العبادة وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع

الثلاثاء 25 صفر 1437//8 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
انجوغو مباكي صمب السنغالي
العبادة وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء والمرسَلين، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فإنَّ للعبادة في الإسلام منزلةً رفيعةً، ومكانةً جليلة، تجعل الحديثَ عنها في غاية الأهمِّيَّة، ولا يُستثنى مِن ذلك زمانٌ أو مكانٌ أو إنسانٌ؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [1]، قال ابن جرير – رحمه الله -: “أي: لعبادتنا والتَّذلُّل لنا” [2].

ولمَّا كانت صُور العبادات وأشكالُها توقيفيَّةً، يُرجع في بيانها إلى الشَّارع الحكيم، احتاج البَشرُ إلى الأنبياء والمرسَلين – عليهم الصَّلاة والسَّلام – الذين يَتلقَّوْن عن الله – سبحانه – أوامرَه ونواهيَه عن طريق الوحي؛ قال – تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [3]؛ أي: “ولقد بعثنا أيُّها النَّاس في كلِّ أُمَّة سلفتْ قبلكم رسولاً، كما بعثنا فيكم، بأن: اعبدوا الله وحدَه لا شريكَ له، وأفْرِدوا له الطَّاعةَ، وأخلِصوا له العبادةَ” [4].

ويجب على العُلماءِ والدُّعاة إلى الله – تعالى – أن يُبيِّنوا للنَّاس كلَّ ما يتعلَّق بالعبادة، وما يُصلحها مِن شروطٍ وأركان، أو يُفسدها مِن نواقضَ ومُبطلات، فالعلماء هُمْ ورثةُ الأنبياء، وفي الصحيح قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لمعاذِ بن جبلٍ – رضي الله عنه -: ((إِنَّكَ تَقْدَمُ على قَوْمٍ أَهْلِ كِتابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إِليه عِبَادَةُ الله، فإِذا عَرَفُوا الله فَأَخْبِرْهُم أَنَّ الله قد فَرضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فإِذا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله فَرضَ عليهم زَكاةً مِنْ أَمْوالِهِمْ، وَتُرَدُّ علَى فُقَرائِهِمْ، فَإِذا أَطاعُوا بِها فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرائِمَ أَمْوالِ النَّاسِ)) [5].

والحديث دليلٌ على أهمِّية تعليمِ الفرائض والواجبات الشرعيَّة، مِن العِبادات والأخلاق، بعدَ غَرْس الإيمانِ وتصحيحِه.

أوَّلاً: مفهوم العبادة في الإسلام:
إنَّ المدخل الأساسيَّ إلى هذا الموضوع هو تعريف العبادة في اللُّغة والاصطلاح، مع ذِكْر بعضِ أنواعِ العبادات، ومراتبها في الشَّريعة الإسلاميَّة، وبيان شروط قَبولِ العِبادة.

تعريف العبادة:
العِبادة لُغةً هي: التَّذلُّل والخُضوع؛ قال الرازي: “أصلُ العُبوديةِ الخُضوعُ والذُّلُّ، والتَّعبيد التَّذليل، يقال: طريقٌ مُعبَّد، والتَّعبيد أيضًا الاستعباد، وهو اتِّخاذ الشَّخص عبدًا…، والعِبادة الطَّاعة والتَّنسُّك” [6].

وفي الاصطلاح: “هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه، مِن الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهرة والباطنة” [7]، ويُستفاد مِن هذا التَّعريف شُموليةُ معنى العِبادة لكلِّ حركاتِ العباد وسَكناتهم، فكلُّ فعلٍ، أو ترْكٍ من المكلفين يُمكن أن يكونَ عبادةً وقُربةً باستحضار النِّيَّة، وقصد الطَّاعة منه، وبموافقةِ الشَّرع في طريقة تطبيقه وأدائه.

وقيل في تعريف العِبادة: “إنها امتثالُ أوامرِ الله، واجتنابُ نواهيه”، ويُنبِّه هذا التَّعريف على مسألةٍ خطيرةٍ، ألا وهي بيانُ مصدر تلقِّي الأوامر والنَّواهي المتعلِّقة بالعِبادة، فليس لأحدٍ غير الله – تعالى – أن يشرع للعباد شعائر أو شرائع؛ قال – تعالى -: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ به الله} [8]، فلا يَحقُّ لأحدٍ مِن المخلوقين أن يشرع للنَّاس الشَّرائع، أو يضعَ لهم الأديان، لا عالِم، ولا أَمير، ولا شيخ قبيلة، ولا ولي، ولا غيرهم.

أنواع العبادة:
والعبادة على أنواعٍ كثيرة، وصُورٍ متعدِّدة؛ ومنها:
– الدُّعاء: قال – تعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [9]، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدُّعاءُ هو العِبادةُ))[10].

اقرأ أيضا  حتى تكون (ناجحا) في دعوتك!!

– الخوفُ: قال – تعالى -: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [11].

– الرَّجاء: قال – تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[12].

– الاستعانة: قال – تعالى -: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [13].

– الاستغاثة: قال – تعالى -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [14].

– الصَّلاة: قال – تعالى -: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[15].

– الصَّوم: قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [16].

– الزَّكاة: قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [17].

– الحجُّ: قال – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [18]، وغيرها من أعمال القُلوب والجوارح، الظَّاهرة والباطنة.

درجاتُ العِبادة:
وللعِبادة درجاتٌ متفاوتةٌ؛ منها:
الفرائض والواجبات، والسُّنن والمستحبات، ومنها ما هي على مجموع الأُمَّة، ومنها ما على أَعيانهم، وسببُ اختلاف درجاتِ العِبادة وتفاوتها هو ما يَقتضيه خِطابُ الشَّارع، مِن طلبِ الفِعْل أوِ التَّرك، ومِن الجَزمِ وعَدمه.

– فالفرضُ أو الواجبُ في الشَّرع: هو ما يُثاب فاعلُه، ويَستحِقُّ تارُكه العِقابَ، ومِن أمثلتِه: إقامةُ الصَّلوات الخمس، وصومُ رمضان، وحجُّ بيت الله الحرام لمَن استطاع إليه سبيلاً.

ويليه في الرتبة:
– المندوب أو المُستحب: وهو ما يُثاب فاعلُه، ولا يُعاقب تارُكه، ومن أمثلته: صلاةُ ركعتي الفجر، وصَومُ يومي الاثنين والخميس.

أحبُّ العبادات إلى الله:
إنَّ أحبَّ العبادات إلى الله هي الفرائضُ والواجباتُ، ثم يَليها السُّنن والمُستحبَّات، كما دلَّ على ذلك قوله – تعالى – فيما يروي عنه رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الحديث القدسي: ((مَنْ عادَى لي وَلِيًّا فقد آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشيءٍ أَحَبّ إِليَّ مِمَّا افْتَرضْتُ عَليْه، وما يَزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ الَّتي يَمْشي بِها، وإِنْ سَأَلني لأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))[19].

قال ابن حجر: “ويُسْتَفادُ منه أَنَّ أَداءَ الفَرائِض أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلى الله، قال الطُّوفِيُّ: الأَمْرُ بِالفَرائِضِ جازِمٌ، وَيَقَعُ بِتَرْكِها المُعاقَبَةُ، بِخِلافِ النَّفْلِ في الأَمْرَينِ، وإِنِ اشْتَرَكَ مع الفَرائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوابِ، فَكانَتِ الفَرائِضُ أَكْمَل؛ فلهذا كانَتْ أَحَبَّ إِلَى الله – تعالى – وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا” [20].

شروط قَبول العبادة:
ثم إنَّ لقَبول هذه العباداتِ؛ فرائضِها ونوافلِها، شروطًا لا بدَّ مِن تَوفُّرِها، وتتلخَّص هذه الشروطُ في أمرين أساسين هما:
الشرط الأوَّل: الإخلاص:
وهو أن يَقصدَ بعبادته وجهَ الله وثوابَه، ولا يُشرك فيه غيرَه، والدَّليل على هذا الشَّرْط مِن القرآن قوله – تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [21]، وقوله – تعالى -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [22]، وقوله – عز وجل -: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَه دِينِي} [23].

ويدلُّ عليه منَ السُّنَّة قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى)) [24]، وقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يَرضَى لكم ثلاثًا: أنْ تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأنْ تُناصِحوا مَن ولاَّه الله أمرَكم، وأنْ تعتصموا بِحَبلِ الله جميعًا)) [25].

اقرأ أيضا  استجيبي يا أمة الله

الشَّرط الثَّاني: المتابعة:
والمراد بها الاقتداءُ برسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في أداءِ العِبادة، وعدمُ مخالفة سُنَّته وطريقتِه، وقد دلَّ على وجوبِ المتابعة نصوصٌ كثيرةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّة؛ ومنها:
قوله – تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} [26]، وقوله – سبحانه -: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين} [27]، وقوله – سبحانه -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[28].

أمَّا أدلة المتابعة مِنَ السُّنَّة؛ فمنها:
قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الصَّلاة: ((صَلُّوا كما رَأيتمُوني أُصلِّي))[29]، وقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الحج: ((خُذوا عنِّي مَناسِكَكم، خُذوا عنِّي مَناسِكَكم)) [30]، وكلُّ ما ورد في النهيِ عن الإحداث في الدِّين دليلٌ على شَرْط المتابعة، كما في قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أَحْدَثَ في أَمرِنا هذا ما لَيسَ منه، فهو رَدٌّ)) [31].

ثانيًا: أهمِّيَّة العبادة، ومنزلتها في الإسلام:
للعبادةِ في الإسلام مكانةٌ رفيعةٌ، ومنزلةٌ عاليةٌ، تتجلَّى هذه الأهمية وتظهر هذه المكانة في الأمور التَّالية:
1- العبادةُ هي الغايةُ مِن خَلْق الجِنِّ والإِنس: قال – تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [32].

2 – إفرادُ العبادةِ لله تحرر منَ الخُضوع والذُّلِّ لكلِّ معبودٍ باطل: قال الله – تعالى -: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[33]، وقال أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [34].

3 – النَّصْر والتَّمكين لعباد الله الصَّالحين: قال – تعالى -: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [35].

4 – الإضافة التَّشريفيَّة إلى الله تعالى: قال – تعالى – منوِّهًا بصفات عبادِه الصالحين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [36]، وقال – تعالى -: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [37].

5 – دخول الجَنَّة، ونيل رضوان الله الأكبر: قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [38].

ثالثًا: أثر العبادة في إصلاح الفرد والمجتمع:
إنَّ أداءَ العبادات التي شَرَعها اللهُ على وجهها، وطاعة الله فيما أَمر به مِنَ الشَّرائع والشَّعائر، ممَّا له آثارٌ حسنةٌ وطيِّبةٌ على سلوك الأفراد والمجتمعات؛ لأنَّ سعادة الأُمم الحقيقيَّة في صِحة عقائدها، وطاعة ربِّها – سبحانه وتعالى.

فالصَّلاة مثلاً – وهي عِمادُ الدِّين – تنهى المُقيمين لها عنِ الفحشاءِ والمنكر؛ قال – تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [39]، وتُزكِّي أنفسَهم، وتُقوِّمُ سلوكَهم؛ فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -: أَنَّ رَسولَ الله – صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم – قال: ((أَرَأَيْتُمْ لو أَنَّ نَهْرًا بِبابِ أَحَدِكم، يَغْتَسلُ منه كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟))، قَالُوا: لا يَبْقى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قال: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطايا)) [40].

وكذلك الصَّوم يُعين على التَّقوى، ويُربِّي عليها، كما قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [41].

والزكاة – وهي فريضةٌ اجتماعيَّةٌ – جاء بها الإسلام لتطهيرِ نفوس الأغنياءِ مِن الشُّحِّ والبخلِ، وتطهيرِ نفوس الفقراء من الغِلِّ والحسدِ، كما قال – تعالى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [42]، كما شُرعتِ الزَّكاةُ أيضًا لإقامة شَعائرِ الإسلام، كالجهادِ، وبناء المساجد، والمدارس، وغيرها؛ قال – تعالى -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [43].

اقرأ أيضا  خطبة المسجد الحرام : لزوم جماعة المسلمين

وأمَّا فريضةُ الحجِّ، فهي مدرسةٌ ربَّانيَّةٌ متكاملةٌ، تُقوِّي صلةَ العبد بربِّه بما تُزكِّي من نفسِه، وتُحسِّن من أخلاقه، وتُعوِّدُه على البذل والتَّضحية؛ قال – تعالى -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [44].

والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الآخَرُ يقي المجتمعَ من العقائدِ الفاسدة، والطِّباع المُعوجَّة، والسلوكيات المُنحرفة: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [45].

وهكذا نَرَى الآثارَ الإِيجابيَّة للعبادات أيًّا كان نوعُها تُشكِّل عاملاً ضروريًّا في بناء الفرد المسلم بناءً كاملاً، يشمل الجوانبَ العَقديَّة والعِباديَّة والسلوكيَّة، وفي تكوين المجتمع المثالي الذي عَجزتْ كلُّ الفلسفات والقوانين والآداب على تصويره، وتحديدِ ملامحه الحضاريَّة.

خاتمة:
ممَّا سبق يتضح لنا:
أن العبادةَ هي الغايةُ من الوجود الإنسانيِّ، ولا تكونُ للحياةِ أية أهمِّيَّة ما لم تكن جميعُ مظاهرِها مُعبِّرةً عن معاني التَّذلُّل والخُضوع لله – سبحانه وتعالى.

وليستِ العبادة – كما يَتصوَّرُ أكثرُ النَّاس – منحصرةً في الشَّعائر التَّعبديَّة فقط، بل إنَّ دائرةَ العبادات تتسع لتشملَ جميعَ حركاتِ الإنسان، وتستوعب كلَّ جوانب الحياة.

وللعبادةِ آثارٌ على الفرْدِ والمجتمع؛ بعضُها عاجلة، تتمثل في: تَزكيةِ النَّفْس، ونَشْرِ الخيرِ والفضيلة بين النَّاس، وأخرى آجِلةٌ يلقاها العبدُ يومَ القيامة، عندَ ربِّه في جنَّات النَّعيم، يومَ لا يَنفع مالٌ ولا بَنونَ، إلاَّ مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ.

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات.

ـــــــــــــــــــــ

[1] [الذاريات : 65 – 67].
[2] انظر: محمد بن جرير الطبري، “جامع البيان” ج 27، ص 12 ط دار الفكر – بيروت 1405 هـ.
[3] [النحل: 36].
[4] “جامع البيان” ج 14، ص 103.
[5] متفق عليه.
[6] انظر: محمد بن أبي بكر الرازي، “مختار الصحاح” ص 172 ط مكتبة لبنان ناشرون – بيروت 1415 هـ.
[7] انظر: الشيخ عبد الرحمن السَّعدي، “تيسير الكريم الرحمن” ص 29 ط مؤسسة الرسالة – بيروت 1421 هـ.
[8] [الشورى: 21].
[9] [البقرة: 186].
[10] رواه الترمذي وغيره.
[11] [آل عمران: 175].
[12] [الإسراء: 57].
[13] [الفاتحة: 5].
[14] [الأنفال: 9].
[15] [النساء: 103].
[16] [البقرة: 183].
[17] [البقرة: 254].
[18] [آل عمران: 97].
[19] رواه البخاري.
[20] انظر: ابن حجر، “فتح الباري” ج 12، ص 343 ط دار المعرفة – بيروت.
[21] [البينة: 5].
[22] [الكهف: 110].
[23] [الزمر: 14].
[24] رواه البخاري ومسلم.
[25] رواه مالك في الموطأ.
[26] [الأحزاب: 21].
[27] [النور: 54].
[28] [النور: 63].
[29] رواه البخاري ومسلم.
[30] رواه البيهقي في السنن الكبرى.
[31] رواه البخاري ومسلم.
[32] [الذاريات: 56].
[33] [الحجر: 42].
[34] [الأعراف: 194].
[35] [الحج الآيتان 40، 41].
[36] [الفرقان: 64].
[37] [الزمر الآيتان: 17، 18].
[38] [الكهف الآيتان 107، 108].
[39] [العنكبوت: 45 ].
[40] رواه الترمذي.
[41] [البقرة: 183].
[42] [التوبة: 103].
[43] [التوبة: 60].
[44] [البقرة: 197].
[45] [المائدة: 63].
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.