العلاقة بين الفرد والمجتمع المسلم
الخميس 24 جمادى الثانية 1438 الموافق 23 مارس/آذار 2017 وكالة معراج للأنباء الإسلامية
أ. د. فؤاد محمد موسى
سبق أن تناوَلْنا في السابق أن المجتمع المسلم نسيجٌ اجتماعيٌّ، يجب أن تسوده المحبَّةُ الكلية النابعة من حب الله تعالى، هذا الحب الذي يغشى الأمةَ بالسعادة والمودة والرحمة والألفة، نتيجة تطبيق منهج الخالق، العالم بصلاح المجتمع ونسيجه الاجتماعيِّ، فقد حدَّد الخالق عز وجل طبيعة عَلاقة النسيج الاجتماعيِّ بين كل عناصر المجتمع وأفراده، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 388]، وهنا نتناول جزءًا من نسيج المجتمع، وكيف يُظِلُّه الحب كله.
العلاقة بين الفرد والمجتمع
لم تُحقِّق النُّظُمُ الوضعية – التي شرعها الإنسان لنفسِه لتنظيم عمل الجماعة داخل المجتمع – التوازنَ بين حقوق الفرد ونظام الجماعة؛ فنحن نرى على مرِّ التاريخ كيف كان الفرد عرضةً لانتهاك حقوقه وحريته باسم النظام الذي تفرضه الدولة أو الحكومة على أفرادها!
فالنظام الشيوعي الذي ساد مدةً من الزمن جعل الفرد كما يقال “تُرسًا في آلة”؛ من أجل النظام واستتبابه، لقد سُخِّرَ الإنسان في هذا النظام الشيوعي، وانتُهِكت أبسط حقوقه الإنسانية، وعلى نفس المستوى حدث هذا في المجتمعات التي يسودها النظام الدكتاتوري؛ حيث يُستعبد الفرد من جانب الحاكم باسم النظام، وحتى في المجتمعات الغربية – التي تدَّعي لنفسها الحريةَ لأفرادها – يتمُّ سيطرة الحزب الحاكم على النظام، ويشرع القوانين لمصلحته، ينتهك حريات باقي الأمة؛ كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث يعانى السكان السُّود أكبر معاناة من التفرقة العنصرية من جانب الحزب الحاكم.
ولا يختلف الحال كثيرًا في أوروبا؛ حيث إن حكومة حزب الأغلبية تُمارِس نفس الشيء مع القوميات الأخرى، أو الأقلية في المجتمع، وهو ما نشاهده الآن من اضطهاد للألبانِ المسلمين في أوروبا، وعمليات التطهير العِرقي لهم (المذابح الجماعية لهم)، باسم الديمقراطية على سبيل المثال.
إلا أن هذا لا يحدث في المجتمع الإسلامي، فالنظام الإسلامي يحافظ على حقوق الفرد وحريته، مع المحافظة على نظام المجتمع وتماسكه، فلا يجوز لأي حاكم أو سلطة حكومية أن تدَّعى لنفسها سلطة تتجاوز ما تقرره الشريعة الإسلامية التي تضمن للفرد والشعوب حقوقهم وحرياتهم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض النصوص الشرعية التي أعلنت حقوق الإنسان:
1- في مواضعَ كثيرةٍ نصَّ القرآن على أن الله سبحانه قد أعطى للفردِ حريَّتَه في الاختيار، وتقرير مصيره حتى فيما يتعلق بالعقيدة الدينية؛ حيث يقول سبحانه: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 33]، ويقول مخاطبًا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 999]، ويقول مخاطبًا إياه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ﴾ [الكهف: 29]، وقوله سبحانه: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 2566].
وإذا كان القرآن قد قرر حرية اختيار الإنسان لعقيدته الدينية، فإنه من باب أولى يضمن له حرية الرأي والاعتقاد في جميع الشؤون الفكرية والاجتماعية والسياسية.
2- كما أن القرآن قد وضع مبدأ أن التكليف الشخصيَّ يكون في حدود طاقة الفرد وقدرته؛ حيث قال: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]، وقوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 77].
3- وقرَّر الله سبحانه مبدأ المسؤولية الشخصية بقوله تعالى:﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 1644]، وفي نفس الآية الكريمة تقرر مبدأ أن المسؤولية تكون بعد صدور التشريع، وهو ما يسمى الآن بمبدأ عدم رجعية القوانين؛ حيث قال سبحانه: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وأكَّد ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ﴾ [القصص: 59]، وقوله تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 1655].
وقال صلى الله عليه وسلم: ))مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم، مَثَل الجسد: إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ أخرجه أحمد في مسنده.
وعن ابن الزبير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفسُ محمد بيده، لا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أنبِّئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
رحم الله عبدًا عرَف حدَّه فوقف عنده، عرَف ما له وما عليه، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز، ما يصح وما لا يصح، ما هو حقٌّ وما هو باطل، ما هو خير وما هو شر، ما هو عدل وما هو ظلم.
ولقد أفاض فقهاؤنا في تأكيد حماية الشريعة لحقوق الفرد الأساسية، التي يطلق عليها اسم الحرمات، لتحريم المساسِ بها أو الاعتداء عليها، وهي حرمة شخصه وعقله وعِرضه وماله، وهذا التحريم أساسُ العقوبات المقرَّرة للجرائم التي تُهدِّد الفرد في نفسه وشخصه: بالقصاص، أو في عقله بحد الخمر، أوفي عِرضه بحد الزنا والقذف، أو في ماله بحد السرقة والحرابة، وقد اعتمد فقهاؤنا في تقرير هذه الحرمات على نصوص القرآن والسُّنة النبوية التي أشارت إلى هذه الحرمات، وفرضت عقوبة حدِّيَّة أو قصاصيَّة أو تعزيرية على انتهاكها.
إن الحرية في الإسلام حق فطريٌّ للإنسان، يتمتَّع به الفرد بحكم ولادتِه، وقد عبَّر عن ذلك عمر بن الخطاب بقوله لعمرو بن العاص معاتبًا: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!”، والإسلام دينُ الفطرة، ومعنى ذلك أنه يحمي للإنسان حقوقه وحرياته الفطرية التي يستمدُّها من صفته الإنسانية، وتكريم الله تعالى له منذ أن جعل آدم وذرياته خلفاء له في الأرض، وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ووهبهم العقل والفكر، وهما أساس المسؤولية عن هذه الخلافة التي يُحاسبون عليها يوم القيامة مقابل تمتُّعهم بها.
وليست حريةُ الفرد في أن يعيش دون أمة أو جماعة متضامنة متكاملة، إنها ليست حرية الغرائز المطلقة بلا شريعة تضبطها وتكبح جماحها، وليست حرية الأقوى في الغابة التي تعني أن يفعل كل ما يقدر عليه، فتسمح للقويِّ أن يأكل الضعيف، ولكل مخلوق أن يتصرف حسب غرائزه وطبائعه وأهوائه، سواء أكان ضعيفًا أم قويًّا، إنها ليست حرية الانعزال أو الشذوذ أو الخروج عن المجتمع وشريعته ونظمه، إنها ليست حرية الفوضى أو الفوضويين الذين يريدون مجتمعًا بلا نظام أودين، ويرفعون شعارهم: “لا رئيس ولا إله”!
ولتحقيق التوازن بين حرية الفرد والنظام في المجتمع الإسلامي شُرعت الشورى، فالشورى حرية، ولكنها حرية جماعية، ونظام والتزام، وحدود وضوابط، تفرضها شريعة خالدة ثابتة، وقرارات جماعية شُوريَّة ملزمة.
إنها حرية المجتمع في تقرير مصيره، واختيار نظامه وحكامه أولًا، وحرية الفرد في أن يشارك في كل ذلك برأيه مع الآخرين، ويُسهِم في قرارات المجتمع، متمتِّعًا بحريته الفطرية في إبداء الرأي ومناقشة الآراء الأخرى في حوار حر – مرسل أو منظم – على أن يلتزم هو وغيره بما تصدره الشورى من قرارات تعبِّر عن رأي الجماعة، سواء أحازت الإجماع أم الأغلبية.
إن الشورى توازنٌ بين حرية الفرد ونظام الجماعة مع ارتباط تامٍّ بينهما، إنها ميزان التكامل والتكافل بين الفرد والأمة، إنها تضامن المجتمع والمساواة بين الناس في الحرية.
إن حرية الرأي في المجتمع تُفسِح المجال لتعدُّد الآراء، ومناقشتها بحرية مكفولة داخل الجماعة – سواء أوجدت لها حكومة أم لا – ولا قيمة للحوار أو المناقشة أو المشاورة أو الشورى إذا لم يكن للمشاركين فيها حرية كاملة.
إن معنى الشورى (تضامن المجتمع على أساس حرية التشاور والحوار الحقيقي المستمدِّ من المساواة في حق التفكير والدفاع عن الرأي) – حتى قبل وجود الدولة والحكومة والسلطة – وغاية التشاور هي تحقيق أكبر قدرٍ مِن حرية التفكير على أساس العدل والتعاون والتكافل، فالعدل والحرية والتضامن في المجتمع تسبق وجود السلطة والدولة؛ لأنهما أساس انتماء الفرد للجماعة ومشاركته في تسيير “أمورها”، وهي الغاية من وجود الدولة.
صحيح أن مِن بين الأمور التي يجري التشاور بشأنها في المجتمع تحديدَ مَن يتولّى السلطة، وطريقة اختياره ومحاسبته، وفي هذا تتفق الشورى مع النظم النيابية العصرية؛ لأن القرار في هذا الأمر كغيرِه من القرارات يصدر بالأغلبية أو الإجماع، ولكن الشورى تمتاز بأنها تهتم أولًا بما يسبق هذا القرار من بناء المجتمع التضامني على أساس حرية الأفراد والمساواة العادلة في التشاور بينهم، والحرية يجب أن تسبق الشورى؛ لأنها أساس وشرط وجودها.
ولكن للمجتمع حق أيضًا على الفرد، فكل منا له حق وعليه واجب، فواجب علينا أن ينصح بعضنا البعض، وحق عليك أيضًا أن نسمع للنصيحة ما دامت بخير، فإن ((الدين النصيحة))؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))؛ (مسلم)، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمجتمع الذي نعيش فيه له واجب علينا بالنصيحة كي نصير سادة العالم، ونُصلح ما أفسدته أنفسنا وشياطين الإنس والجن الذين لا يهتمون بأحوال المسلمين ولا ظروفهم، لذا فواجب علينا أن نهتمَّ بأمورنا العامة قبل الخاصة، وأن يكون النصح العامُّ الخالص لوجه الله تعالى صفةً ملازمة لنا، وأن يشعر الفرد منا بأنه لَبِنَة في البناء العامِّ للأمة، وأن يحب المرءُ للناس ما يحب لنفسه، وأن يكون غيورًا على مصلحة الجماعة، ويغضب لانتهاك الحرمات، وعليه إيثار أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على كل ما سواهما.
فعلينا توطئة أنفسنا وتربية أولادنا على هذه المبادئ؛ حتى يسود نسيجَ المجتمع الترابطُ والتراحم في ظل الحب كله، كما يجب على رجال التربية في المناهج التعليمية تحقيق ما يلي:
1- تعريف التلاميذ بحقوقهم التي يجب على المجتمع أن يحترمها، على أن يُدرك التلاميذ أن هذه الحقوق يقابلها احترام للمجتمع، والعمل على المحافظة عليه، فهو أسرتهم الكبيرة.
2- تعويد التلاميذ الجرأة في المطالبة بحقوقهم في أدب ونظام، ويكون سلوك المعلم في الفصل مع تلاميذه مثالًا عمليًّا لذلك، كما يمكن تعويدهم ذلك من خلال جمعيات النشاط وأثناء تفاعل الطلاب مع إدارة المدرسة.
3- تعويد التلاميذ ألا تطغَى حرياتهم على حرية الآخرين، أو تسبب ضررًا للمجتمع، أو تؤذي الآخرين، فليست الحرية مطلقة؛ بل هي منظمة في ضوء شرع الله تعالى، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الأنشطة التي يقوم بها التلاميذ، سواء في الرحلات والمخيمات، وأثناء التدريس أيضًا باستخدام التدريس التعاوني مع إعطاء حوافز للتلاميذ الذين يحققون ذلك.
4- أن تشمل موضوعات القراءة والنصوص والدراسات الاجتماعية والدينية موضوعاتٍ تتناول هذه السلوكيات بالشرح والتوضيح، وإعطاء أمثلة عملية من حياة بعض الصالحين والقدوة في ذلك.
وفَّق الله الجميع لما فيه خير البلاد والعباد بحب الله
وكالة معراج للأنباء الإسلامية
Comments: 0