سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
الأحد 25 ربيع الأول1438 الموافق25 ديسمبر/ كانون الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ محمد أبو عجيلة أحمد عبدالله
أما بعد:
إنّ سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – نور ساطع وهّاج، أفضى إلى ظلمات الجهل والوثنيّة، فانجابت كما ينجاب الغمام، وهدى من الله أرسله إلى الإنسانيّة الضّالّة، فانتشلها من ضياع، وانتاشها من هلاك، وأنقذها ممّا كانت تتخبّط فيه من دياجير الظّلام، وعقابيل الضّلال.
وسيرته _صلى الله عليه وسلم -هي خير وسيلة للتّعلّم والتّهذيب والتّأديب، وفيها ما يرجوه المؤمن من دنيا ودين، وعلم وعمل، وآداب وأخلاق، ورحمة وعدل، وجهاد واستشهاد في سبيل الله، ونشر العقيدة والشّريعة، والقيم الإنسانيّة النّبيلة. ولقد كانت سيرته _صلى الله عليه وسلم -مدرسة تخرج فيها أمثل النماذج البشرية، وهم الصحابة- رضوان الله عليهم- فكان منهم الخليفة الراشد، والقائد المحنك، والبطل المغوار، والسياسي الداهية، والعبقري الملهم، والعالم العامل، والفقيه البارع، وغيرهم من النماذج العظيمة.
يقول الإمام الزهري «في علم السيرة علم الدنيا والاخرة» وروي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: «كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني هذه شرف ابائكم، فلا تضيعوا ذكرها».
عباد الله:
إنَّ الله -جل وعلا- بعثَ نبينا محمدًا “صلى الله عليه وسلم “بالكتاب والحكمة، ﴿ ليُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صَراط العزيز الحميد ﴾. ومن أكبر نعم الله على عباده، أن امتن عليهم، بهذا الرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم ” الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، وزكي قلوبهم وطهرها من أدناس الشرك والفجور والضلال، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾. رسول يعرفون نسبه، وحاله، ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحا لهم، مشفقا عليهم، يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها.
هو دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام، ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ. آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾, وبشارة عيسى عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾. ورؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، قال ابن اسحاق: كانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد وآية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض واسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض واسمه في القرآن محمد.
عظيم القدر عند الله، أقسم الله بحياته فقَالَ: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾.
وخَاطَبَ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهمْ، فَقَالَ: يَا آدَمُ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ يَا مُوسَى يَا دَاوُدُ يَا عِيسَى يَا زَكَرِيِّا يَا يَحْيَى، وخاطبه هو: {يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}.
وكَانَ رسول الله “صلى الله عليه وسلم ” أحسن النَّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً، وفي البخاري سئل البراءُ أكَانَ رسول الله مثل السيف؟ قال: {لا بل مثل القمر. وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال كَانَ النَّبِي إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه فلقةُ قمر}، وفي وصف أم معبد الخزاعية لِرَسُولِ اللهِ : ” رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجَ الْوَجْهِ حَسَنَ الْخَلْقِ لَمْ تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ- أي لَيْسَ بطنه ضخم – وَلَمْ تَزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ – أي لَيْسَ رأسه صغير وَسِيمٌ قَسِيمٌ – أي جميل معتدل القامة – فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ – أي شدة سواد العين مَعَ سعتها -.وفِي أَشْفَارِهِ عَطَفٌ وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَزَجُّ أَقْرَنُ إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُم مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ لَا نَذْزٌ وَلَا هَذْرٌ كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ تحَدَّرْنَ رَبْعَةٌ لَا بَائِنُ مِنْ طُولٍ وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ هُوَ أَنْظَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ إِنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لَا عَابِسَ وَلَا مُعْتَدَ.
ومع حسن جمال خِلْقَتِهِ فقد حباه الله جمالاً في الأخلاق، وكرماً في الطباع، وحُسْناً في السيرة، وصفاء في السريرة.
أثنى عليه ربه -جل شأنه – ووصفه بأعظم الصفات وأرفعها، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ وفي الصحيح أن هشام بن حكيم سأل؟ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: “كان خلقه القرآن”.يقول أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ “خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ”. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ل”َمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا”.
وعن عائشة قالت: ما ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خادما له قط، ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل من شيء فانتقمه إلا من صاحبه إلا أن ينتهك محارم اللَّه فينتقم للَّه عز وجل.
وقد بلغ مبلغا عجيبا في الرحمة والشفقة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ شملت تلك الرحمة كل الناس؛ الضعيف منهم والقوي، السيد منهم والعبد، القريب منهم والبعيد، الصاحب منهم والعدو، بل امتدت تلك الرحمة لتشمل الجن والبهائم، والأعجب من ذلك كله أنها شملت جذع الشجرة الذي كان صلى الله عليه وسلم يخطب عليه الجمعة، حيث نزل من على المنبر يهدهده ويضمه إليه حتى سكت عنه الأنين، ولا غرابة من ذلك فالذي أوجد في قلبه كل تلك الرحمات هو الله الخالق البارئ، يصدق ذلك قوله تعالى: ﴿ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الآية ﴾.
وكان يسمع بكاء الصبي وهو يصلي بالناس فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتن أمه. عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،قَالَ:{ إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ من بكائه}. صحيح.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إ{ِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شاء}. صحيح.
وعن أنس، أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: {دعوه، ولا تزرموه،_ لا تقطعوا بوله_ فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبّه عليه}. وعن معاوية بن الحكم قال: بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك اللَّه: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمّاه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتونني، لكني سكتّ، فلما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فبأبي وأمي- ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو اللَّه ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن} لبخاري ومسلم.
وكان”صلى الله عليه وسلم ” أَشَدَّ الناس تواضعا وأعدمهم كِبْرًا، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فاختار أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا،وقد تواضع للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلّا بإطراقه وحيائه فصار بالتواضع متميزا وبالتذلل متعززا”،وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى خلقني عبدا، واتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا، ثم اتخذني عبدا وجعلني نبيا، ثم أنا نبي الله وعبده}.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ {أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ سِكَكِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكِ قَالَ فَفَعَلَتْ فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قضت حاجتها}. صحيح
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم, ويداعب صبيانهم, ويضعهم في حجره, وكان أتقى الناس وأشدهم له خشية،قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشية».و عن عائشة رضي اللَّه عنها أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم {كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا}،البخاري.
وعنها أيضا:{ كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ }.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) وكان -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يبكي من خشية الله، فربما قرأ القرآن فبكى، وربما قُرئ عليه القرآن فذرفت عيناه، وربما جلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى من الدموع، وكان إذا صلى سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
و كان”صلى الله عليه وسلم ” أشجع الناس وأشدهم شكيمة،عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا».
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَرَكِبَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيًا، فَخَرَجَ النَّاسُ فَإِذَا هُمْ برَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوتِ قَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا، }
و كان “صلى الله عليه وسلم” أكرم الناس, يعطي عطاءً لا يعطيه أحد من البشر, جاءه رجل فأعطاه غنما من جبلين, فرجع إلى قومه فقال: يا قوم, أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّه قال: ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قطّ فقال: (لا).
وكان”صلى الله عليه وسلم ” أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة, خيره الله تعالى بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً, فاختار أن يكون عبداً نبياً, وخيره بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش وبين ما عند الله فاختار ما عند الله. رأى عمر أثر الحصير في جنب النبي”صلى الله عليه وسلم ” فبكى عمر فقال له رسول الله ” صلى الله عليه وسلم: “ما يبكيك يا عمر”؟ قال: والله إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على الله عز وجل من كسرى وقيصر, وهما يعبثان في الدنيا فيما يعبثان فيه, وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ ” قال عمر: بلى, قال: “فإنه كذلك”.
وكان يمرّ به هلالٌ وهلال وما يوقَد في بيوتِه نار، ويبيتُ اللياليَ المتتابعة طاويًا وأهلُه لا يجِدون طعاما، يقول عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: {لقد رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يلتوي من الجوعِ ما يجِد من الدّقل ـ أي: رديء التّمر ـ ما يملأ بطنه}. رواه مسلم.
وخرَج من بيته من شدة الجوع، وربط على بطنهِ الحجرَ من ألم الجوع، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون الجوعَ فيه من تغيُّر صوته، يقول أبو طلحة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرِف فيه الجوع. وتأتي أيّام على بيتِ النبوّة وما فيها إلا الماء، لقي من الحياة الآمها و مشاقَّها، فقد نشأ يَتيمًا فاقدًا حنانَ الأمومة، وتوفِّيَ أباه ولم يأنَس برؤيته، ومات ستّةٌ من أولاده في حياتِه، صبَر على كمَد الحياة ولأوائِها، ولقد أوذي رسول الله ” صلى الله عليه وسلم “في سبيل الدعوة أشد الأذى وأعنفه، آذاه قومُه بالقولِ والفعل، قال أنس رضي الله عنه: ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّةً حتى غُشِي عليه. اتَّهموه بالجنون، ورمَوه بالسِّحر، ووصفوه بالكذب، وقال الكافرون: ﴿ هذا ساحِر كذّاب ﴾.وكُسِرت رَباعيّته وشُجّ في وجهه وسالَ دمُه في أحد، وضَعوا السّمَّ في طعامه وسَحَروه في أهله. توالَت عليه المصائبُ، وتوالَت عليه المحَن، وربُّه يقول له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ). يبثُّ أشجانَه وأحزانَه إلى زوجته، يقول: ((يا عائشة، لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ)) رواه البخاري
فلم توثر فيه تلك الكروبُ عن الدّعوة إلى الله، يقول عن نفسه: ((لقد أوذِيتُ في الله وما يؤذَى أحَد، وأخِفتُ في الله وما يخاف أحَد)) رواه أحمد
وما نال منه أحد بسوء إلا أخزاه الله وانتقم منه في الدنيا و الآخرة، ﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾.
فهذا فرعون هذه الأمة أبو جهل لعنه الله _ قَالَ للمشركين: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ.قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِك لاطأن على رقبته، ولاعفرن وَجهه بِالتُّرَابِ.فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فجأهم مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بيدَيْهِ.قَالَ: فَقيل لَهُ: مَالك؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا “.
فَكَانَت نهايته عَلَى يَدَيْ شَابٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُوقَفُ عَلَيْهِ عبد الله بن مَسْعُود ومسك بلحيته وَصعد على صَدره حَتَّى قَالَ لَهُ: لقد رقيت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا حَزَّ رَأْسَهُ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى وَضْعَهُ بَيْنَ يدى رَسُول الله.
أهلكه الله تبارك وتعالى، ورمي كالجيفة النتنة. وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: {كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ “.
وعند مسلم: فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذاً. أخرجهُ البخاري ومسلمٌ.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ معلقاً على القصةِ: ” فهذا الملعونُ الذي افترى على النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له ؛ قصمهُ اللهُ وفضحهُ بأن أخرجهُ من القبرِ بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمرٌ خارجٌ عن العادةِ، يدلُ كلّ أحدٍ على أن هذا عقوبة لما قالهُ، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامةُ الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجُرمَ أعظمُ من مجرد الارتداد، إذ كان عامةُ المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن اللهَ منتقمٌ لرسولهِ صلى اللهُ عليه وسلم ممن طعن عليه وسبهُ، ومظهرٌ لدينه، ولكذبِ الكاذبِ إذا لم يمكن للناسِ أن يقيموا عليه الحد “.ا.هـ.
ذكر القاضي عياض قصةً عجيبةً لساخرٍ بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم وذلك أن فقهاءَ القيروانِ وأصحابَ سُحنُون أفتوا بقتلِ إبراهيم الفزاري، وكان شاعراً متفنناً في كثير من العلومِ، وكان يستهزىء باللهِ وأنبيائهِ ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر القاضي يحيى بن عمرَ بقتله وصلبه، فطُعن بالسكينِ وصُلب مُنكسأً، ثم أُنزل وأُحرق بالنارِ، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي استدارت وحولته عن القبلةِ فكان آيةً للجميعِ، وكبر الناسُ، وجاءَ كلبٌ فولغ في دمهِ..
وإن أحداث التاريخ مليئة بالمواقف والأحداث والعبر، وأن الله قد تكفل بالدفاع عن نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وكفايته ممن استهزأ به، ﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾.
الخطبة الثانية
إننا لسنا نريد من دراسة السيرة قصة تتلى فقط،إنما نريد ما يزيد الإيمان، ويزكي السريرة، ويعلو بالأخلاق، ويسمو بالقيم، ويقوم المسيرة. نريد أن تكون السيرة النبوية مدرسة نتخرج فيها، كما تخرج السادة الأولون، وأن نكون مثلا صادقة لصاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته الكرام عليهم الرضوان- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام، كما اعتز بهم، ونكون في حاضرنا- كما كانوا- خير أمة أخرجت للناس.
وإن عزنا وسعادتنا وصلاحنا وهدايتنا مرهونٌ باتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشواهد ذلك جلية في نصوص الشرع وحوادث التاريخ. – فاتبعوا ولا تبتدعوا، وتمسكوا بهدي الوحيين، وسيروا على منهاج النبوة، فإن من سار على الهدى نجا، ومن حاد عن الصواب هلك.