الفرق بين الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة وبين تبديل شرع الله بقانون وضعي

الثلاثاء 18 صفر 1437//1 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
عمار خليفة
الفرق بين الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة
وبين تبديل شرع الله بقانون وضعي
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على إمام الموحِّدين، وقائد المجاهدين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرِّ الميامين.
وبعد:
فهذا مقالٌ نُبيِّن فيه الفرق بين الحُكم بغير ما أنزل الله في قضية مُعيَّنة، وبين تبديل شرع الله بقانونٍ وضعيٍّ، نسأل اللهَ التوفيقَ والسَّداد.
كَثُر الخلطُ في هذا الزمان بين هذين الأمرين؛ ففِرقةٌ كفَّروا الحاكمَ بغير ما أنزل الله في قضيَّة معيَّنة – حسب التفصيل الذي سَنُبيِّنه إن شاء الله – وكَفَّروا من بدَّل شرعَ الله تعالى بقانونٍ وضعي؛ وهذا من عقيدة الخوارج، وفرقةٌ أخرى لم يُكفِّروا مَن حكم بغير ما أنزل الله في قضيَّة معيَّنة، ولم يُكَفِّروا من بدَّل شرعَ الله تعالى بقانونٍ وضعيٍّ؛ وهذا من عقيدة المرجئة، أمَّا عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة – جعلني الله وإيَّاكم منهم – في هذه المسألة، فهي على النَّحو التالي:
أولاً: الحُكم بغير ما أنزلَ اللهُ في قضية مُعيَّنة:
وهو أن يبقى حُكم الله تعالى له السلطة لا يُبدَّل ولا يُغيَّر بقانونٍ وضعيٍّ آخر، ولكن يقوم حاكمٌ أو قاضٍ فيحكم بغير ما أنزل اللهُ في قضية معيَّنة؛ فهو بهذه الحالة يكون مرتكبًا لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، وهذه الكبيرة أعظَمُ إثمًا من كبائر أخرى كالسَّرقة وشُربِ الخمر؛ فإنَّ معصيةً سمَّاها اللهُ في كتابه كفرًا أعظَمُ من معصية لم يُسمِّها كُفرًا، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
ولكن حتى لا يقع الحاكمُ أو القاضي في الكفر الأكبر يجب عليه أن يؤمِن أنَّ حُكمَ الله أفضل من الحكم الذي حَكَمَ به، وأن حُكمَ الله هو الذي يَجبُ أن يحكمَ به، ويجب عليه أن يَعتقد أنَّ الحكم الذي حَكَمَه حُكمٌ ظالمٌ، وأنَّه بحكمه في هذه القضيَّة بغير حُكمِ الله هو عاصٍ لله، ولا بُدَّ أن يكون هذا الحاكِم حَكَمَ هذا الحُكم لأنَّه يريد أن يوقع الضَّرر بالمحكوم لأنَّه يكرهه، وليس كُرهًا بحُكمِ الله، ولا بُدَّ أن يكون حَكَمَ هذا الحُكم لهوًى في نفسه لأنَّه يعود عليه بمصلحة، وليس لأنَّه يرى أنَّ حُكمَ الله لا يصلُح؛ فهذا الحُكم كُفرٌ أصغر غير مُخرِج من المِلَّة.
وهذا الذي قال عنه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: “ليس بالكفر الذي تَذهبون إليه”.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس في تفسير قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، قال ابن عباس: ليس بالكفر الذي تَذهبون إليه؛ رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
قال الشيخ المُحدث أحمد شاكر رحمه الله مُعلِّقًا على أثر ابن عبَّاس ومبيِّنًا أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله في قضيةٍ معينةٍ يختلفُ عن تَبديل شرع الله: “وهذه الآثار – عن ابن عباس وغيره – ممَّا يَلعبُ به المُضِلُّون في عَصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدِّين: يجعلونها عُذرًا أو إباحيَّة للقوانين الوثنيَّة الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام”؛ [عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: المجلد الأول/ 684].
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: “أمَّا الذي قيل فيه: “كفر دون كفر” إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنَّه عاصٍ وأنَّ حكم الله هو الحق؛ فهذا الذي يصدُر منه المرَّة ونحوها، أمَّا الذي جعل قوانين بترتيبٍ وتخضيعٍ، فهو كُفر وإن قالوا: أخطأنا وحُكمُ الشرع أعدل”؛ [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: المجلد الثاني العشر/ 280].
ثانيًا: تبديلُ شرع الله بقانونٍ وضعيٍّ:
وهو تنحيةُ شرع الله المُحكَم المُنزَّل الجامع للخير، وإقصاؤه وإبعادُه، وتبديله بقانونٍ وضعيٍّ مُتخَلِّف وبدستورٍ تافِه، يستمدُّ موادَّه من القانون الفرنسي أو القانون البريطاني أو القانون الأمريكي، التي ما هي إلاَّ كما وصفها الشيخُ محمد بن إبراهيم: “محضُ زبالةِ الأذهان، وصرْفُ حُثالة الأفكار”، وهذا كفرٌ أكبر مُخرج عن مِلَّة الإسلام.
الدليل من القرآن والسُّنة على أنَّ تبديل شرع الله تعالى بقانون وضعيٍّ كُفر أكبر:
1) قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60].
يزعمون أنَّهم آمَنوا بما أَنزلَ الله تعالى، وهم كاذِبون، ويريدون أن يَتحاكموا إلى الطاغوت، وهم بهذا ضالُّون، وبِعَدَم إيمانِهم بما أَنزلَ اللهُ تعالى وبتحاكُمِهم إلى الطاغوت ارتكبوا كُفرًا أكبر مُخرجًا من الملَّة.
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة – وذَكَرَ منها -: الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله تعالى؛ [الدرر السنية: المُجلَّد الأول/ 162].
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الطاغوت: كلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه؛ من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاع، فطاغوت كلِّ قومٍ من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتَّبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنَّه طاعة لله، فهذه طواغيتُ العالَم إذا تأمَّلتَها وتأمَّلتَ أحوال الناس معها رأيتَ أكثرهم انصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكُم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكُم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته”؛ [إعلام الموقعين: المُجلَّد الأول/ 85].
2) قال الله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65].
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: “﴿ فَلاَ ﴾ فليس الأمر كما يزعُمُون أنَّهم يُؤمنُون بما أُنزل إليك، وهم يتحاكمُون إلى الطَّاغُوت، ويصُدُّون عنك إذا دُعُوا إليك يا محمد، واستأنف القسَم جلَّ ذِكره، فقال: ﴿ وَرَبِّكَ ﴾ يا مُحمد ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي: لا يُصدِّقُون بي وبك، وبما أُنزل إليك، ﴿ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾”؛ [تفسير الطبري: المجلد الثالث/ 189].
وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “يُقسِم تعالى بنفسه الكريمة المقدَّسة، أنَّه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسولَ صلى الله عليه وسلَّم في جميع الأمور، فما حكَم به فهو الحقُّ الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا”؛ [عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: المجلد الأول/ 533].
أقوال العلماء في أنَّ المُبدِّل لشرع الله تعالى يعتبر كافرًا كُفرًا أكبر:
1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والإنسان متى حلَّل الحرام المجمَع عليه، أو حرَّم الحلالَ المجمَع عليه، أو بدَّل الشرعَ المجمَع عليه، كان كافرًا مرتدًّا باتِّفاق الفقهاء”؛ [مجموع الفتاوى: المُجلَّد الثالث/ 267].
2) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “فمن ترك الشرعَ المُحكَم المُنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء، وتحاكَم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كَفَر، فكيف بمن تحاكَم إلى الياسا[1] وقدَّمَها عليه؟! مَن فعَل ذلك كَفَر بإجماع المسلمين”؛ [البداية والنهاية: الجزء الثالث عشر/ 139].
3) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ مَن تحاكَم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ، فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه”؛ [إعلام الموقعين: المُجلَّد الأول/ 85].
4) قال الشيخ المُحدِّث أحمد شاكر رحمه الله تعليقًا على كلام الإمام ابن كثير حول الياسق الذي كان يتحاكَم إليه التتار: “أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير – في القرن الثامن – لذاك القانون الوضعِي الذي صنعَه عدوُّ الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونَه يصف حالَ المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلاَّ في فرق واحدٍ أشرنا إليه آنفًا: أنَّ ذلك كان في طبقةٍ خاصَّة من الحكَّام أتى عليها الزمان سريعًا فاندمجَت في الأمَّة الإسلاميَّة وزال أثر ما صنعَت، ثمَّ كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلمًا منهم؛ لأنَّ أكثر الأمم الإسلاميَّة الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالِفة للشريعة والتي هي أَشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجلٌ كافِر ظاهر الكفر، إنَّ الأمر في هذه القوانين الوضعية واضحٌ وضوح الشمس؛ هي كُفر بَواح لا خَفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحدٍ ممَّن ينتسب للإسلام كائنًا من كان في العمل بها أو الخضوعِ لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكلُّ امرئ حسيبُ نفسه”؛ [عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: المجلد الأول/ 697].
5) قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالة تحكيم القوانين: “إنَّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيلَ القانون اللَّعين، منزلةَ ما نزل به الرُّوحُ الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذِرين، بلسانٍ عربيٍّ مبين، في الحكم بين العالَمين، والردَّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59]”.
6) قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: “وتحكيم الشرعِ وحدَه دون كُلِّ ما سواه، شقيقُ عبادة الله وحده دون ما سواه؛ إذ مضمون الشَّهادتين أن يكون الله وحدَه هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو المُتَّبَع المحكَّم ما جاء به فقط، ولا جُردَت سيوفُ الجهاد إلاَّ من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركًا وتحكيمًا عند النزاع”؛ [فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ: المُجلد الثاني عشر/ 256].
7) قال الشيخ سليمان بن عبدالله النجدي رحمه الله: “فمَن شهد أن لا إله إلا الله ثمَّ عدل إلى تحكيم غير الرسول في موارد النزاع، فقد كذب في شهادتِه”؛ [تيسير العزيز الحميد: 554].
8) قال الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله عند حديثه عن قول الله تعالى: ﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 26]: “ويُفهم من هذه الآيات، كقوله: ﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ أنَّ متَّبعي أحكام المشرِّعين غير ما شرع الله أنَّهم مشركون بالله”؛ [أضواء البيان: المجلد الرابع/ 91].
9) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “وهؤلاء المُحكِّمون للقوانين؛ لا يُحكمونها في قضيَّةٍ مُعينة، خالفوا فيها الكتاب والسنَّة، لهوًى أو لظلم، ولكنَّهم استبدلوا الدِّين بهذا القانون، وجعلوا هذا القانون يحلُّ محلَّ شريعة الله، وهذا كُفر؛ حتى لو صلَّوا وصاموا وتصدَّقوا وحجُّوا، فهم كفَّار ما داموا عَدَلوا عن حُكم الله – وهم يعلمون بحكم الله – إلى هذه القوانين المخالِفة لحكم الله…، فلا تستغرب إذا قلنا: إنَّ من استبدل شريعةَ الله بغيرها من القوانين؛ فإنَّه يكفر ولو صام وصلَّى؛ لأنَّ الكفر ببعض الكتاب كُفرٌ بالكتاب كلِّه، فالشرع لا يتبعَّض، إمَّا تؤمن به جميعًا، وإما أن تَكفر به جميعًا، وإذا آمنتَ ببعض وكفرتَ ببعض، فأنتَ كافر بالجميع”؛ [شرح رياض الصالحين: 178].
نسأل اللهَ العظيم أن يكون هذا المقال سببًا في بيان الحقِّ لكثيرٍ من المسلمين، ونسأله تعالى أن تزول جميع القوانين الوضعيَّة، وأن يَسُود شَرعه في الأرض، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
________________________________________
[1] الياسا أو الياسق: هو أول قانون وُضِع بدل شرع الله، وقد وضعه جنكيز خان قائدُ التتار، وألزم الناسَ بالتحاكم إليه.
الألوكة

اقرأ أيضا  مغناطيس السعادة
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.