تركيا والخيارات الصعبة
أحمد أبو دقة
السبت، 15 ربيع الأول 1437 الموافق 26 ديسمبر / كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
تتحرك الحكومات التركية المتعاقبة بقيادة حزب العدالة والتنمية التركي منذ فوزه عام 2002م بالأغلبية في مقاعد البرلمان التركي باتجاه إحداث تحول كبير في مسار السياسات التركية الداخلية والخارجية:
على الصعيد الداخلي: أولت اهتماماً كبيراً بعدة قضايا، أبرزها التخلص من شوائب الماضي، كالتصالح مع الأكراد وتجميد قضيتهم إلى أجل غير مسمى. كذلك القضاء على الخصوم سواء على صعيد الحركة الصوفية التي يتزعمها فتح الله كولن وتتحالف مع الجميع بهدف إفشال حزب العدالة والتنمية. والمسار الثالث العلمانية داخل الجيش التركي الذي أفشلت تحركاتُه دائماً المسار الديمقراطي في تركيا. بعين المراقب نرى أن تحركات حزب العدالة والتنمية لا يمكن إسقاطها على حالة سياسية غايتها استقرار الأوضاع وتأمين المسار الديمقراطي في البلاد فقط، بل إنها تحركات لجماعة إسلامية جاءت لتبقى برضا الشارع عقب إفشال تجارب إسلامية سابقة بفعل حركة شرسة من العلمانية المدعومة من الجيش.
على الصعيد الخارجي: يقول الكاتب التركي محمد داود أون ألمش في مقالة بعنوان “السياسة الخارجية التركية بين المصالح والمبادئ” نشرته صحيفة يني شفيق: إن تركيا منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك وهي تتقزم وتقوم بدور الدولة التابعة للقوى الكبرى، وهذا الدور هو نفسه تعيشه الدول العربية حالياً.
لكن منذ تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم وهو يحاول تحصين المجتمع التركي داخلياً بحركة تنموية صلبة تخفف اعتماده على الآخرين، كذلك على صعيد القوى العسكرية فقد قطعت شوطاً كبيراً تركيا لتعتمد على نفسها في مجال الصناعات العسكرية وتطويرها. هذه الإجراءات التي لازمت مسيرة العدالة والتنمية في الحكم انعكست على سياسة تركيا الخارجية؛ فقد شددت سياسة زعيم الدبلوماسية التركية أحمد داود أوغلو على تصفير الخلافات مع دول الجوار وانتقلت إلى سياسة المصالح المشتركة مع القوى الكبرى بدلاً من سياسة التبعية التي كانت تسير عليها تركيا الأتاتوركية.
لا أحد يستطيع إنكار ما أقدمت عليه تركيا في السنوات الأخيرة تجاه القضايا العربية والإسلامية من مناصرة ودعم وتأييد في ليبيا والصومال والسودان وفلسطين وبورما وغيرها… حزب العدالة والتنمية يؤمن بأن العمق الحقيقي لتركيا هو العالم الإسلامي والتصالح مع الشعوب الإسلامية هو الرافد الحقيقي المغذي لقوة تركيا وسياستها الخارجية.
من منظور سياسي فإن تركيا تسعى لإرساء قواعد ذات بعد أيديولوجي في التعامل مع العالم الإسلامي، من خلال دعم المسلمين السنة في العراق وسوريا، وهذا يؤشر إلى أن تركيا واضحةٌ في مسار علاقاتها مع بلدان العالم الإسلامي؛ فهي لا تحابي إيران في سوريا للحفاظ على مصالحها وتواصل دعم الجماعات السنية التي تقاتل النظام السوري في سوريا، كذلك رفضها خروج قواتها من العراق لأنها تعلم أن إخراج قواتها يعني إتاحة المزيد من الحرية لتقسيم العراق وتهميش السنة.
حزب العدالة والتنمية – لا سيما عقب أزمة إسقاط الطائرة الروسية على الحدود مع سوريا – شعر أن الغرب ليس جاداً في حل الأزمة السورية. وإن كانت تركيا قدمت الكثير خلال مسار مشاركتها في مهمات حلف “الناتو” إلا أنها تؤمن بأن الاعتماد على الذات هو المصير الأخير، فقد أيقنت تماماً من ردود الأفعال الغربية وهشاشتها أنها وحيدةٌ في معركتها مع روسيا، لذلك بدأت بتجنب زيادة حدة التوتر مع روسيا، كذلك الأمر نفسه حصل مع روسيا لأنهما تعلمان يقيناً أن المنتصر الوحيد في هذه المعركة هي واشنطن، لذلك تبعات الأزمة بدأت تتقلص شيئاً فشيئاً.
الأحزاب الإسلامية التي تبدأ تجربة مسيرة الديمقراطية دائماً تصطدم بالواقع؛ فإدارة حزب سياسي أمر بعيد كل البعد عن إدارة دولة، هذا الأمر حصل مع حركة حماس في غزة ومع الإسلاميين في مصر والمغرب والجزائر؛ فتلك الأحزاب قائمة على مبادئ وأيديولوجيات يصنعها الواقع الديني التي تعيشه، لكنها في وقت من الأوقات تشعر بأنها مضطرة لتقديم المصالح على المبادئ وهذا ما تفعله تركيا هذه الأيام، فهي مضطرة للتصالح مع الكيان الصهيوني لعدة أسباب، أبرزها التعاون مع الأخير ضد المثلث الروسي الإيراني السوري، كذلك فإن الجيش التركي لديه علاقات وارتباطات عسكرية كبيرة مع الجيش الصهيوني توقفت عقب حروب الجيش الصهيوني على قطاع غزة، ولا أستبعد أن عودة العلاقات بين الطرفين مرهونة بضغوط تمارسها القوة العسكرية التركية، فحزب العدالة والتنمية لا يخرج عن كونه حزباً سياسياً دينياً تقلَّد السلطة برغبة شعبية، لكن الجيش عبارة عن مؤسسات مغلقة عمرها عقود وقياداته مختلفة كثيراً من حيث الأولويات وصناعة القرار مقارنة بقادة حزب العدالة والتنمية… لذلك خوفاً من ردة فعل سلبية قد تنشأ في العالم الإسلامي بسبب المصالحة التركية الصهيونية اجتمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في القصر الرئاسي في إسطنبول وطمأنه بخصوص مسار العلاقات مع الكيان الصهيوني؛ فحركة حماس تعيش أزمة خانقة بسبب قطع علاقتها مع إيران وسوريا، ولا تريد أن تكون ورقة يتم التلاعب بها بحسب مصالح الدول. في النهاية يجب التأكيد على أن تركيا لن تتخلى عن علاقتها بالعالم الإسلامي مقابل مصالح مؤقتة مع الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى أن تركيا التي تعتبَر بوابة أوروبا في الشرق الأوسط لديها الكثير من الميزات التي تجعل الكيان الصهيوني يسعى بجدية للتصالح معها كونها القوى الصاعدة الأبرز في المنطقة بخلاف الصعود الإيراني المؤقت.
المصدر : موقع مجلة “البيان”