محمد أجاب ربًّا دعاه – محمد نصر ليله

السبت 1 ربيع الثاني 1438 الموافق 31 ديسمبر/ كانون الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

نرى النور في الكون كله ساطعًا، والبرية ما زالت بضياه تهتدي، محمد خيرُ خلق الله كلهم، خاتم الرسل، والشفيع للأمةِ (صلى الله عليه وسلم).

لو تيسَّر لنا أن نعود بالزمن إلى الخلف، إلى حقب الظلام، إلى عصور الجهل والطغيان، لوجدنا البشرية قابعةً في غابة استوائية كثيرة المستنقعات ذات وَحَلٍ، متشابكة الأغصان، نهارها كليلِها أسودُ مظلم، لا يصل نور الشمس إلى أرضها، ليلها أشد سوادًا، إذا أخرَجْتَ يدك لم تكَدْ تراها

ولمَ لا والأرض كلها في جاهلية ظلماء، وعصبية جهلاء، وقادتها ذوو عقولٍ خرقاء؟!

وفي وسط هذه الظلمة، ورغم شدة العتمة، ومع زيغ الأبصار والأفئدة، أُرسِل نورٌ من عند الله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، فأنارت الأرض بنورِ كتاب ربها الذي أنزله على نبيِّه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتبدَّدت ظُلمات الجاهلية، وانقشعت عتمتُها، وصار ميزان الحكم بين الناس كتاب الله، ومصدر الحكم الشرع المُحمدي الذي آتاه الله إياه، وظل خاتم النبيين يدعو إلى الله لا يَكِل ولا يَمَل، إلى أن أتاه المنادي فأجاب ربًّا دعاه

انتصف النهار، اليوم – على الراجح عند أهل العلم، وقد ذكر ابن كثير أقوالهم كاملة في البداية والنهاية[1] – هو يوم “الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام 11 هـ”[2].

كأننا الآن في وسط الجموع الهادرة التي تنتظر بالمسجد النبوي، لتطمئنَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يُمَرَّضُ في حجرة ابنة الصديق عائشةَ رضي الله عنها وعن أبيها، الوجوهُ ساهمة، والأبصار متعلِّقة بباب الحجرة، تكاد مِن سكون الناس أن تسمع دقات قلوبهم وأصوات أنفاسهم، يتمنَّى الجميع رؤيةَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتنشرح صدورهم ببهاء وجهِه صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوعَك وعكًا شديدًا، بل يُوعك كما يُوعك الرجلان منَّا؛ أخبرنا بذلك ابن مسعود[3].

إلى أن سمعوا ما ساءهم، فأصابهم المصاب، ونزلت بهم النازلة، وألمَّت بهم الفاجعة، “قُبضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم!”، ولكن سُنَّة الله في خلقه ماضية: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ﴾ [الأنبياء: 34]، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26]، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، إنَّها ساعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30].

ساعتَها ذهل ذوو الألباب الثابتة، وأُقعد ذوو الأجساد الصلبة، وطاشت الأفئدة العاقلة، وكادت قلوب المؤمنين ترتجف، بل ارتجفت بالفعل؛ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم!

قال ابن رجب: “ولَمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم مَن دهش فخُولِط، ومنهم من أُقعد فلم يطق القيام، ومنهم مَن اعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم مَن أنكر موته بالكلية”[4].

في ذلك اليوم كانت أشد النوازل التي كادت أن تكسر شوكة الإسلام، بل كادت أن تستأصل تلك الحادثة شَأْفَته، لولا لطف الله بعباده، فسخَّر الله لتلك الأمة ذلك الطَّوْدَ الراسي، والجبل الشامخ، الصديق أبا بكر رضي الله عنه.

وإننا مهما أكثرنا الوصف لنستشعر شدَّة المصاب، فلن نستطيع أخذ فؤادك إلى تلك الدرجة من الصدمة التي أصابت قلوبَ أهل بدر وأُحُد والخندق، وأصحاب بَيْعة العقبة وبيعة الرضوان، وجنود جيش العُسْرة، لن تبلغ الكلمات تلك الدِّقة لتصف آهات الأنصار، ولا أنَّات المهاجرين، فالمصاب جَلَل، والحدث جد خطير؛ لذا فإنَّا سنرى شدة الفاجعة بمشهد هام، ألا وهو أثر ذلك الخبر على قلب رجل شديد، وإننا إن بحثنا عن أشد القلوب وأكثرها رسوخًا، فلن نجد بعد قلب أبي بكر إلا قلبَ الفاروق عمر.

قال ابن إسحاق – بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال -: لما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب، فقال: “إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تُوفي، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً ثم رجَع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلَهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات”[5].

وظل عمر يُهدِّد ويتوعَّد مَن يقول بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن جاء أبو بكر الصديق، فخرج أبو بكر، وعمرُ يتكلَّم في الناس ويتوعد مَن قال بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اجلِسْ يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبَل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال الله: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144][6].

اسمَعْ مقالة عمر بقلبك وروحك، قال عمر: “والله ما هو إلا أن سمِعتُ أبا بكر تلاها، فعقرتُ حتى ما تُقِلُّني رِجلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرض حين سمعتُه تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات”[7].

هكذا كان حال الرجل الشديد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لك أن تنظر إلى حال الفاروق عمر، وهو مَن هو، هو بابٌ بيننا وبين الفتن، ورغم ذلك كاد أن يُفتن لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من عِظم المصاب، أُغرقت بيوتات المدينة وطرقاتها وساحاتها بدموعٍ منهمرة، كانت كالأنهار الجارية، حتى كادت مآقي العيون أن تجف!

  • وإلى مشهد آخر مع مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلال):

لما انتقل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وحان وقت الصلاة، قام بلالٌ يُؤذن في الناس – والنبي صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى لم يُدفن بعد – فلما وصل إلى قوله: (أشهد أن محمدًا رسول الله) خنقته العبرات، واحتبس صوته في حلقه، وأجهش المسلمون بالبكاء، وأغرقوا في النحيب، ثم أذَّن بعد ذلك ثلاثة أيام، فكان كلما وصل إلى قوله: (أشهد أن محمدًا رسول الله) بكى وأبكى، عند ذلك طلب من أبي بكر خليفة رسول الله أن يعفيه من الأذان بعد أن أصبح لا يحتمله، ثم خرج إلى الشام بعد أن استأذن أبا بكر، وكان قد تعهَّد ألا يُؤذِّن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قدِمَ عمرُ بلاد الشام، فلقي بلالًا بعد غياب طويل، وكان شديد الشوق إليه، عظيمَ الإجلال له، وهناك عزم الصحابة على بلال أن يؤذن في حضرة الفاروق، فما أن ارتفع صوته بالأذان حتى بكى عمر وبكى معه الصحابة، حتى اخضلَّت اللِّحى بالدموع، وحين حضرت بلالًا الوفاةُ كان يفتح عينيه وهو يقول: “وافَرَحَاه، غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه!”، إلى أن فاضت روحه[8].

حتى إن ابن هشام رحمه الله تعالى قد ذكر من ذلك الكثير تحت عنوان “افتتان المسلمين بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم” في كتابه السيرة النبوية[9].

ولقد رثى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرُ واحد من الصحابة، بل رثاه بعضهم في أكثر من قصيدة، مِن هؤلاء كان حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصائد مِن عيون شعر الرثاء، قال في إحداها:

ما بالُ عينِك لا تنامُ كأنَّما

كُحِلتْ مآقيها بكُحْلِ الأَرمدِ

جزعًا على المَهْديِّ أصبح ثاويًا

يا خيرَ مَن وَطِئ الحَصى لا تَبعُدِ

وَجْهِي يَقيك التُّرْبَ لَهْفِي لَيْتَني

غُيِّبتُ قَبْلَكَ في بقيعِ الغَرقدِ

بأبي وأمِّي مَنْ شهِدتُ وفاتَهُ

في يومِ الاثنينِ النَّبي المُهْتَدِي

فظللتُ بعدَ وفاته متلبِّدًا

مُتَلددًا يا ليتني لم أُولَدِ[10]

وإذا أردنا أن نضع أبيات مَن رثى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقصائدَهم أمام نُقَّاد الشعر، لَتحيَّروا من صدق دموع ناظميها، ولتَعَجَّبوا من صوت البكاء الذي ما زال يتردد في أبياتها، ولَكَادت تذرف أعينهم بالدموع؛ لِما سيرون من أشجان وُضعت وسُطرت فيها!

أنذكر رثاء عمَّتِه صفيةَ له، أم رثاء الحارث ابن عمه له، أم رثاء الصديق له… إلخ؟!

لكن إن سألتَني عن أكثر ما قيل بلاغةً في ذلك الحادث، وأشده أسًى، فهو قول فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مات أبوها صلى الله عليه وسلم قالت: “يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه، مَنْ جنةُ الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل نَنْعاه!”[11].

السوسنة

اقرأ أيضا  لإنقاذ الثورة المصرية
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.