لحظات الصدمة في هيئة الأركان الإسرائيلية
الأثنين 19 جمادي الاخرة 1434 الموافق 29 ابريل 2013
عرض/عدنان أبو عام
يقدم الكتاب قراءة هي الأولى من الناحية التوثيقية والمعلوماتية حول محاولة الجيش الإسرائيلي اغتيال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 1992. ووقوف رئيس هيئة الأركان آنذاك “إيهود باراك” خلفها، وكيف أنها فشلت في اللحظة الأخيرة بسبب أخطاء تقنية فادحة، تسببت بمقتل وإصابة عدد من جنود النخبة، وتحميل قيادة الجيش المسؤولية عن هذا الإخفاق.
يقوم مؤلف الكتاب بما يمكن أن نسميه في عالم المهنة بـ”الصحافة الاستقصائية”، بحيث ينهمك في جمع كل معلومة، مهما كانت صغيرة، عما بات يعتبرها الجيش الإسرائيلي في أدبياته “كارثة تسآليم ب”، نسبة إلى الثمن الفادح الذي دفعه خلال التدريبات الماراثونية على اغتيال صدام، وأسفرت في النهاية عن مقتل 5 جنود من وحدة “كوماندوس” النخبة الإسرائيلية المعروفة باسم “سرية هيئة الأركان العامة”.
تدريبات مكثفة
يشرح الكتاب: خلال التدريب الذي جرى صباح يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1992 في قاعدة التدريبات البرية “تسيئيليم”، أصاب صاروخ من طراز “تموز” مجموعة من أفراد النخبة، الذين كانوا يؤدون دور حاشية صدام، فقتل خمسة منهم، وتم تجميد خطة الاغتيال إثر ذلك.
لكنه يعود بالقارئ قليلاً إلى الوراء حين يؤكد أن الجيش بقيادة “إيهود باراك”، وجهاز الموساد برئاسة “شفتاي شفيط”، واللواء “عميرام ليفين” الذي قاد جميع التدريبات لتنفيذ العملية، وضعوا جميعهم ودرسوا عدة خطط لاغتيال صدام، وتم إلغاء معظمها، لكن في نهاية المطاف أخذت القوات الخاصة تتدرب على خطة تم إطلاق اسم “نبتة العوسج” عليها.
يشير الكتاب إلى أن خطط الاغتيال شملت تفخيخ مواقع يتردد عليها صدام في فترات ومواعيد سنوية محددة، لكن القيادة الأمنية الإسرائيلية رفضت هذه الخطط لسبب أو لآخر، حتى وصلت معلومة معينة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي.آي.أي”، وأدت لوضع خطة العملية المذكورة.
وأضاف: تصادف أن خال الرئيس العراقي -ووالد زوجته ساجدة- خير الله طلفاح كان مريضاً جداً، وفي حال وفاته، فإن صدام سيشارك في جنازته ومراسم دفنه في بلدة العوجا قرب مدينة تكريت، وقضت الخطة بتفخيخ المقبرة بواسطة “عبوات قافزة”، وعندما تصل حاشيته سيتم تشغيل العبوات الناسفة، لكن الجيش والموساد رفضا الخطة.
وهو ما دفع بالبدء ببلورة خطة اغتيال أخرى تصل بموجبها قوة من “سرية هيئة الأركان العامة” بسيارات تجارية يتم إنزالها في العراق بمروحيات، وتتحرك على بعد بضع كيلومترات من المقبرة، وتمت ملاءمة السيارات الخلفية بحيث تتمكن من إطلاق صواريخ “تموز”، وعندما يظهر صدام في المقبرة يتم إطلاقها باتجاهه، لكن صعوبات اعترضت تنفيذها، خاصة لعدم معرفة موعد وفاة خال صدام، وحلّ الموساد هذه الصعوبة بقتل طلفاح شخصياً، أو “المساعدة” في موته، لأنه “عانى كثيرا” جراء مرضه.
وبعد وفاته، ستتم مراقبة طائرة ابنته -المتزوجة من سفير العراق في سويسرا “برزان التكريتي”- من سويسرا إلى بغداد، فيما تناول جزء ثان من الخطة قتل الأخير انطلاقاً من الاعتقاد في إسرائيل بأن صدام سيحضر جنازته أيضاً.
معلومات حصرية
يكشف الكتاب ما يمكن اعتباره معلومات حصرية عن تدريبات مكثفة ونوعية لـ22 جندياً من سرية “هيئة الأركان” النخبوية لعدة أشهر في النجف العراقية، حيث قضت الخطة بأن تطير مروحيتان للعراق، ويبقى عدد من الجنود في حراستهما، فيما يتجه الآخرون بأربع سيارات جيب -تبدو كسيارات الجيش العراقي- نحو المقبرة.
بعدها ينقسم الجنود إلى فريقين: فريق مكون من أربعة جنود يقتربون من المقبرة متخفين كعراقيين ويختلطون بالمعزين، ويتخفى أحدهم على شكل امرأة تحمل ما يبدو أنه طفل لكنه جهاز إرسال قوي، وفريق يتوقف على بعد عدة أميال من المقبرة، مجهز بصواريخ “تموز” المضادة للدبابات.
ولدى وصول صدام وحاشيته للمقبرة، يرسل الأول إشارة للثاني على مكانه بالضبط، وكلمة السر في الإطلاق هي “أرسل تاكسي”، وكان من المفروض إطلاق صاروخين، فإذا قتل صدام يهرب الفريق الأول سريعا بين الجماهير خلال حالة الفوضى، وإن لم يحصل ذلك، فإن الأوامر تقضي باقترابهم من صدام، وإطلاق النار عليه عن قرب، ليلتقي الفريقان عند المروحيتين ويعودان لإسرائيل.
“آسينهايم” يكشف في ثنايا الكتاب السبب الحقيقي لتوقف “باراك” في اللحظة الأخيرة عن المضي قدماً في خطة الاغتيال بالقول: في التدريبات قام عشرون جندياً بدور صدام وحاشيته، فيما كان “باراك” يتابع عملية التدريب، لكن شيئاً كارثياً حدث، وإن كان لا يعرف حتى الآن على وجه الدقة ما الذي وقع، غير أنه لسبب يعود لقصور في التفاهم بين الفريقين أطلق أحدهما صاروخي تموز على الجنود.
حينها أصيب “باراك” بالذهول لهول ما شاهده، وترك المكان ليبلغ “إسحاق رابين” -رئيس الحكومة آنذاك- الذي أصيب بحالة شديدة من الغضب، وقال: ما الذي جعلني أوافق على مواصلة التدريب؟
وفي سياق عرضه لمبررات إسرائيل لاغتيال الرئيس العراقي الراحل، يبرز عامل ترميم قوة الردع التي تضررت في أعقاب إطلاق صواريخ عراقية عليها إبان تلك الفترة، وأن أيًا من دول العالم لن تعارض اغتياله، وهو العدو الرئيس لإسرائيل بعد إيران، فضلاً عن امتلاكه أسلحة دمار شامل، وفقاً لتقدير أجهزة استخبارات أميركية وأوروبية مختلفة.
ومع ذلك، فمنذ اللحظة الأولى لإجراء نقاشات حول تصفيته، ظهر بون شاسع بين وجهات نظر المستويات السياسية والأمنية والاستخباراتية في إسرائيل، وانشقت هذه المستويات على نفسها إلى فريقين:
1- أحدهما يتزعمه “باراك” رئيس هيئة الأركان المبادر الأول للخطة، ويؤيد اغتياله، إلا أنه في الوقت عينه يوصي بقياس مدى جهوزية المستويين العسكري والاستخباراتي لتنفيذ العملية.
2- الفريق الآخر الذي تزعمه رئيس الاستخبارات العسكرية حينها “أوري ساغيه” أوصى بعدم الإقدام على الخطوة، لأنه لا يمتلك القدرة الكافية لتنفيذ العملية، ولا يعلم حقيقة ما يجري في العراق، لذلك لا تنبغي المخاطرة وتنفيذ الاغتيال.
وقد حذر آنذاك من “انقلاب السحر على الساحر” بظهور خطة اغتيالات عراقية تستهدف قادة إسرائيليين. ويجب عدم نسيان أننا سنغتال زعيم دولة عربية ذات سيادة، ولن يمر ذلك مرور الكرام.
ورغم تباين وجهات النظر حول الخطة، فإنه تم الإعداد لتنفيذها، حيث اشتملت على عدة مراحل شاقة من التدريبات، بحضور كبار القادة العسكريين الإسرائيليين، إلا أن رياح القدر أتت بما لا تشتهي سفن “باراك” ورفاقه من المؤيدين للعملية، حين تأخرت وفاة خال صدام لعامين بعد الموعد المحدد.
الكارثة التاريخية
أهمية ما باتت تسمى “الكارثة” في تاريخ الجيش الإسرائيلي أن هذه الحادثة ما زالت لها نتائج وآثار حتى صدور هذا الكتاب بعد 20 عاماً على المحاولة الفاشلة، في مناحي لا يدركها القارئ العادي، لاسيما وأن الكتاب اعتمد على وثائق سرية لم يتم الكشف عنها حتى الآن من أرشيف وحدة “المهمات الخاصة” التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
وينقل المؤلف عن “باراك” أن صدام كان هدفاً مشروعاً بالنسبة لإسرائيل، وأراد تصفية الحساب معه بعد أن أطلق صواريخ “سكود” على تل أبيب، حيث أمر على الفور جهاز العمليات الخاصة بتنفيذ “فحص إمكان” عملية الاغتيال تحت مسمى “علاج سلبي” حسب المصطلحات الاستخباراتية.
فيما قال “كيمبل” قائد العملية -وهو اليوم رجل أعمال ومليونير يعيش في نيويورك-: ظننت كل شيء كما يرام، كنا مدربين ومجهزين بأسلحة أفضل من الحرس الشخصي لصدام، وكانت لدينا الصواريخ، وكان المفروض أن نقترب لـ”قطع رأس” صدام، ونحمله معنا لإسرائيل، ورأيتها خطة هائلة!
تبرز أهمية الكتاب فضلاً عما يكشفه من حقائق تاريخية لأول مرة، أن مؤلفه “آسينهايم” -الذي لم يتم العقد الرابع من عمره بعد- هو صحفي متخصص في الملفات الأمنية، وتنقل بين الصحف الإسرائيلية، بعد أن أنهى خدمته العسكرية في صفوف الجيش، حيث انخرط في وحدة الإنقاذ والطوارئ بمنطقة جنوب لبنان، وشارك في تخليص وحدة لواء “غولاني” التي تورطت في حريق هائل هناك.
ركز المؤلف دراساته وتقاريره في القضايا الأمنية والعسكرية، وأقام شبكة علاقات متينة مع ضباط كبار في المؤسستين، وحصل على جائزة “سوكولوف” التقديرية للصحافة الاستقصائية. وقد تطرق الكتاب إلى تاريخ نشأة “سييرت متكال” وهي وحدة هيئة الأركان المختارة (الاسم غير الرسمي للوحدة 269).
وتعد من بين وحدات النخبة الخاصة في الجيش الإسرائيلي، وتتبع هرمياً لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وتعود إمرتها مباشرة لهيئة الأركان العامة، وهي غير خاضعة لقيادات المناطق في الجيش الإسرائيلي.
إنجازات وإخفاقات
يؤرخ الكتاب لتأسيس هذه الوحدة منذ عام 1957، بمباركة من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “موشيه ديان”، في أعقاب العبر الاستخباراتية المستخلصة من العدوان الثلاثي عام 1956. والهدف الرئيسي من إنشائها هو جمع المعولومات الاستخباراتية خلف خطوط العدو، رغم أن أفرادها يتلقون تدريباً خاصاً على أنواع القتال البري، خاصة مكافحة الإرهاب.
ويؤكد المؤلف أن العناصر الأولى التي أُلحقت بالوحدة بعد تأسيسها من خريجي قدامى سلاح الاستخبارات والوحدة 101 التي اشتهرت بعمليات القتل والتصفية في الخمسينيات، بقيادة “آريئيل شارون”، وعناصر من وحدة المظليين.
وقد عمل في إطارها العديد من الشخصيات الإسرائيلية التي اشتهرت لاحقاً كسياسيين أو عسكريين، منهم رئيس الوزراء السابق “إيهود باراك”، ورئيس الوزراء الحالي “بنيامين نتنياهو”، ووزير الدفاع السابق “شاؤول موفاز”، والرئيس السابق لهيئة أركان الجيش ووزير الدفاع الحالي “موشيه يعلون”، ورئيس جهاز الشاباك السابق “آفي ديختر”، والرئيس السابق لجهاز الموساد “داني ياتوم”.
وقد بقيت الوحدة 269 سرية لفترة طويلة جداً، ولم يصادق بشكل رسمي على وجودها إلا في الثمانينيات، لكنها ما زالت شديدة السرية لجهة قدراتها ونشاطاتها. ومن أشهر العمليات التي قامت بها عملية “فردان” بتاريخ 9 أبريل/نيسان 1972 بقيادة “باراك”، لاغتيال ثلاثة من مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، وعملية مطار عنتيبي في أوغندا عام 1974 لتحرير رهائن إسرائيليين على متن طائرة إسبانية، وخطف مصطفى ديراني عام 1994 من جنوب لبنان.
الكتاب جدير بالقراءة والمتابعة، لا لكونه يقدم سرداً تاريخياً بحتاً فحسب، بل يستخلص نتائج، ويقدم توصيات لصناع القرار السياسي والعسكري في إسرائيل، توقعاً منه لتنفيذ عمليات قادمة من قبل ذات الوحدة.
المصدر : الجزيرة (T-12/R-04)