شهر الله الحرام

الأربعاء فاتح محرم 1437//14 أكتوبر/تشرين الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
شهر الله الحرام
الحمد لله الذي جعل في بداية الأعوام وانتهائها عِبرةً وعظة، وما يتذكَّر إلا أولو الألباب، نحمَده – سبحانه – حمدًا كثيرًا، ونسأله أن يجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقائه، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نبي الرحمة، وهادي الأمة، خير مَن صام وقام وعبد الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين نهجوا نهجَه، واقتفوا أثره، وتمسَّكوا بسنته ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].

أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى الذي يعلم السرَّ وأخفى، فما عمِلتم فستجدونه مكتوبًا ومحصى، في كل ما سيأتي من الزمان وما مضى، واعلموا أنكم استقبلتم عامًا جديدًا أوله شهر الله المحرَّم، أرجو أن يكون هذا العام عامًا حميدًا، أضاف نبينا هذا الشهر إلى الله وأعظمه فقال: ((أفضل الصوم بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرَّم))، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدِم المدينة رأى اليهود يصومون اليوم العاشر، ويقولون: هذا يوم عظيم نجى الله تعالى فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله تعالى، فنحن نصومه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((نحن أحق بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه، وفي رواية أنه قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر))، وفي لفظ: ((صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، وخالفوا اليهود)).

عباد الله، كل ما جاء في القرآن من قَصص الأنبياء مع قومهم، وما جرى من قومهم معهم ما هو إلا للعبرة والاعتبار؛ للأخذ بسبيل من آمن وحصل له الانتصار، واجتناب طريق من تكبَّر وطغى وكان حقه الهلاك والدمار، وهذه سنة الله فيمن عصى وفسق ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، وهذه الشهور تأتي وتمضي، والأعمار تنقضي على مر الدهور والعصور، فأين مَن اعتبر بما قصَّ الله تعالى علينا من آدم أبي البشر إلى خاتم الأنبياء سيد البشر! فهلا سمِعنا قصة من قَصص الأنبياء وصبرهم ومثابرتهم.

اقرأ أيضا  الإمام يخشي الله منصور يشدد على أهمية لزوم الجماعة لتحرير الأقصى

لنعلم أن الإيمان قولٌ وعمل؛ وأن الفوز مع الصبر والمثابرة، وأن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، فهذا فرعون مع موسى منذ صغره يحاول قتلَه، والله تعالى يُنجيه، ويحاول ذلَّه والله تعالى ينصره، ويحاول خِذلانه والله تعالى يُعِزه، حتى أوحى الله تعالى إليه بأن يذهب إلى فرعون الذي طغى، ويدعوه إلى أن يتزكَّى، فيذل لربه ويخشى، وما زال موسى معه حتى أراه الله الآية الكبرى، وهو مُصِر على أن يُكذِّب ويعصي، فأبى واستكبر على دعوة موسى وطغى، وإيمان موسى وقومه يزداد ويقوى؛ لذا حَشَر فرعونُ قومَه ونادى، وجعل نفسه الرب الأعلى، وعزم على إيذاء موسى وقومه من قتْلٍ وصلْب؛ اغترارًا بقوته، وفوقه قوة العلي الأعلى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 8، 9]، فكانت نقمة فرعون منهم؛ لأنهم آمنوا بآيات الله ربهم، وعبدوا خالقَهم، فما كان من فرعون إلا أن تَبِع موسى بجنوده، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يُحقِّق وعدَه وينصر موسى ومن معه، مهما دهم الخطر وفدح الأمر، فهؤلاء قوم موسى يقولون: إنا لمدركون، وموسى – عليه السلام – يُجيبهم مُطمَئنًّا واثقًا من نصر الله – عز وجل – له: كلا إن معي ربي سيهدين إلى طريق نجاتكم، وما به فوزُكم وخِذلان عدوكم، فأمر الله تعالى موسى أن يضرب البحرَ بعصاه، فانفلق فكان كل فِرق كالطود العظيم، ويأمر الله تعالى الريح على كل مكان في البحر فتجعله يابسًا؛ ليسهل ممشاه، وفرعون وقومه يتخطَّى خطاه، فأتبعهم فرعون بجنوده، فلما تكامَل أصحاب موسى خارج البحر، وتكامَل فرعون وجنوده فيه، التطمت عليهم تلك الأمواج فما نجا منهم أحد، وحينئذٍ قال فرعون مقالته الإيمانية حين لا تنفع تلك المقالة لما عايَنَ الغرقَ؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 90 – 92].

اقرأ أيضا  القدس والأقصى ومحاولات التهويد

وهذا اليوم الذي حقَّق الله فيه النصرَ للمؤمنين؛ نتيجة ثباتهم وقوة إيمانهم بربهم وخالقهم، وإعلانهم العداء لعدوهم، وعدم مداهنته ومداراته، وفي هذا اليوم خِذلان عدو الله فرعون وقومه؛ ثمرة طغيانهم وعصيانهم لمعبودهم وإلههم، ومخالفتهم رسولَهم الذي أرسل إليهم يُبلِّغهم رسالات ربهم، ويَصرِف قلوبهم إلى خالقهم بدل تعلُّقها بعدو الله وعدوهم، هذا اليوم هو اليوم العاشر من هذا الشهر صامه موسى؛ شكرًا لله تعالى، فكان اليهود يصومونه؛ اقتداء بموسى – عليه السلام – فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((نحن أحقُّ بموسى منكم))، فانظر يا أخي إلى مبادرة الأنبياء إلى الأعمال الصالحة، ومبادرتهم إلى شكْر الله تعالى، وفيه أن الشكر لا يكون باللسان فقط؛ بل بالاعتقاد والعمل.

اقرأ أيضا  السماء والسماوات في القرآن الكريم

وانظر أخي المسلم إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده))، كيف أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمخالفتهم؟ لما تدلُّ عليه من التباعد عن الكفار ودياناتهم، وأخلاقهم وعاداتهم، وهذا مقتضى العداء، فهم يفرحون حينما نُوافِقهم في أي عملٍ وأي قول، فقد كانوا يستعملون كلمة ﴿ رَاعِنَا ﴾ بمعنى مذموم، فاستعملها المسلمون، ففرحوا بذلك، فأنكر الله تعالى على المسلمين ذلك بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 104].

وإن فعلوا شيئًا من أعمال الإسلام، فلا نقول: نترك هذا العمل لمخالفتهم؛ لأنهم هم الذين وافقونا، وليكن لنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة، فصوموا من هذا الشهر اليومَ العاشر، ويومًا قبله أو بعده، وتوبوا إلى الله تعالى جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والمسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.