سيدنا محمد هو المعجزة الكبرى

الأحد 1 محرم 1438 الموافق 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا

زكي الخطيب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهي التحية التي كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بها من يعرف ومن لا يعرف.

وبعد:

ما تظنون أيها السادة أننا صانعون لو رأينا الآن سيدًا أطول من المربوع، عظيم الهامة، أزهر اللون، واسع الجبين، منه يسطع النور الإلهي وفيه يتلألأ شعاع الهداية، يخطو نحونا تكفوءًا ويمشي هونًا، مهيبًا يتقدمه الوقار، فمن نظراته الحزينة الملاحظة والتأمل، يرفعها إلى السماء قليلًا، ويخفضها إلى الأرض طويلًا، مفكرًا متأملًا.

 

أهو ذاك اليتيم الأمي الذي تحدر من خير أمة. ولم يكن له من معلم. وقد عرف منذ حداثة سنه بأنه الصادق الأمين. لم يكذب ولم يغالط ولم يمكر، ولم تغيره المنعة والقوة. وكان أكثر الناس بذلًا وجودًا وشجاعة ورحمة وعدلًا ووفاءً.

 

لقد خيم على هذه القاعة خشوع المخلصين، الشاعرين بعظمة الموقف، وكلنا نشعر بحلاوة منطقه العذب تصفه عائشة رضي الله عنها بقولها: لو عده العاد لأحصاه. والجاحظ بقوله: هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه.

 

وقد مرت أمام أعيننا أسطر التاريخ القدسي بسرعة البرق من مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى أن شب وتزوج وظهر بدعوته ثم إلى حروبه وقضائه وسياسته وإصلاح المجتمع العربي والمجتمع الإنساني.

 

ولو شئنا أن نحصي فضائله في جميع الصفحات المتلألئة شرفًا وقدسية لما استطاع هذا الجمع الحافل بما فيه من أهل علم وفضل أن يصل إلى النهاية.

 

وإني سأبحث في نقطة واحدة من شعاع نوره صلى الله عليه وسلم وما أعتقدني موفيًا البحث بعض حقه.

 

إن الإنسان والجمعية الإنسانية لم يتغيرا منذ وجدا. والأمراض المادية والمعنوية التي تصيب الإنسان والجماعة هي هي لأنها ناشئة عن طبائع الإنسان وطبائع الجماعة وتابعة لأنظمة ثابتة.

 

وإن الأمراض الخلقية والاجتماعية – وهي أكثر غموضًا وتعقيدًا من سواها – قد ظهرت دائمًا ولكن بقوة متفاوتة. فقد تكون في بعض أزمنة التاريخ بشكل مستول شامل العالم بأسره، وقد تكون بشكل موضعي لا يعم ضرره غير الإقليم الذي وجدت فيه.

 

وما أشبه الأيام التي تقدمت عصر صاحب الرسالة بأيامنا هذه التي نحن فيها.

 

فإن تباين طبقات الأمم في ذلك العصر واستئثار البعض بالسلطة والثروة والمظالم التي فشت والربا الذي أخذ أصحاب الأموال يسيطرون بسببه على الأرواح والأموال والحرية الذاتية كل ذلك أوجد في تلك العصور إباحية فظيعة وانحط الإنسان إلى دركات مخيفة وعمت المصائب والحروب.

اقرأ أيضا  العقيدة الإسلامية: عالم الغيب والشهادة

 

وفي هذا العصر أيضًا يقوم مثل هذا النضال بين الطبقات.

 

كما أن الصدام بين القوميات لم يكن أقل منه في مختلف الأعصر فقد تطاحنت من قبل روما وفينيقية وفارس.

 

واليوم يحاول الغرب إذلال الشرق ويشتد التزاحم بين أمم الغرب نفسها حتى أمست الإنسانية مهددة اليوم بالفناء الشامل بسبب الوسائط المميتة الحديثة.

 

لقد بحث الباحثون المصلحون في الشرق والغرب عن الدواء. فرأيناهم كلما أمعنوا في البحث وقعوا في ضلالة جديدة. فإما أنهم غالوا في الانتصار لقومياتهم وعملوا لإفناء الشعوب الأخرى وإذلالها.

 

قتل امرئ في غابة

جريمة لا تغتفر 

وقتل شعب آمن 

مسألة فيها نظر 

 

وإما أنهم أرادوا أن يساووا بين البشر ويرفعوا استئثار أصحاب رأس المال فلم يروا ما يلتجئون إليه إلا الشيوعية أو الاشتراكية المفرطة.

 

ثم رأى الشيوعيون أنفسهم البونَ العظيم بين أهدافهم الخيالية وبين ساحة التطبيق فتراجعوا شيئًا فشيئًا وسيبقى دور التجربة طويلًا، غالي الثمن.

 

إذن فما هو الدواء؟ ومن هو المداوي؟

المداوي هم المصلحون من العظماء الذين امتازوا بين بني الإنسان بمواهب خصوا بها دون سواهم وإن أعظمهم شأنًا هو الإنسان الأكمل محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. أرسله الله للناس جميعًا بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

 

لقد كان الإصلاح الذي كمل على يده، أفضل الدساتير التي سنت لسعادة الإنسان.

 

شهد بذلك تاريخ حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وما فيها من فضائل ومواعظ لا تحصى. وقد تنـزه صلى الله عليه وسلم عن أن يدعي أنه فوق البشر فهو عبدالله وابن عبدالله. وقد وصف بلسان القرآن الكريم ﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .

 

لقد أطلعنا على سر الهدى الذي لا ضلال من بعده. وهو كلمة “أن لا إله إلا الله”. وإني أعتقد أن في هذه الكلمة جميع معاني العدل والقوة والمساواة بين جميع البشر. وأن ليس هنالك ما يستحق أن يعبد إلا الله. فنهانا عن جميع أنواع التأليه لغير الخالق المتعال. وقضى بهذه الصورة على الأرستوقراطية وساوى بين البشر ووضع أقوم أساسٍ للعصامية.

 

وكل ما عدا ذلك فإنه فرع من هذا الأصل الأول.

 

وإذا شئنا أن نصف صاحب الرسالة النبي الأمي العربي بما هو أبلغ مما نستطيع وصفه به فليس لنا إلا أن نستشهد ببعض جوامع كلمه وأحاديثه الشريفة.

 

قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه”. “ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر والعلانية، والاقتصاد في الغنى والفقر، والحكم بالعدل في الرضا والغضب، وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع؛ وإعجاب المرء بنفسه”. “لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير”. “لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان”. “أفضل العمل إيمان بالله وجهاد في سبيله”. “المؤمن يألف ويؤلف وخير الناس أنفعهم للناس”. “أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا”. “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء”. “المسلم أخو المسلم”. “من أخلاق المؤمن حسن الحديث إذا حَدث، وحسن الاستماع إذا حُدث، وحسن البشر إلى لقي ووفاء بالوعد إذا وعد”. “أعرضوا حديثي على كتاب الله فإن وافقه فهو مني”. “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”. “من تواضع لله رفعه”. “الحياء هو الدين كله”. “إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق“.

 

لقد وضع صلى الله عليه وسلم أسسًا وأنظمة للإنسانية لن تضل بعدها فلا ظلم ولا استعمار ولا تهديم لكيان المجتمع. ولا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى.

 

وإنه إن لم تنصفه الكثرة من علماء الغرب فلم يخل منهم المنصفون المبصرون قال السر وليم موير في كتابه “سيرة محمد صلى الله عليه وسلم”: لقد امتاز محمد صلى الله عليه وسلم بوضوح كلامه ويسر دينه وأنه أتم من الأعمال ما يدهش الألباب فلم يشهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.

 

وقال كارليل في كتابه الأبطال: “لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وأن محمدًا خداع مزور. وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة“.

 

إن محمدًا قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع.

 

إن محمدًا رجل صادق ونبي مرسل.

 

وما على شاكلة ذلك من الأقوال المنصفة أخذ يتردد بكثرة أفواه منصفي الغرب الذين يرون المعجزات ناطقة في سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بينة في أحكامه التي لا يخالفها رأي حصيف أو علم صحيح.

 

وزبدة القول: أن ما نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الدواء الشافي الذي نلناه عن يد هذا الطبيب الأوحد، أكمل المخلوقات وأشرف من ولدته الأمهات.

 

فهو بحق المعجزة الكبرى. قد أتى في محيط بخلت فيه الطبيعة بمحاسنها المادية ولكن القدرة الإلهية جاءت فيها بهذه النفس الكريمة التي كانت خير إمام للناس في كل عصر. للناس الذين لا سعادة لهم إلا بالاعتراف بزعامتها الأولى وقيادتها التي تسوق إلى الخير وتسن للإنسانية ما يردع المستعمرين عن طرق أبواب الاستعمار وما يغني الطبقات العاملة والفقيرة (ploretoriat) عن أن تلجأ إلى الشيوعية التي تهدم ولا تستطيع أن تبني.

 

والإسلام وهو الدين الإنساني هو العروبة العالية المهدية ذاتها. فالعربي الصادق العروبة مسلم بميوله وعقيدته. والمسلم الصادق الإسلام عربي بميله وقلبه.

 

فلا تستعظموا أيها السادة أن يغار اللبيب من نحتفل به الآن على ابن عبدالله صلى الله عليه وسلم غيرته المضرية.

 

وإني شهيد أني رأيت من طمع اللبيب ما أدهشني. فقد رافقته في الطريق قبل يومين دقيقة واحدة علمت فيها أنه يطمع بأن لا يدانيه في حب محمد صلى الله عليه وسلم مدانٍ وإذا كنتم في ريب مما أقول فهذا كتابه بين أيديكم في كل فقرة منه أصدق دليل على ما لمحمد صلى الله عليه وسلم في قلبه من المحبة والتعظيم.

 

المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثانية، العدد الثالث، 1356هـ – 1937م

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.