التخطيط السليم والرؤية الاقتصادية.. يضعان إندونيسيا في قلب «صناعة الطائرات»

الجمعة 23جمادى الثانية 1437// 1 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
جاكرتا
في بداية التسعينات الميلادية وبعد انتهاء حرب تحرير الكويت، ابتعثت لدراسة الدكتوراه في هندسة الطيران في جامعة (كرانفيلد) البريطانية التي تبعد أقل من مئة كيلومتر للشمال من العاصمة لندن، لم تكن (كرانفيلد) جامعة تقليدية من أوجه مختلفة، فهي تقتصر على الدراسات العليا فقط ولا يوجد بها برامج أكاديمية لمرحلة البكالوريوس، أي أنها بالعرف الأكاديمي (Post Graduate School).
وهي الجامعة الوحيدة في العالم التي تمتلك طائرات كبيرة مجهزة كمعامل طائرة للبحث العلمي، ولديها ذراع تجاري عبارة عن شركة لهندسة وتطوير الطائرات تعكس ابحاثها الأكاديمية التطبيقية إلى منتجات وخدمات تجارية، أقيمت هذه الجامعة على مرافق لقاعدة جوية لسلاح الجو الملكي البريطاني بعد خروجه منتصرا في الحرب العالمية الثانية حيث تم تحويل هناجر ومرافق القاعدة إلى جامعة متخصصة تمتلك مدرجا خاصا بها، وكانت (كرانفيلد) تجربة حياتية أولا قبل أن تكون تجربة تعليمية، كان منظر الطائرات العسكرية والمدنية التي تهبط من حين لآخر مشوقا وهي تعبر بين كلية الطيران وتدخل هانجر الشركة التجارية، ومنظر العلماء من أعضاء هيئة التدريس والطلاب وهم يتنقلون مشيا بين المرافق الأكاديمية وبين المرافق الصناعية.
لفت نظري في تلك الفترة من الزمن، العدد الكبير للطلاب من اندونيسيا في هذه الجامعة، يدرسون في تخصصات عديدة تصب كلها في صناعة الطائرات مثل (تصميم الطائرات) (الديناميكا الهوائية) (هياكل الطائرات المعدنية والكربونية) (المحركات وأنظمة الدفع) (هندسة التحكم والملاحة) (أساليب التصنيع).. وغيرها كثير.
عرفت حينها أن هؤلاء الأندونيسيين الكثر ماهم إلا فرقة هنا في (كرانفيلد) وأن هناك عشرات الفرق يتوزعون بين جامعات عالمية متخصصة في صناعة الطيران والفضاء مثل جامعات (كانساس) و(فريجينيا تك) الأميركية و (ديلف) الهولندية إضافة إلى جامعات في كوريا الجنوبية واليابان، كان الأب الروحي لهؤلاء الطلاب الدكتور بحر الدين حبيبي، وزير التقنية والبحث العلمي والأب الروحي لصناعة الطائرات في أندونيسيا (أصبح فيما بعد رئيسا للدولة)، درس الدكتور حبيبي هندسة الطيران في ألمانيا وعاد في السبعينات ليقود (الشركة الاندونيسية للطيران والفضاء) نحو قدرات صناعة الطائرات ذاتيا، فكان أن بدأ أولا باتفاقيات تجميع الطائرات (Aircraft Assembly) حيث استطاع إنشاء خطوط إنتاج لطائرات (CN-235) بالاتفاق مع الشركة الأسبانية الصانعة لها. كان اختيار هذه الطائرة بالذات موفقا وإستراتيجيا من عدة عوامل، فالطائرة (CN-235) طائرة متوسطة الحجم وذات هيكل ذي تصميم عملي مما يجعلها البوابة الأنسب لنقل الماهية (Know How) لهذه الصناعة المتقدمة، كما أن هذه الطائرة صنعت في الاساس كطائرة نقل عسكري من الحجم المتوسط، إلا أن تصميمها الفاعل مكنها لأن تكون طائرة متعددة المهام (Multi Role) حيث أنتجت (الشركة الأندونيسية للطيران والفضاء) نسخا مدنية للناقلات التجارية في أندونيسيا حيث لبت حاجة ماسة في ذلك الوقت لربط التجمعات المأهولة بين جزر الأرخبيل العديدة والمتباعدة.
كان تجميع الطائرة (CN-235) نقطة المحور لانطلاقة الشركة نحو تحولها إلى شركة قادرة على تصميم وصناعة الطائرات بالجهود الذاتية. فسياسة التدرج الزمني آنذاك أتت ثمارها عندما تحول التجميع إلى تصنيع المكونات (Manufacturing of Aircraft Components) وبذلك تحقق للشركة توطين عمليات إستراتيجية هامة منها التصميم (Design) والتحليل الهندسي (Engineering Analysis). وصلت الشركة الأندونيسية إلى ذروتها في هذه الطائرة عندما وقعت قبل سنوات قليلة اتفاقية مع الشركة الأم ليكون إنتاجها محصورا في مصانع الشركة الأندونيسية في مدينة (باندونج).
كان لدى الدكتور حبيبي طموح أكبر تمثل في تصميم وصناعة الطائرة الاندونيسية الاولى من فئة طائرات الخطوط الجوية التوربينية الحديثة ذات السبعين مقعدا. وبالفعل قاد بنفسه فريقا من العلماء والمهندسين وتم له ما أراد وظهرت الطائرة (N-250) للعالم عندما حطت في مطار (لابورجيه) مشاركة في معرض باريس الدولي للطيران عام 1989. أنتجت أندونيسيا أربع نسخ من الطائرة (N-250) للوفاء بمتطلبات التراخيص الدولية، حيث كان الدكتور حبيبي يعول على تصديرها في الأسواق العالمية وخاصة أميركا التي كانت أسواقها متعطشة إلى طائرات فئة السبعين مقعدا. أتت فترة النصف الأول من التسعينات الميلادية بالازدهار في اقتصاديات الدول الآسيوية ومنها أندونيسيا التي أفرطت في الطموح وتخلت عن صعود السلم خطوة خطوة حيث أهدرت أموالا كثيرة بغية إنجاز مشروعات ثانوية ضخمة دون الاحتساب والتحوط من عامل (الوقت) التي لم تقصر ساعاته وأيامه وأشهره منذ عرفها سكان كوكب الأرض.
في شهر يوليو 1997 حدث الانهيار الاقتصادي لدى ما يعرف بدول النمور الآسيوية ومنها أندونيسيا التي انهارت عملتها أمام العملات الصعبة قبل أن تحقق قدرات ذاتية في تصنيع أساسيات تستوردها بالعملة الصعبة حين التفتت إلى ثانويات كصناعة الطائرات.
استسلمت اندونيسيا بعد الانهيار لقروض البنك الدولي الذي تولى إعادة هيكلة الدولة وقلص العديد من المشروعات ومنها مشروع الطائرة (N-250) الذي توقف وتم تسريح ستة آلاف موظف من الشركة من قوتها الأصلية البالغة عشرة آلاف.
بعد الألفية الجديدة أفاقت اندونيسيا جزئيا من صدمة الانهيار وبدأت في إعادة ترتيب الأولويات وتقديم الصناعات الحيوية أولا والتعرف بشكل أكثر حكمة وواقعية نحو المتطلبات الحقيقية لتوطين الصناعات الاستراتيجية ومنها الصناعات العسكرية وصناعة الطيران والفضاء. فكان أن عادت (الشركة الاندونيسية للطيران والفضاء) لإنتهاج (الإستراتيجية الواقعية) وبدلا أن تصنع طائرة ذات سبعين مقعدا اختارت تصميم وتصنيع طائرة ذات تسعة عشر مقعدا فقط. تم إطلاق اسم (N-219) على الطائرة الجديدة التي اكتمل النموذج الأول منها قبل شهرين فقط وتلقت بالفعل طلبات واعدة للتصدير التجاري من زبائن في اندونيسيا وفي الدول الإقليمية المجاورة التي تتطلب النقل الجوي بين الجزر والتجمعات الصغيرة حيث تنعدم الطرق البرية بسبب الجبال.
التجربة الأندونيسية تحمل في طياتها الكثير من الدروس سواء للساسة أو الاقتصاديين وحتى لطلاب الجامعات في المملكة وفي العالم العربي. فالعالم العربي مر عليه قرن من الزمان دون أن تتحقق قدرات إدارة وامتلاك الموارد الإستراتيجية ذاتيا. فبينما تملك دولة نهرا عظيما هي تعاني من توفير الخبز لمواطنيها، وتملك أخرى أعماقا ضخمة من النفط، لا تقدر على اكتشاف تلك الأعماق أو الحفر لها أو ضخها أو تكريرها دون شراكات مع شركات أجنبية تأتي بخبرائها وأجهزتها المتقدمة ومعداتها الثقيلة.
المعرفة الشاملة بمتطلبات تحقيق الأهداف هي المنصة الحقيقية لبناء تلك الأهداف، ولو تحقق للإستراتيجيين في العالم العربي المعرفة الشاملة والإخلاص لتم إعادة ترتيب تلك الأهداف بل وإلغاء بعض واستحداث بعض.
الملاءمة بين الموارد والأهداف من مقومات المعرفة الشاملة خاصة فهم الطبيعة المتغيرة للموارد التي كانت سببا في تأخير بل وتعثر الكثير من المشروعات الاستراتيجية الكبرى.
كما أن هناك الكثير من المشروعات الكبرى لا تعكس الإستراتيجية الصحيحة التي تتناسب مع المتطلبات الاستراتيجية لدولة ما، أيا كانت تلك المتطلبات الإستراتيجية في الدفاع أو الأمن الوطني أو التعليم أو الصحة.
كما أن عدم المعرفة الشاملة بمتطلبات تحقيق تلك الأهداف يجعلها عرضة للتعثر وبالتالي هدر الكثير من المال حتى باتت المشروعات المتعثرة سمة الإستراتيجيات التنموية المفرطة في الطموح غير الواقعي وغير الاساسي، بحسب الرياض.
وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

اقرأ أيضا  تعزيز تنمية الموارد البشرية في الأمن السيبراني لتفادي الهجمات الإلكترونية