افتراق الأمة والمخرج (خطبة)

الثلاثاء13 جمادى الثانية 1437// 22 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أ. عبدالعزيز بن أحمد الغامدي
افتراق الأُمَّة.. والمخرج
الخطبة الأولى
عبادَ الله، إنَّ ربكم جلَّت عظمتُه وتقدَّست أسماؤُه بَعَث صفِيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى فَترةٍ من الرّسُل، وأنزل عليه الكتابَ والحِكمة، فدعَا إلى ربِّه على بَصيرةٍ، فعلِم الناسُ من القرآن، وعلِموا من السّنّة، وتفقَّهوا في دين الله تعالى، ومَا لحِق رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالرّفيقِ الأعلَى حتى ترَك أمّتَه عَلَى المِنهاجِ الواضِح والصّراطِ المستقيم، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالك)).

فبيَّن الله تعالى أصولَ الإيمان وصِفاتِ المؤمِنِينَ، فَقَالَ جَلّ ذِكرُه: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. وبيَّنَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم مَرَاتِبَ الدِّينِ في الحديثِ لمّا سَأَلَه جِبريلُ عليه السلامُ؛ وهي الإسلام والإيمان والإحسان، وسنَّ عليه الصَّلاة والسَّلام السُّنَن، وشرَع الأحكام، وفصّل الحلال والحرَام، وبيَّن مسائل العقيدةِ أكمَلَ بَيان، وحقَّق عليه الصَّلاة والسَّلام مقامَاتِ العبوديَّةِ كلِّها لربِّه، وكَفَى نَبِيَّنا صلى الله عليه وسلم شَرَفًا وقَدْرًا ثناءُ الله تعالى عليه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

وصَحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَضِي الله عَنهم هم تَربِيَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ونَقَلَةُ الشَّريعةِ؛ والمجاهِدون في سبيلِ الله، اختَارَهم الله لصُحبةِ نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخبر الربُّ تبارك وتعالى أنهم حققوا الإيمان؛ لما لهم من السَّبقِ إلى الخيراتِ وفِعلِ الصّالحات؛ فقال تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]، وأثنى عَلَيهِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قَولِه: ((خَيرُ القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).

اقرأ أيضا  الاعتصام بالكتاب والسنة

فالسّلفُ الصّالح حقَّقوا الحياةَ العَمَلِيّة للإسلام، وعَمِلوا بالدِّين في حياتهم الخاصَّةِ والعامّة، وطبَّقوه التطبيقَ الكامل، وهم القُدوَةُ في العَمَل بِتعَاليمِ الإسلامِ لمن أتى بَعدَهم، فكانت سِيرَتهم منارًا للأجيالِ بَعدَهم في العِلمِ والعَمَل، فمن اتَّبع طَرِيقَهم اهتدَى وفاز بجنّاتِ النَّعيم، ومن خالفهم ضلَّ وغوَى وكَانَ مِنَ الخاسِرين.

ولمَّا كان السلف رضيَ الله عنهم أكملَ النَّاس عِلمًا وعملاً؛ وأشدَّ النَّاسِ اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم رَغَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلام في لزومِ ما كانَ عَلَيه هو وَصَحابتُه، وأمَر بالتمسّك بما كانوا عَلَيه منَ الهُدَى، وأَخبر أنّ الفِرقةَ الناجيَة المتمسِّكةَ بالحقِّ عندَ اختلافِ الأمّة هي ما كان عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه؛ فقالَ صلى الله عليه وسلم: ((افتَرَقَتِ اليهودُ على إحدَى وسبعين فِرقَة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسَبعين فِرقَة، وستفترِق هذه الأمّة على ثَلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النَّارِ إلا واحدة))، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابي)). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّها في النّار)) هذا مِنَ الوعيدِ المعلوم عند السَّلَف تَفسِيرُه، فهذا من أحاديث الوعيد.

وقد وقع ما أخبرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الاختلافِ والفُرقةِ، ولَكنَّنا كُلِّفنا بالاعتصامِ بالكِتابِ والسّنَّة ونَبذِ الخِلافِ والفُرقةِ، وأُمِرنا أن نكونَ من الفِرقةِ النّاجيَة المتمسِّكة بالحقّ التي علِمت الحقَّ وعمِلت به، ودعت إليه، قال الله تَعَالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

اقرأ أيضا  خطبة عن الأمانة

وَكلُّ فِرقة مِنَ الفرَق الإسلاميّة تزعُم أنها على الحقِّ وغيرها على الباطِل، ولكن ليس للدّعاوَى وزنٌ عند الله ما لم يكُن لها بيِّناتٌ من العِلم النافِع والعمَل الصّالح الموافقان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وصحابته الكرام، وقد بيَّن الله تعالى في كتابِه صِفاتِ هذهِ الفرقةِ النّاجيَةِ، وجلَّى أمرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ لِيكونَ المسلمُ على بَصيرةٍ من دينهِ وعلى نُورٍ من ربِّه، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
اللهم اجعل لنا نورا من عنك؛ اللهم وفقنا للتمسك بسبيلك، وجنبنا السبل التي تصرفنا عن دينك.

نفعني الله وإياكم بكتابه الكريم؛ وبهدي سيد المرسلين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
• • •

الخطبة الثانية
مما سبق نخلص إلى وقوع الافتراق في هذه الأمة لا محالة، ونخلص إلى أن مرد هذا الافتراق إلى عدم اتباع منهج السلف في فهمهم للقرآن الكريم والسنة المطهرة. لذا فيجب الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسُنّة رَسولِه صلى الله عليه وسلم والرجوع إليهما عند التنازُع والاختلافِ، كما قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال سُبحانَه: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [النساء: 59]. ويجب مع ذلك الاعتصام والرجوع استجلاء الفهم الصحيح للكتاب والسنة؛ من خلال فهم السلف الصالح؛ من الصحابة والتابعين؛ قال اللهُ تَعَالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. فهذه الآية تبين العاقبة السيئة لمن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان من بعده وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال الله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]؛ وهذه الآية بينت العقبى الحسنة للصحابة الكرام وأتباعِهم مِن بعدهم الحريصين على منهجهم، وهذا بخلافِ ما عَلَيه طَوائفٌ مِنَ الفِرَق التي تنتسب للإسلام ممن يستنقصون خِيار الأمّةِ وساداتِ الأولياء الذين هم أفضل الناس بعد النبيّين؛ من الصحابة؛ والتابعين لهم بإحسان؛ السائرين على منهاجهم الذي ارتووه من معين النبوة والحكمة؛ من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

اقرأ أيضا  خطبة عن فضائل العشر من ذي الحجة والحج

فعلينا بذلُ الجهدِ في معرفةِ الحقّ ودَلائله وعَدمُ الرِّضا بأقوالِ الرجل في دين الله تعالى ممّا لا يؤيِّده كتابٌ ولا سنّة، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]، وَقَالَ تَعَالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3]. وعلينا أن نتمسك بما كان عليه سلفُ الأمّة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولنكن ممن اتَّبعهم بإحسان، فقد وَعدَهم الله الجنّة، وشهد لهم بالإيمانِ، ولنعُضَّ على ذلك بالنواجِذ، ولا نغترَّ بكثرةِ الهالكين، ولا نستوحِش من قلّةِ السالكين.

فإن أصدق الحديث كتاب الله؛ وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد.

اختصار ومراجعة: الأستاذ/ عبدالعزيز بن أحمد الغامدي
-الألوكة-