فضل العمل الصالح وثمراته في العاجلة والآجلة

الأربعاء 11محرم 1438 الموافق 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر

فضل العمل الصالح وثمراته في العاجلة والآجلة[1]

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، فأتم علينا به الإنعام.

أحمده سبحانه هو الملك القدوس السلام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال ربي الله ثم استقام.

وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، أخلص عبد وأشرف مرسل وأكمل إمام، وصاحب الشفاعة العظمى للخلائق يوم القيام، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام.

أما بعد:

فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بالتقوى والعمل له سبحانه على ما يحب ويرضى والحذر من موجبات سخطه وجوالب عقوبته، فإن تلكم أسباب الضلالة والشقاء، وعاقبتها الندامة والخسران في الأخرى، فاعملوا صالحاً تحمدوه وتشكروا ربكم وترضوه، وتغتبطوا بعاقبته حين توافوه، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30].

عباد الله: العمل الصالح الحسن هو الغاية والحكمة من خلق السماوات والأرض، وما جعل على الأرض من زينة، بل ومن الموت والحياة، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تبارك اسمه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].

عباد الله:

وإذا كان ذلكم شأن العمل الحسن الصالح فإن محققه المستقيم عليه هو العبد الصالح الفائز من الله تبارك وتعالى بالمتجر الرابح، وإن فاقده أو مسيئه هو العبد الطالح الشقي الخاسر دنيا وآخرة، لما ارتكبه من الكفر والموبقات المهلكات القبائح، فاعملوا صالحاً تجدوه، ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].

أيها المسلمون:

العمل هو كل فعل يفعله الإنسان بقصده من نية القلب وإرادته وميله وحركته وقول اللسان وسكوته، وفعل الجوارح وتركها والحسن الصالح منه ما ابتغي به وجه الله ومرضاته من حيث القصد والنية، وكان على وفق الشرع في أصل المشروعية، وتحقق به التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأداء والكيفية، وما كان بضد ذلك فهو عمل طالح قبيح لكونه شركاً في القصد والنية، أو البدعة في الأصل والكيفية، قال تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك وأنا عنه غني))، وفي رواية: ((تركته وشركه))، وفيما صح من الحديث النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا -وفي رواية- من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، فالعمل الصالح ما ابتغي به وجه الله تعالى في النية وكان على وفق الشرع في الأصل والكيفية، وهو الحسن الذي يترتب عليه الثواب الحسن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

أيها المسلمون:

إن للعمل الصالح المبني على الإيمان المحقق ثمرات طيبة، وعواقب حسنة، وأجوراً كبيرة في الدنيا والآخرة، فمن ذلك الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والأمن بعد الخوف في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: 55]. ومن ثمرات العمل الصالح الأمن والاهتداء بحسبه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9].

اقرأ أيضا  أسس الأخلاق في الإسلام

معشر المسلمين:

ومن ثمرات العمل الصالح طيب الحياة، وتكفير السيئات، والثبات على الحق حتى الممات، ودخول الجنة، ورفعة الدرجات، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 7]، وقال جل ذكره: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [الأحقاف: 16]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 9]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [لقمان: 8،9]، بل إن الله تبارك وتعالى يتفضل على أهل الإيمان والعمل الصالح إذا تابوا من سيئاتهم وندموا عليها أن يزيدهم بعد تكفيرها عنهم، فيجعل ندمهم عليها حسنات متجددة، فكلما ذكروا الذنب وأحدثوا ندماً عليه كتب لهم بذلك الندم حسنة، قال تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها قال الله تعالى للملائكة: اكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّاي)) أي: من أجلي، وهكذا تعظم وتكثر حسنات المؤمن بإيمانه وعمله الصالح، ويصرف عنه شؤم سيئاته فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم، فما أسعد أهل الإيمان بالعمل الصالح دنيا وآخرة.

أيها المؤمنون:

ومن ثمرات العمل الصالح المبني على الإيمان بالله ورسوله أن الشهادة به لصاحبه من عاجل البشرى له في الدنيا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا شهدتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان))، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل من الخير فيحمده الناس عليه، قال: ((ذلك عاجل بشرى المؤمن)) رواه مسلم، وفيه أيضاً: ((أنتم شهداء الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة))، وأن صلاة أهل الإيمان عليه بعد موته شفاعة له تدخله الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من جنازة مسلم يصلي عليها أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا أدخله الله بها الجنة)).

معشر المؤمنين:

ومن بركات العمل الصالح للمؤمن أنه كلما ازداد عملاً نال به عند الله تعالى درجة ورفعة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة))، وأنه كلما أنفق نفقة يحتسبها حتى وإن كانت واجبة عليه فإنها تكون له صدقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها فهي له صدقة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك))، وأنه إذا مرض أو شغل كتب له عمله كاملاً، لما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم))، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض المؤمن قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب عز وجل: اختموا على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت)) رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح.

أمة الإسلام:

ومن ثمرات العمل الصالح كرم الجزاء عليه من الرب الكريم البر الرؤوف الرحيم، حيث يجزيهم أجرهم بمعيار أحسن عملهم لا أدناه ولا أوسطه، قال تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ [الأحقاف: 16]، وقال سبحانه: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 121]، ثم يثيبهم عليه ثواباً مضاعفاً، قال تعالى: ﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ [الكهف: 107،108]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29،30].

اقرأ أيضا  بشريات وآيات أمام المحن والابتلاءات

أمة الإيمان:

ومن ثمرات العمل الصالح دخول الجنة والتمتع بما فيها من النعيم المقيم، ورضوان الرب العظيم، والنظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]، وقال سبحانه: ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [العنكبوت: 58]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [الكهف: 107،108].

وهكذا -عباد الله- يضاعف للمؤمن عمله الصالح، ويضاعف له ثوابه، وينمى له أجره، ويتنوع له الجزاء الكريم عليه فيكون الجزاء عليه كثيراً وكبيراً وكريماً وعظيماً، قال تعالى: ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 173]، وقال سبحانه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 9]، وقال جل ذكره: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحج: 50]، وقال تبارك اسمه في تنوع الثواب وعظمه وحسنه: ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، وقال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

أخوتي في الله:

العمل الصالح أنواع فأفرضه وأحبه إلى الله تعالى وأعظمه شأناً عنده أن يؤدي العبد ما افترض الله تعالى عليه، ففي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه))، ولن تسلم للمؤمن فريضته حتى يجتنب ما نهاه الله عنه، وحرمه عليه، فالانتهاء عن المنهيات، والكف عن المحرمات هو ثاني أفضل وأعظم وأوجب العمل الصالح، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]، ولن يعصم المرء من المحرمات الموبقات حتى يتقي الشبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، وكمال العمل الصالح وزينته التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، قال تعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))، فأصل العمل الصالح أداء فرائض الطاعات، وحفظه باجتناب المنهيات، وكماله باتقاء الشبهات وفعل المستحبات.

أحبتي في الله: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أنبئني عن أمر إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم أدخل الجنة بسلام)) رواه الحاكم وصححه، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعد خمساً وقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه الترمذي وهو حديث حسن، وعن ركب المصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن طاب كسبه، وصلت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله)).

اقرأ أيضا  خطبة المسجد النبوي - اغتنم حياتك للآخر

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا *وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 66-70].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه، وأنزل له من الهدى والبيان، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على هداه، والشكر له سبحانه على سابغ نعماه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فلا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، الذي بعث بمهمات منها أن توصل الأرحام ويوحد الله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من اتبع هداه.

أما بعد:

عباد الله اتقوا الله حق تقواه، واجعلوا همتكم وسعيكم في رضاه، وتذكروا آجالكم وأنها قواطع أعمالكم، وحوائل دون آمالكم، فالسعيد من اغتنمها قبل أن يفضي إلى أخراه في كل ما يحبه الله ويرضاه. فإن كل عبد مرتهن بما قدمت يداه.

عباد الله: لقد سمى الله الموت مصيبة لأنه به ينقطع العمل ويحال بين المؤمل والأمل، ولذا يحصل عنده تمني المحال، من المهلة لصالح الأعمال، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99،100]، فما من أحد يحضره الموت إلا تمنى الرجعة، فإما محسناً فيزداد، وإما مسيئاً فيستعب، ولذلكم حظ ربكم تبارك وتعالى على اغتنام المهل بصالح العمل، وأخبركم أنه إذا حضر الأجل حيل بين المحتضر وبين صالح العمل، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10،11].

فاتعظوا – معاشر المؤمنين – بمن سمعتم وشاهدتم من الراحلين المحسنين والمسيئين، كيف فُجئوا بآجالهم، وقطعت أعمالهم، وحيل بينهم وبين آمالهم من أمور الدنيا والآخرة، فصاروا أثراً بعد عين، وحديثاً للمتحدثين، فهاهم تحت الجنادل محبوسون، ولأنموذج من ثوابهم يتذوقون، وليوم القيامة ينتظرون، فاعتبروا بغيركم قبل أن يعتبر بكم، وكونوا أسوة في صالح العمل لمن بعدكم، ولا تغفلوا فإنه ليس بمغفول عنكم، ألا وإن السعيد من يعمر في الإسلام على صالح عمل، وإن الشقي من رتع في دنياه رتوع البهائم وغفل، وإن المؤمن لن يزيده عمره إلا خيراً، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، فأتباع نوح وسلفه كثيرون، وأتباع إبليس وجنده أكثر العالمين، فللجنة واحد وللنار المئات، ﴿ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5،6].

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

[1] خطبة الشيخ عبد الله بن صالح القصير -حفظه الله- بجامع الأمير فيصل بن محمد بن تركي آل سعود.

المصدر: الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.