الانتفاضة الحتمية
دومينيك ميسي
كبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية
الجمعة 10 محرم 1437//23 أكتوبر/تشرين أول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية
بعد حجارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى جاءت القنابل البشرية للانتفاضة الثانية، والآن يلجأ الفلسطينيون للسكاكين، فهل تندلع الانتفاضة الثالثة عشية الذكرى العشرين لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين وهو آخر رجل كان يمثل أملا حقيقيا للسلام؟
في واقع الأمر يبدو أن من قاموا بهجمات السكاكين الأخيرة التي وقعت في إسرائيل والضفة الغربية هم “ذئاب منفردة” ولكنهم يعكسون موجة جديدة من المقاومة الفلسطينية التي تتعدى الهجمات الجسدية، حيث انعكس ذلك على سبيل المثال بالحريق المتعمد الأخير للضريح اليهودي في نابلس، والآن مع الدعوة الواضحة التي أطلقتها حماس لانتفاضة ثالثة ليس هناك من شك في أن الوضع خطير.
في الحقيقة، إن اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة يجب ألا يكون مفاجئا نظرا لأنه لم يحدث أي شيء لكسر هذه الحلقة الإسرائيلية الفلسطينية من الهدنات الهشة والانفجارات العنيفة، وحتى أن الموقف لا يعتبر جامدا بل يتدهور بسبب زيادة التطرف السياسي والديني على الجانبين ولكن إذا نظرنا إلى مواقف المجتمع لدولي وجدنا أن لا أحد يدرك ذلك.
لقد حضرت قبل بضعة أيام مؤتمرا صغيرا في باريس كان يركز على التحديات الجدية وتغير ميزان القوة في الشرق الأوسط، حيث لم يتكلم أي من المتحدثين الرئيسيين -حتى بإشارة عابرة- عن موجة العنف المتصاعدة في إسرائيل فقد كانوا مشغولين بمناقشة الأزمة في سوريا -والتي تشكل الآن تهديدا حقيقيا بتصعيد دولي- بالإضافة إلى العواقب الدبلوماسية والإستراتيجية والاقتصادية لاتفاق نووي مع إيران.
في واقع الأمر إن قادة العالم لم يتبق لديهم الكثير من الطاقة ليصرفوها على ما يبدو أنه صراع لا ينتهي بين إسرائيل وفلسطين، وهو صراع حاولوا وفشلوا في التوصل إلى حل له بمناسبات لا حصر لها، وهناك شكوك قوية في أنه يوجد بديل قابل للحياة للوضع القائم الهش والعنيف أحيانا.
لقد رفضت إسرائيل ترك المناطق المحتلة في الماضي، فكيف يمكن أن نتوقع أن تفعل ذلك الآن مع زحف تنظيم الدولة الإسلامية تجاه الحدود؟ إن عمل ذلك سوف يؤدي لحدوث مخاطر جديدة كبيرة.
ومن الجانب الفلسطيني سوف يرغب -إن استطاع ذلك- بالانخراط في مفاوضات جدية مع الحكومة اليمينية بإسرائيل؟ إن هناك العديد من الخلافات ونقاط الضعف في الجانب الأول، ووهما كبيرا بالقوة في الجانب الآخر، مما يعني أنه من الصعوبة بمكان أن تسفر المحادثات عن أي شيء ذي قيمة.
وعلى أي حال -حتى لو استأنفوا المحادثات- فإن المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين لن يتوصلوا لاتفاق بأنفسهم، والمجتمع الدولي منقسم إلى حد كبير ومتعب وغير مهتم بفرض صفقة عليهم، ولو كان هناك إجماع اليوم فإنه إجماع سلبي، حيث إن جميع الأطراف سلمت بالوضع الحالي وبأن حلم “حل الدولتين المبني على الفكرة السلمية المتمثلة في الأرض مقابل السلام قد أصبح ميتا عمليا”.
بالطبع فإن الوضع القائم هو أسوأ بكثير للفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين ولكن ربما يتوجب على الفلسطينيين ألا يفعلوا شيئا سوى الانتظار حتى تنمو أفضليتهم الديمغرافية، وبدون دولة خاصة بهم قابلة للحياة سوف يصبح الفلسطينيون بشكل متزايد الأغلبية في “الدولة اليهودية” الحالية، إن الأبعاد السياسية والاجتماعية والدينية لمثل هذا التحول سوف تكون كبيرة وغير مقبولة بالنسبة للإسرائيليين.
لقد استعصى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن الحل نظرا لأنه صراع بين قوميات ولو أصبح صراعا بين أديان كذلك فإن التوصل إلى تسوية سوف يصبح من المستحيلات تقريبا حتى بدون المزيد من التطرف.
نظرا لغياب حل الدولتين عن الطاولة وعدم جدوى حل إقامة دولة سلمية ثنائية القومية فإن بعض الأصوات -التي يأتي معظمها من اليسار الإسرائيلي- تبحث الآن فكرة ثالثة: كونفدرالية بين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين.
إن الفلسطينيين لديهم صلات قربى قوية مع الأردنيين علما أن أكثر من نصف الأردنيين هم من أصول فلسطينية، وفي الوقت نفسه الأردن هو أقرب شريك لإسرائيل في المنطقة، وهذه العوامل تجعله يبدو لكثيرين جسرا مثاليا بين إسرائيل وفلسطين.
بالطبع لا يزال هناك انعدام خطير للثقة بين الأطراف ولكن مهما يكن من أمر فإن أنصار تلك الفكرة يجادلون بأن المزايا الاقتصادية الواضحة لتلك الكونفدرالية -التي سوف تشمل منطقة تجارية حرة ومشاريع اقتصادية مشتركة- يمكن أن تكون مغرية لجميع الأطراف بحيث ينظرون لهذه الفكرة بجدية.
لكن الاقتراح -وإن كان جذابا- لا يتماشى مع وقائع الشرق الأوسط اليوم، فخلافا للبلدان الأوروبية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مرهقة من الصراع لدرجة أنها وافقت على تقاسم سيادتها من أجل السلام فإن بلدان الشرق الأوسط تشهد مناخا متزايدا من القومية والتعصب والكراهية.
إن سياسة الاحتلال الإسرائيلية قد تسببت في هذا التحول المستمر تجاه اليمين السياسي، مما قوض الأسس السياسية والأخلاقية للدولة، وفي الوقت نفسه جعلت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رهينة قوى أكثر تطرفا منه.
إن الأقليات الصغيرة من المتطرفين الإسرائيليين لم تعد تتردد في استخدام العنف من أجل الدفاع عن آرائها أو فرض تلك الآراء على الآخرين، كما أن زيادة التطرف على الجانب الفلسطيني بسبب الاحتلال موثقة ولكن في خضم صعود نجم تنظيم الدولة ونهاية عزلة إيران الدولية ناهيك عن هجمات السكاكين الفلسطينية من يستطيع إقناع الإسرائيليين أن أكبر تهديد طويل المدى لهم هو في واقع الأمر السياسة الإسرائيلية نفسها؟
المصدر : الجزيرة.نت