونيو من نفس العام، بدأ هتلر الهجوم على روسيا، واستولى على مساحات شاسعة من الاتحاد السوفيتي. غير أن السوفيت تمكنوا من سحق جيش ألماني قوامه 300 ألف رجل، خلال معركة ( ستالينجراد ) التي استمرت خمسة شهور ( خلال عامي 1942، 1943 م ). وكانت هزيمة ألمانيا نقطة تحول رئيسية في الحرب. كما أن القوات الألمانية انهزمت أمام الإنجليز في معركة العلمين في مصر، في النصف الثاني من عام 1942 م. ثم أخذ الجيش الألماني بالإنكسار حتى تراجع إلى ألمانيا فقط في العام 1945 م بعد خمس سنوات من القتال راح ضحيته ملايين البشر و أستخدمت فيه لأول مرة في التاريخ القنبلة النووية، لم يحتمل الفوهرر أدولف هتلر أصداء الهزيمة و إنهيار المخططات فأنتحر في مركز قيادته مع عشيقته ( إيفان براون ) تحت الأرض في 30 / نيسان / 1945 م، وبعد سبعة أيام أعلنت ألمانيا الإستسلام[107].

أقوال مؤثورة لهتلر:
1- (… لست أدري أيهما روعني أكثر من الآخر: بؤس سواد الشعب المادي، أم إنخفاض مستواه الخلقي؟ فقد لاحظت إنعدام الشعور بالواجب في اوساط العمال و الصناع فرب العائلة يهمل شؤون بيته و لا يهتم بتربية أولاده، لأن تحصيل الكفاف أو ما دون الكفاف يستأثر بإهتمامه. و إنعدام التربية البيتية في مجتمع كالمجتمع النمسوي، يؤدي حتما ً إلى استرخاء الوشائج التي تشد الأبناء إلى الأباء، و تشد بالتالي العائلة إلى الدولة.. مع العلم بأن الفقر هو صنو الجهل و صنو المرض، و متى ما اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة، و مات في النفوس كل شعور وطني… ).

2- (… كل طهارة يدعيها اليهود، هي طهارة ذات طابع خاص، فبعدهم عن النظافة يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي. و لقد أضطررت لسد أنفي في كل مرة ألتقي بها أحد اليهود، لأن الرائحة التي تنبعث من أردانهم تنم عن العداء المستحكم بينهم و بين الماء و الصابون و لكن قذارتهم المادية ليست شيئا ً مذكورا ً بالنسبة إلى قذارة نفوسهم.. فقد اتشفت مع الأيام أنه ما من فعل مغاير للأخلاق، و مامن جريمة بحق المجتمع، إلا و لليهود فيها يد طولى… ) ومن هذه المقولة يتبن التناقض في الشخصية والكفر بالديانات وعدم أحترام حقوق الإنسان.

3- (… أدركت أن العنف و الإرهاب هما سلاح الإشتراكية الديموقراطية، تشهره في وجوه الذين لا يجارونها، و أن تكتيكها في محاربة خصومه يقوم على تشويه سمعتهم بحملة من التشنيع تحطم أعصابهم، و قد تساءلت أكثر من مرة: لم َ لا يقوم في البلاد حزب أو حركة تقطع الطريق على الإشتراكية الديموقراطية بإعتمادها للتكتيك نفسه، جاعلة العنف و الإرهاب و سيلة لفرض عقيدتها و تخويف خصومها؟… ) ويظهر من هذه الكلمات إعتناقه للعنف والإرهاب والقتل وانتهاك الإنسانية.

4- (… إن ما نسميه ” الرأي العام ” لا يرتكز دائما ً على الخبرة الشخصية،و معرفة الأفراد معرفة حقيقية… فهو في الغالي خاضع لتأثير الصحافة التي تتولى تنشئة الجمهور سياسيا ً بما تنشر من أخبار و تبث من آراء… و قد أدهشتني السهولة التي يستطيع بها أرباب الصحافة أن يخلقوا تيارا ً معينا ً و أن يوجهوا الجمهور إلى وجهة تتعارض في بعض الاحيان مع مصلحة الجماعة، ففي بضعة أيام بإمكان الصحافة أن تجعل من حادث تافه قضية خطيرة تهز الدولة، و يمكنها كذلك أن تسدل الستار على القضايا الحيوية فلا يلبث الجمهور أن ينساها… ) يظهر من ه>ه المقولة إنكاره للشورى وإحقاق الحق وانقياده للأهواء الشخصية التي يعمل على تنفيذها رغم أنف المجتمع!.

5- (… الدولة هي واسطة لغاية ما.و غايتها هي الحفاظ على جماعة من البشر ينتمون، روحيا ً و ماديا ً، إلى عنصر واحد، إلى جانب توفيرها أسباب النمو لهذه الجماعة..) من هذه المقولة يظهر إعتناقه لفكره العنصرية التي ينبذها الإسلام، حيث لا يفرق الإسلام بين الشعوب ونوع الإنسان، بل يدعوا الى التوحيد والإجتماع وسيادة التعاون وروح المحبة في المجتمع.

أدولف هتلر يعتبر أكبر شرير عرفته الأنسانية وصاحب أضخم مجزرة بشرية شهدها العالم منذ من هذه اللمحة على حياه شخصية غربية غيرت مجري التاريخ الغربي ونقشت على تاريخها وصمة العار الذي يتغنى به ومازالت تعلق صوره وتعتز به. إن شخصيه في الواقع وإهتمامهم به على الرغم من المجازر والكوارث التي تسبب فيها، لدافع قوى لبيان مسيرة وهدى الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار شأنه لعل الغشاوة تسقط عن أعينهم، ويظهر لهم نور الإيمان ويقين الحق.

الخاتمة:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال‏: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[108]، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً‏.‏

وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن‏.

قد أتينا في هذا البحث على أخلاق من الشمائل المحمدية، وجمل من علامات نبوته مقنعة، في واحدة منها الكفاية والغنية، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا، واقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض وفص المقصد، ومن كثير الأحاديث وغريبها على ما صح واشتهر، وحذفنا الإسناد في جمهورها، طلباً للإختصار. وبحسب هذا البحث لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة. ومعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين: أحدهما: كثرتها، وأنه لم يؤت نبي معجزةً إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها. وقد نبه الناس على ذلك، فإن أردته فتأمل أخلاق من تقدم من الأنبياء.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد‏.‏ اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد‏.‏

________________________________________

[1] – رواه الترمذي في باب ما جاء في الشرك لمن أحسن إليك، وقال: هذا حديث صحيح.( سنن الترمذي بشرح تحفه الأحوذي: 6/87).
[2] – سورة الإسراء: الاية 44ا.
[3] -صحيح البخاري 631
[4] – صحيح مسلم 1297
[5] – صحيح البخاري 5063، صحيح مسلم 1401
[6] – سورة الأحزاب، الأية 21.
[7] – سورة الأنبياء: الأية 107.
[8] – الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 197.
[9] – سورة يس: الاية30
[10] – سورةإبراهيم: الآية 3].
[11] -سورة آل عمران:الأية 184
[12] – سورة المائدة:الآية 70
[13] – سورة الأنعام: الايتين 33 -34.
[14] – الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 214.
[15] – سورة الأنعام: الآية 124.
[16] – القول الأقوم، في معجزات النبي الأكرم،أبو يوسف محمد زايد،
[17] – سورة الشورى:الأية 23
[18] -خرج في الأحاديث الصحيحة،809.
[19] -صحيح السيرة النبوية، للحافظ ابن كثير، الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية،عمان، الأردن، ص 15.
[20] -صحيح السيرة النبوية، ما صحّ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه، وغزواته وسراياه والوفود إليه، للحافظ ابن كثير، محمد ناصر الدين الألباني،الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية، عمان، ص 15.
[21] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 9.
[22] – أخرجه البخاري 6094 ومسلم 2607 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[23] – أخرجه أبو داود 4359، والنسائي 4067
[24] – سورة الأحزاب: الأية 8
[25] – سورة التوبة: الأية 119.
[26] – سورة محمد: الأية 21.
[27] – سورة محمد، الاية 19
[28] -سورة الفرقان:الأية 51-52.
[29] -سورة التوبة: الآية 73.
[30] -سورة فاطر: الأية 6
[31] – سورة الفرقان: الآية: 20.
[32] -سورة محمد:الآية 4.
[33] -سورة محمد: الاية 31
[34] – سورة الأنفال: الأية 12.
[35] – زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثالث،ص 3
[36] – نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد الخضري بك، المكتبة العصرية، بيروت،2003م، ص 298.
[37] – الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري،
[38] – سورةالنحل: الآية 127
[39] – سورة طه، الأية 130
[40] – سورة يوسف، الأية 18
[41] – سورة الأحقاف، الاية 35
[42]- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر الزرعى ابن قيم الجوزية، الجزء الثاني،ص3
[43] – سورةالنساء، الآية 84
[44] – أخرجه البخاري [36،2797] ومسلم 1876 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[45] – سورة الضحى، الأية 5
[46] – أخرجه مالك في الموطأ 977، والطبراني في الأوسط 1864 والكامل لابن عدي 3\97.
[47] – أخرجه البخاري [3039، 3712]، ومسلم برقم 1758
[48] -أخرجه البخاري 6416 عن ابن عمر رضي الله عنهما

[49] – أخرجه ابن ماجه 4102 والطبراني في الكبير 10522 والحاكم 7833 عن سهل بن سعد الساعدي

[50] -أخرجه أحمد [3701، 4196] والترمذي 2377، وابن ماجه 4109 عن عبدالله بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح

[51] – أخرجه الترمذي 2322 وابن ماجه 4112 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[52] -أخرجه مسلم 2958.

[53] – هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يامحب، أبو بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والجكم بالمدينة المنورة، طبعة خاصة، ص 425.

[54] – أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371.

[55] – أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286.

[56] – أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهما

[57] – أخرجه البخاري [2568، 5178].

[58] – أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري.

[59] – أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236

[60] – أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له

[61] – أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806

[62] – أخرجه أحمد [1842، 2557] والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[63] – أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815.

[64] – أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.

[65] – سورة الحجر الأية 85

[66] – أخرجه البخاري، 6116.

[67] – أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود.

[68] – أخرجه البخاري [ 3150، 3405] ومسلم 1062.

[69] – أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298.

[70] – أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله

[71] -سورة المؤمنون،الأية 96

[72] – الأنبياء، الأية 107

[73] – أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه.

[74] – أخرجه البخاري [ 1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

[75] – أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه.

[76] – أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[77] – أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه

[78] – أخرجه أحمد [ 17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279

[79] – أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ [القيامة: 16]، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[80] – أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[81] – أخرجه البخاري [ 3653، 4663] ومسلم 2381 عن أبي بكر رضي الله عنه

[82] – أخرجه مسلم 1777 عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه.

[83] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 1422 هـ – 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 35.

[84] – أخرجه البخاري [ 33، 2682] ومسلم 59 عن أبي هريرة رضي الله عنه

[85] – محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، د. عائض بن عبدالله القرني، الطبعة الأولى، 1422 هـ – 2002 م، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ص 65.

[86] -سورة النساء، الأية 112.

[87] – أخرجه مسلم 2699 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[88] – سورة محمد، الأية 19

[89] – أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282

[90] -سورة البقرة، الأية 129

[91] – أخرجه البخاري [1741، 7078] ومسلم 1679 عن أبي بكرة رضي الله عنه

[92] – أخرجه الترمذي 2658 عن ابن مسعود رضي الله عنه.

[93] – أخرجه البخاري 3461 عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما

[94] – سورة الاسراء، الأية 106

[95] – سورة الفرقان، الاية 22

[96] – أخرجه البخاري 631 عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه

[97] – أخرجه مسلم 1297 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

[98] – قطوف من الشمائل المحمدية والأخلاق النبوية والآداب الإسلامية، محمد بن جميل زينو

[99] – السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ لِابْنِ هِشَام، السيرة النبوية لابن هشام

[100] – سورة القلم: الآية 4

[101] – سورة النساء: الاية 135

[102] – سورة الأحزاب: الأية 35

[103] – سورة البقرة: الآية 152

[104] – أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.

[105] – رواه النسائي وصححه الألباني.

[106] – كفاحي. أدولف هتلر، ترجمة: لويس الحاج، دار بيسان للنشر و التوزيع.

[107]- كفاحي. أدولف هتلر، ترجمة: لويس الحاج، دار بيسان للنشر و التوزيع.

[108] – ‏ سورة ‏القلم‏: الآية‏ 4‏
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.