شعب بلا أرض إلخ إلخ..

الاثنين 10 رجب 1434 الموافق 20مايو/آيار 2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

محمد بدارنة ــ فلسطين

الشعب الذي لا يروي/ لا يتمكن من أن يروي ويكتب قصته مجدداً ومجدداً، هو شعب لا وجود له. فماذا يعرف العالم اليوم مثلاً عن إبادة الشعوب الأصلية للقارتين الأميركيتين، وهي اشنع الجرائم. شعوب ابيدت بالكامل، ولم يبق أحدٌ ليروي ما حدث. ثم إن أغلب من تبقوا لم يملكوا لغة مكتوبة يسجلوا فيها قصصهم، فذابوا هم وقصصهم في الإسبانية والبرتغالية والإنكليزية. وبطبيعة الحال، لم يكتب الرجل الأبيض قصتهم، بل فكر كيف يمحوها في قصصه هو، لكي لا يتعامل، هو وأطفاله معها في المستقبل. وكل ما هو معروف مصدره أبحاث أكاديمية أميركية أعدت بعد خمسينيات القرن العشرين ولم تصل بعد الى شعب يستمر بالاحتفال سنوياً بذكرى مجازر ارتكبت قبل قرون بحق السكان الأصليين، من غير أن يعي سبب ومغزى تلك الاحتفالات.

الحركة الصهيونية منذ عشرينيات القرن الأخير عرفت أن التاريخ غير المصور في العصر الجديد غير موجود.

الحملات العسكرية لمحو فلسطين عن طريق التطهير العرقي نفذت بالأساس عام 1948 ، الا أن محو الفلسطيني وبناء الاسرائيلي سينمائياً قد ابتدأ في عام 1911، وانتهى رسمياً في العالم 1948 حين تحققت “نبوءة” تلك الأفلام! كان الفيلم الأول بعنوان “فيلم أول في أرض اسرائيل” من إخراج موري روزنبرغ. كان الهدف المعلن من ورائه هو إحضار مشاهد من “أرض اسرائيل” الى المؤتمر الصهيوني العاشر.

عرفت الحركة الصهيونية مبكراً أهمية الأداة السينمائية وإمكانيات تأثيرها في العالم لتحصيل مكاسب سياسية من أجل بناء دولة يهودية في أرض فلسطين. جميع الأفلام الإسرائيلية حتى نهاية أربعينيات القرن العشرين كانت عبارة عن أفلام بروباغندا مباشرة. حتى الأفلام الروائية منها ارتكزت بأغلبها على مشاكل “الرواد” اليهود الى “أرض اسرائيل”. كان التركيز يتم على تصوير أراض خالية في البراري للتشديد على الرواية الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. بحسب هذه الأفلام كلها، فإن “الرواد” اليهود هم عبارة عن شجعان يفلحون بسواعدهم أرضاً بتولاً خالية، ويشيدون فيها المستوطنات.

قد غيّب الفلسطينيون في هذه الأفلام. وإن صوّروا، فكانوا رعاة قطعان لا يضيفون أي شيء على المنظر الشاسع الخالي، أو أطفال في قرى فقيرة عبثية. كان لهذه الدعاية تأثير قوي في العالم لجلب اليهود الى فلسطين والحصول على تأييد قوى الإمبريالية بما يتعلق ببناء الدولة اليهودية في فلسطين. بحسب هذه الأفلام، لا وجود للفلسطيني المتحضر، فإن لم يصوّر فهو حتماً غير موجود.

اقرأ أيضا  القيم والحضارة الإسلامية

لا وجود للنكبة في تاريخ السينما الإسرائيلية. هناك مواد أرشيفية أغلبها لا يسمح للمواطنين بالإطلاع عليها. حتى يومنا هذا كل نص رسمي يدرّس، يتعامل مع تاريخ السينما الإسرائيلية، يتجاهل الاسم “فلسطين” بالكامل حتى لو تكلم عن أوائل القرن العشرين. كل ما صوّر قد صوّر بـ”أرض اسرائيل”. وبالطبع لا وجود لسينمائيين فلسطينيين بتاتاً. هذا بالرغم من أنه وفي بعض الحالات كان هناك تعاون بين سينمائيين فلسطينيين ويهود قبل النكبة.

***

لو فكر أحد السينمائيين أو المصورين الهواة بتوثيق النكبة فما كان لينجح. أغلب الظن أن كاميرته كانت ستصادر خلال التهجير قبل أن يتم سرقة كل ما يملك من نقود وأغراض ثمينة. أما في ما يخص المرحلة الثانية من النكبة ـ اللجوء ـ فإن الحياة فيها تبدأ عند البحث عن لقمة عيش لا عن كاميرا. وحتى إن جاءت الكاميرا بعد سنين، فأغلب الظن ان ما ستنتجه سيكون فيلما تسجيلياً بدائياً عن تلك الفترة. لكن بالتأكيد لن يفكر أحد أو يتجرأ على إخراج فيلم روائي يتطلب ممثلين وإضاءة وديكور وميكساج. توقفت إذاً السينما الفلسطينية كلياً بعد النكبة لتعود بشكلها التسجيلي فقط في عام 1967 مع انطلاق الثورة والكفاح المسلح، حيث كانت تسجيلية ترافق بندقية الفدائيين وحياة اللجوء. نكبة السينما شبيهة بنكبة الأرض والبيت والكتاب الفلسطيني. فببساطة، الأفلام الفلسطينية التي صورت قبل عام 1948 مسلوبة أو مفقودة حتى إشعارٍ آخر. بعض هذه التسجيلات موجودة في الأرشيف الاسرائيلي والأرشيف البريطاني وفي أرشيفات أوروبية أخرى، والبعض فقد اثناء تهجير يافا والقدس (حيث تواجد السينمائيون وأفلامهم). أول فيلم فلسطيني صُوّر (فيلم وثائقي بسيط) هو تسجيل مدته 20 دقيقة قام على صناعته كل من الرائدان السينمائيان الفلسطينيان ابراهيم حسن سرحان وجمال الأصفر (هناك عدم وضوح حول من منهما قام بعملية الإخراج). يوثق الفيلم زيارة الملك عبد العزيز آل سعود الى فلسطين في عام 1936. كثيراً ما أتساءل ما اذا كانت هناك مواد تصويرية أدخلها أو لم يدخلها المخرج للشهيد البطل عبد الرحيم محمود وهو يلقي تلك القصيدة أمام الملك عبد العزيز ويسأله “المسجد الأقصى أجئت تزوره… ام جئت قبل الضياع تودعه؟”. من الصعب معرفة ذلك اليوم لآن جمال الأصفر انقطعت أخباره بعد النكبة وكل ما هو معلومٌ عنه أنه استقر في الكويت. أما ابراهيم سرحان فقد توفي في 1987 في مخيم شاتيلا للاجئين في لبنان. رحل سرحان من غير أن يرى أعماله التي تضمنت افلاما وثائقية وروائية فقدت كلها بعد أن ترك يافا في عام 1948. السينما الفلسطينية كانت تمر بما يمكن أن يوصف بأنه نهضة في أربعينيات القرن المنصرم . فبالإضافة الى تزايد صالات العرض في فلسطين، بدأت تقام شركات انتاج تختص بالأفلام السينمائية، وكانت تنتج بالإضافة الى الأفلام دعايات وإعلانات تجارية. بطبيعة الحال، توقفت السينما الفلسطينية حين توقف التاريخ الفلسطيني وصمت لمدة عشرين عاماً بعد النكبة.

اقرأ أيضا  خوف على سيناء وليس منها

***

أي جدال عن سرد النكبة الفلسطينية في السينما الفلسطينية هو مرتبط حتماً بأن السينما نفسها قد انتكبت وانتكست.

لم تنته نكبة السينما الفلسطينية في عام 1948. فهناك أيضاً نكسة السينما الفلسطينية عام 1982 (ضياع الأرشيف الفلسطيني في ظروف غامضة بعد ان تركت منظمة التحرير الفلسطينية لبنان في طريقها الى تونس). اذاً عجلة السينما الفلسطينية توقفت مرات المرات، واحياناً كانت تعود لتبدأ من الصفر مجدداً، ناهيك عن ان التطور السينمائي يحتاج الى أرض، الى جغرافيا، لم ولا يملكها الفلسطينيون حتى يومنا هذا.

من غير الممكن تعريف فيلم كـ”فيلم نكبة” على غرار “فيلم محرقة” (المحرقة النازية). المحرقة النازية انتهت وكل “أفلام المحرقة” ما هي إلا محاولات لكشف حقائق ومواجهة الماضي الشرس من أجل استخلاص العبر و/ أو بهدف بناء سردية يهودية جماعية. اذ أن أفلام المحرقة والأفلام المدعومة من مؤسسات صهيونية هي من أهم الأدوات التي ساعدت وتساعد على تخطي عائق اللغة المشتركة في الطريق لبناء “القومية اليهودية”.

اقرأ أيضا  المجموعة العربية تعترض على ترشيح إسرائيل لمنصب أممي

أما النكبة الفلسطينية فما زالت مستمرة. لم تتوقف لنذكرها ثم نستخلص العبر. حتى لو كانت أحداث الفيلم تدور عام 1948، ففي ظروف استمرار الاحتلال وحياة اللجوء، لا يتم النظر الى هذا الفيلم كفيلم تاريخي، أو “فيلم نكبة”، بل هو يعتبر “سينما مقاومة”.

***

وصلتني مؤخراً الرسالة التي بستدعي بواسطتها “مهرجان تل أبيب الدولي لأفلام الطلبة” مخرجين عرب للاشتراك في “مؤتمر الإعلام والسينما الفلسطينية”، الذي سوف يعقد في شهر حزيران/ يونيو القادم خلال أيام المهرجان. تنص الرسالة على أن الهدف من المؤتمر هو “تمكين الحاضرين من التعرف على صانعي الأفلام الفلسطينيين والتركيز على أعمالهم المتنوعة والمهمة والقيمة”. من يقرأ الجملة الأخيرة بإمكانه ان يعتقد ان إنجازات السينما الفلسطينية في القرن المنصرم فاقت السينما البولندية في أسوأ الحالات. الهدف من وراء هذا الكلام المعسول هو التحبب للمخرجين العرب وحثهم على الاشتراك في المؤتمر. هذا التوجه المسترضي لا تنفرد به الساحة الثقافية الإسرائيلية فقط، بل الساحة الثقافية الغربية بشكل عام. وهو في أحسن الحالات يجعلني أشعر كتلميذ الصف المعاق الذي يُصفَّق له تشجيعاً بعد أن يعمل أبسط الحركات أو يجيب على أتفه الأسئلة. لست معاقاً. لست معاقاً لدرجة أنني أعرف أنه لا وجود لسينما فلسطينية أصلاً. لا وجود لسينما فلسطينية بل أفلام فلسطينية صنعها سينمائيون أفراد. السينما لا تتطلب مخرجين فقط. فبالإضافة لكون الفيلم عملاً فنياً يحتاج للعديد من الأشخاص لينجزوه، فهو كأي فن آخر يحتاج لمدراس ومؤسسات وحوار بين صانعيه من اجل تطويره. ونحن نفتقر لكل هذا منذ النكبة وبفعلها.

المصدر: السفير

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.