لا تقنطوا.. فالله ينصر أمة بموقف رجل واحد رواية تستحق القراءة…

 
الأحد 30رجب 1434 الموافق 09 حزيران/ يونيو2013. وكالة معراج للأنباء (مينا).
 
منير أبو الهيجاء
عندما أعلنت كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما عن يوغوسلافيا الاتحادية في أواسط عام 1991 رأى علي عزت بيغوفتش رحمه الله أن يغتنم تلك الفرصة،التي قد لا تتكرر مرة أخرى، فدعا إلى استقلال البوسنة. وحينما اشترط الأوروبيون موافقةَ أغلبية السكان على الاستقلال بإجراء استفتاء شعبي، من أجل الموافقة على الاعتراف، وجّه الصربُ تهديدًا شرسًا للمسلمين، إذ كانوا يخططون لضم أراضي البوسنة بكاملها إلى جمهورية صربيا،التي ورثت جمهوريةَ يوغسلافيا السابقة. وفعل التهديد فعله فتردد المسلمون وأحجموا عن المشاركة في الاستفتاء، عندئذ خطب علي عزت خطبة مدوية أذاعتها المحطات المحلية، ودعا فيها المسلمين إلى التصويت قائلًا: “لقد انتهى إلى الأبد الوقتُ الذي يتقرر فيه مستقبل البوسنة دون إرادة سكانها من المسلمين“.
وكان لتلك الخطبة قول الفاصل في تاريخ البوسنة. ففي التاسع والعشرين من شباط 1992 صوّت البرلمان المحلي لصالح الانفصال وإنشاء دولة مستقلة على أرض البوسنة والهرسك، وفي الثالث من آذار خطا الرجل خطوة شجاعة وأعلن الرئيس استقلال البوسنة.
في الشهر التالي اجتاح الجيش الصربي البوسنةَ فبدأت واحدةٌ من أسوأ وأبشع مجازر العصر على عين العالم،الذي التزم الصمت، فيما كان مئات الآلاف من البشناق المسلمين يبادون إبادة جماعية، ولم يتحرك أحد لوقف الصرب الذين راحوا يكدسون الرجال والصبيان في معسكرات الجوع والموت ويكدسون النساء في معسكرات الاغتصاب والعذاب. ثم دخل الكروات في الحرب مع الصرب، وسقط المسلمون بين فكّي كماشة هائلة قاسية، ومع نهاية السنة لم يبقَ في أيديهم سوى خُمس مساحة البلاد، وحاصر الصرب سراييفو تمهيدًا لاقتحامها، وبدا لكل المتابعين أن الحلم قد انتهى مبكرًا وأن استقلال البوسنة قد دُفن إلى الأبد.
كان علي عزت مع حكومته داخل المدينة المحاصرة، وعرض الصرب عليه الاستسلام، ولكنه رد ردًا حاسمًا سجله التاريخ: “لا تنازل عن استقلال البوسنة ومنح المسلمين حصتهم العادلة من مساحة البلاد التي يعيشون فيها مع الصرب والكروات”. وقال: “لن نعيش عبيدًا. إن النضال من أجل الحرية هدف قائم بذاته، حتى لو لم يتحقق فيه الانتصار. لو استسلمنا فسوف تنتهي البوسنة؛ إنها أمانة في أعناقنا ودَيْن لجيلنا ولكل الأجيال الآتيات“.
رغم أن سراييفو هي عاصمة البوسنة إلا أنها مدينة صغيرة كان يسكنها قبل الحرب نحو نصف مليون شخص، وقد تعرضت لأطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة، حصار استمر قريبًا من أربع سنوات (1366 يومًا بالتمام)، وعندما أبت المدينة الاستسلام بدأ الصرب بقصفها من التلال المحيطة بها بالدبابات والمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ والهاونات والقناصة.
لم يتوقف القصف أبدًا طوال أيام الحصار، وخلال تلك السنوات الرهيبة سقطت على المدينة الصغيرة نصفُ مليون قذيفة. وفي نهاية عام 1995 كانت كل أبنية سراييفو قد أصيبت بصورة جزئية أو كلية؛ قُصفت الأسواق التجارية والمستشفيات والمراكز الإعلامية وشبكات الاتصال والجوامع والمصانع والملاعب الرياضية والأبنية السكنية والحكومية، ودُمّرت المكتبة الوطنية بالكامل ولم يَنجُ أي كتاب من كتبها من الحريق. قُتل الناس وهم في بيوتهم وأسواقهم، وقُتلوا وهم مصطفون في طوابير للحصول على الخبز أو على الماء، وبالنتيجة استُشهد نحو عشرين ألفًا من سكان المدينة، أي أنها فقدت واحدًا من كل خمسة وعشرين. ولم تستسلم.
وطوال أربع سنوات طال حصارها كل مقومات الحياة ؛ الماء والغاز والكهرباء، ومنع الحصار دخول الغذاء والدواء والسلاح، ولكن علي عزّت أصر على الحرية ورفض الاستسلام، ورفض كل العروض لمغادرة سراييفو تحت حماية الأمم المتحدة، فآثر البقاء مع أهل المدينة المحاصَرين، يحتمل الجوع والبرد كما يحتملون،ويتعرض للخطر كما يتعرضون، وكان ثباته العجيب مصدرًا للقوة والإلهام.
ثم نجح المدافعون عن المدينة المحاصَرة بصنع نفق ربطها بالمطار (وكان تحت سيطرة قوات الأمم المتحدة). ولولا ذلك النفق لماتت سراييفو. حُفر النفق بالمعاول اليدوية لعدم وجود آلات حفر في المدينة، واستغرق حفره أربعة أشهر كاملة، وإنّ قصته لَواحدة من ملاحم الصمود التي تسحق أن تروى وأن يُستمَدّ منها الإلهام لكل من ينشد الحرية.
يقول أحد السكان بعد الحرب إن الناس قطعوا الشجر وحرقوه ليردّوا بالنار برد الشتاء. وما أدراك ما شتاء سراييفو؟ إن الحرارة تصل فيها إلى خمس عشرة درجة وعشرين درجة مئوية تحت الصفر في شهور الشتاء. قال: ثم نفد الشجر فبدأ الناس يحرقون أثاث بيوتهم، ثم خلعوا أبواب الغرف في البيوت وحرقوها ليستدفئوا بنارها، ثم بدأوا يحرقون ملابسهم! أقسم الرجل بالله إنهم أحرقوا حتى الملابس… ولم تستسلم سراييفو، وخرجت من أطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة منتصرة بفضل الله، ثم بفضل عزيمة الرجل الشجاع الذي رأى النور في آخر النفق الطويل وأبصر -بعين البصيرة- النصرَ في آخر الطريق.
 
لقد أراد الجميع أن تختفي الدولة الوليدة الجديدة من الوجود؛ أراد ذلك الصربُ والكروات، وأراده الروس والأوربيون والأميركان، ومرّت ألف مناسبة ظن فيها العالم وظن البوسنيون أنفسهم أن حلم الاستقلال تبدد إلى الأبد، ولكن العزيمة الصادقة تغلبت على الهمجية والمجازر والمؤامرات، ونجح الرجل الأعجوبة، “العملاق في عالم الأقزام” كما وصفه الأستاذ الفاضل نبيل شبيب في مقالة كتبها في تأبينه، نجح الرجل الأعجوبة في تحقيق المستحيل. لقد أراد أن يتجنب الحربَ بأية وسيلة ممكنة، ولكنه لمّا رآها فُرضت عليه وعلى شعبه، ولمّا رأى أنه بات مخيّرًا بين نار الحرب وذل الاستسلام، آثر حَرّ النار على ذل الانكسار، واختار الطريق الصعب الطويل إلى الحرية والكرامة والاستقلال.
فيا شعب سوريا البطل؛ لا تفقدوا الأمل فإن النصر آت بعون الله، والله يصلح الأمر بين عشية وضحاها، ويرد الله مكر الماكرين إلى نحورهم، ويفرح المؤمنون بنصر الله، فما عليكم إلا الثبات، وما النصر إلا صبر ساعة، وإننا على يقين أن من بينكم أبطالا أشاوس سيلقنون العدو مر الهزيمة، ويذيقونهم العلقم جراء أعمالهم الطائشة وعمالتهم لشرق أو غرب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر :صوت الحق والحرية
اقرأ أيضا  مواسير الفساد.. والصناديق الخاصة
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.