جريمة الجرافيتي

السبت 3 جمادى الثانية 1437// 12 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
رجاء عالم
منذ عصور التاريخ المغرقة في القدم اكتشف الإنسان قوة الرسالة المتروكة على الجدران، سواء في هيئة رسوم أو كلمات، ابتداء من الرسوم الأولى لإنسان الكهف والتي اكتشفت في أندونيسيا أو فرنسا أو رومانيا أو أسبانيا والتي بعضها بعمر 40000 سنة، ومروراً بالرموز الفرعونية على جدران المعابد أو رسوم الكهوف أو الرسوم على ممرات القوافل بمدائن صالح بمنطقة العلا شمال المملكة العربية السعودية.
وتنوعت تلك الرسائل فبدأت بمجرد طبعات لكف الإنسان، أو لحيوانات مرعبة أو لمشاهد معاركه مع تلك الحيوانات. وهي رسوم لخصت مخاوف وأسلحة الإنسان الأول وصراعه للبقاء. ولم تكن شجباً لذلك الواقع وللصراعات الضمنية بقدر ما كانت رسائل لتخليد مواقفه البطولية وفحولته.
وربما لاتختلف فنون الجرافيتي الحديثة في مضامينها وأهدافها عن تلك الغايات للإنسان القديم، حيث تتأجج فنون الجرافيتي بحروبها الثقافية والسياسية التي يخوضها الفنان ويعلنها خطفاً على جدران المدن ضد عدوان لايقل رعباً في نظره. ولقد تطور ذلك الفن بداية من السبعينات والثمانينات حين ظهرت فرقة كراس والتي نظمت حملة لنشر رسوم في شبكة قطارات الأنفاق بلندن تحمل شعارات معادية للحرب ولموجة الاستهلاك ولحركات التطرف النسائية. تماماً كما حدث أثناء حركة ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 حين غطت شبكة الأنفاق والشوراع شعارات شاجبة للقراءة والفوضى.
وإن الأخطار المتمثلة في الحيوانات التي قد تباغت فنان الكهف ربما لاتزيد على المخاطر التي تتهدد فنان الجرافيتي الحديث والذي لابد وأن يعتمد عنصر المباغتة والسرعة، إذ يتم إنجازه للوحته في أماكن ممنوعة وبسرعة خاطفة مهدداً بالبوليس الذي قد ينقض عليه ويودعه السجن بتهمة التخريب أو التعدي على الممتلكات العامة أو الخاصة، وهي تهمة توجب السجن والغرامة. حيث نظمت حملات رسمية لمجابهة تلك الرسوم الذكية واللماحة والناقدة، ولقد أصدرت بريطانيا عام 2003 قانوناً ضد ما أسمته السلوك المعادي للمجتمع، ونظت حملة تحمل شعار “حافظ على بريطانيا نظيفة و مرتبة”، ولقد أعلن توني بلير مقولته الشهيرة “الجرافيتي ليس فناً، أنه جريمة، و ساعمل ما بوسعي لتخليص مجتمعنا من هذه المشكلة.” و هو موقف لايختلف عن مواقف العديد من الدول مثل الولايات المتحدة والتي أخذت موقفاً صارماً ضد فناني الجرافيتي، بل و هناك خط ساخن للمواطنين للتبليغ عن أي ممارسة فنية على جدارن أحيائهم.
من هنا فإن من شروط الحرفة أن يتخفى الفنان بمسمى فني خاطف كفنه، ولا يجب بأي حال من الأحوال أن تُعْرَف هويته، مضحياً بالشهرة التي قد تنوبه من إعلانه لتلك الهوية، لكن يكتفي بشهرة أعماله والاسم المستعار الذي يتخفى وراءه. وربما كان من الصعب تخيل مثل تلك التضحية لكن فناناً مثل بانكسي لاتزال هويته مجهولة رغم الشهرة العالمية التي حققها بحيث صار ظاهرة تثير الحماس في جماهيرالعامة والخاصة من رواد الفن، بالإضافة للإسعار الخيالية التي صارت لأعماله، ورغم ذلك لانراه يُسقط قناعه ويسفر عن هويته.
إنه فن للفن، فن للجمهور بصرف النظر عن كبرياء الفنان و أَنَويته التى عادة ما تتلذذ بالتضخم مع الفنان المعروفين في فروع الفن الأخرى.
ولعل من أهم رموز فن الجرافيتي المعاصر والذين يقدمون مضامين سياسية وإنسانية هو الفرنسي جي آر، المصور الذي يخلط صوره مع معالم شهيرة و يقدم لقضايا إنسانية لاتفوته. وربما أشهر من يثير الجدل في مضمار هذا الفن المصادم هو بانكسي الذي يعتقد بأنه يرجع لأصل بريطاني، والذي ساهم في تحويل الجرافيتي لفن عالمي يسعى وراءه الجمهور.
ولعل أهم القضايا التي يخوضها بانسكي مؤخراً تمثلت في الرسم الذي تركه في يناير من هذا العام بمواجهة السفارة الفرنسية بلندن نايتس بريدج، و يمثل صورة الطفلة كوزيت بطلة البؤساء لفيكتور هيجو و بجوارها عبوة لغاز مسيل للدموع، تسيل دموعها بالغاز كإدانة لمواقف فرنسا من المهاجرين في مدينة كاليه شمال فرنسا، وينبّه للتخوفات التي تثار ضد قبول اللاجئين في أوروبا حين ترك رسماً يمثل صورة العبقري ستيف جوبز المؤسس لإمبراطورية أبل، مشيراً لحقيقة كونه ابن أحد المهاجرين السوريين، ففيض المهاجرين رغم المخاوف التي تثيرها الدول إلا أنه قد يحمل حلولاً لأوروبا التي تشيخ.
ويريد بانكسي من حملته الأخيرة هذه أن يحذر السلطات الأوروبية، من الأوضاع المتردية للمهاجرين في معسكرات اللجوء، مثل المعسكر في مدينة كاليه و المعروف باسم “الغابة”، الذي يحوي المهاجرين من مواطن المجاعات والحروب مثل سوريا وأفغانستان وأريتريا وشمال أفريقيا، والموقوفين هناك في ظروف قاسية بانتظار البتّ في أمرهم، مما يدفعهم للقيام بمحاولات مرعبة للتسلل لبريطانيا عبر النفق المخصص للقطار يورو ستار الذي يخترق بأعماق نهر المانش، تلك الكيلومترات في العتم يحاولون اختراقها مشياً، بينما يدركهم النهار و تذروهم القطارات العابرة بسرعة مخيفة تحول النفق لجهنم.
قصص مرعبة لمحاولات للتسلل يندى لها جبين الإنسانية، انخفضت من 2000 ل 150 محاولة تسلل بالليلة الواحدة. ذهب نتيجتها عدد 13 ضحية منذ يونيه الماضى وحتى الآن، ولقد قام المهاجرون بتحطيم السور الذي بعرض خمسة أمتار المتوّج بالأسلاك الشائكة والذي أقامته السلطات الفرنسية لمنع تسللهم للنفق لحمايتهم، وللحدّ من التعطيل الذي يحدث للقطارات التي لاتكف تنقل الآلاف من المسافرين بين أهم عاصمتين أوروبيتين لندن وباريس.
لقد تحوّلت كاليه لنقطة جذب للمهاجرين منذ عام 1999 حين أخذت المدينة تستقبل الراغبين في اللجوء السياسي، ورغم إغلاق ذلك المركز منذ عام 2001، 2002 على يد وزير الداخلية حينها نيكولا ساركوزي إلا أن المهاجرين لم يكف تدفقهم لما يسمى بالغابة، في ظروف حياتية قاسية بانتظار فرصة للعبور لبريطانيا ولقد تم صد 39000 محاولة تسلل في العامين 2014 /2015.
والطريف أنه وفي التناقض بين الحاجة لإزالة تلك الإدانة عن الجدار والمتمثلة في عمل بانكسي بمواجهة السفارة الفرنسية بلندن إلا أن احترام الغرب للفن يحول بين السلطات وبين محو ذلك العمل الفني، لذا فلقد لجأوا لتغطية وجه كوزيت ودموعها بستار من الخشب، وتمر أمامه وتشعر بالمفارقة حيث يكتسب العمل بعداً وتأثيراً أعمق وأبلغ في إيحاءاته من مخبئه حيث يكمن وراء الستار، إنها إدانة سارية من وراء حجاب، تدعو الدول لأخذ مواقف حاسمة لتوطين اللاجئين الذين لاتنجح أقسى الإجراءات في وقف تدفقهم صوب مواطن الرخاء في العالم. أنها حركة لحفظ النوع في كوكب يتفجر ببشره وحروبهم.
-الرياض-

اقرأ أيضا  الصحة العالمية تحث إسرائيل على عبور بعثات المساعدات إلى غزة