التصعيد بين تنظيم الدولة وإيران.. الدوافع والمآلات

صابر كل عنبري

كاتب إيراني

منذ إعلان تنظيم الدولة الإسلامية إقامة “دولة الخلافة” من الموصل في يونيو/حزيران 20144، يتساءل البعض عن سر بقاء الداخل الإيراني محصنا أمام هجمات التنظيم، بينما تجاوزت تلك الهجمات المنطقة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ومناطق أخرى من المعمورة. وهذا ما أعطى للحديث عن العلاقة بين إيران وتنظيم الدولة والاتهامات الموجهة لإيران بهذا الشأن، مكانا في البازار الإعلامي المضطرب.

لعلّ فترة الصمت الخطابي والعملياتي الداعشي تجاه إيران كانت لها إيحاءات بهذا الاتجاه، لكن ليس معقولا الانطلاق من ذلك للحديث عن علاقة مشبوهة بين إيران وتنظيم الدولة، فذلك ينبع من تجاهل للواقع وعدم معرفة بعقلية التنظيم التي تختلف عن بقية “الحركات الجهادية” مثل تنظيم القاعدة فلا تقبل المساومة والمساحات الرمادية، وأيضا من جهل بالإستراتيجيات الإيرانية.

خيرا، بعد ثلاث سنوات من إعلان “الخلافة” -تخللتها إعلانات إيرانية بين حين وآخر عن اعتقال مجموعات داعشية متطرفة- تمكّن تنظيم الدولة في يونيو/حزيران 2017 من شن هجومين متزامنين على هدفين رمزيين للغاية في طهران، هما “البرلمان الإيراني” و”ضريح مؤسسالثورة الإسلامية الإيرانية” آية الله الخميني وخلّفا 18 قتيلا وحوالي 50 جريحا.

سبق الهجومين إصدارُ أفلام دعائية باللغة الفارسية، والإعلان عن “كتيبة سلمان الفارسي” من مقاتلين إيرانيين في مارس/آذار 2017، كما أعقبت الهجومين أيضا أفلامٌ ومنشوراتٌ مماثلة، وصارت مجلة “رومية” التابعة للتنظيم تنشر موادّ باللغة الفارسية تحرّض أهل السُّنة في إيران على “الجهاد” ضد الدولة الإيرانية.

تصاعدُ نبرة تهديدات تنظيم الدولة ضد إيران خلال العام الأخير، ونجاحه في تنفيذ عمليات يونيو/حزيران في طهران، وفي المقابل تزايد الأنباء الإيرانية عن اعتقالات لمتطرفين منتمين ومؤيدين لتنظيم الدولة في إيران؛ يضعنا أمام تساؤلات بشأن الإستراتيجية الإيرانية في مواجهة تنظيم الدولة بالمنطقة، وأسباب التصعيد الداعشي ضد طهران إعلاميا وعملياتيا، ومآلاته المستقبلية.

مراحل التعاطي
مرّ التعاطي الإيراني مع وجود تنظيم الدولة في سوريا والعراق بعدة مراحل، مع مراعاة خصوصية وتعقيدات كل ساحة واختلافها عن غيرها.

وجاء هذا التعاطي في ظل قناعة إيرانية راسخة بأن تأسيس تنظيم الدولة كان يحمل في طياته بذور الاستهداف للمصالح الإيرانية، طبعا مع اختلاف درجات الاستهداف في الحالتين السورية والعراقية، مما فرض أساليب مختلفة على الإستراتيجية الإيرانية في كلتيهما.

في الحالة السورية كانت الإستراتيجية الإيرانية ترتكز -بسبب تعقيداتها وتعدد الأطراف المتصارعة واللاعبين الخارجيين- على إدارة المعركة مع تنظيم الدولة والمعارضة السورية، بطريقة تصب في نهاية المطاف في مصلحة الحليف السوري.

ولا شك في أن وجود التنظيم شوّه سمعة الحراك السوري المعارض، وساعد النظام السوري في تصوير المشهد السوري بأنه الحرب مع الإرهاب، فصارت محاربة التنظيم أولوية الجميع على حساب القضايا الأخرى.

السياسة الإيرانية -بنفسها الطويل، وميزتها في تحويل المشاكل إلى منافع والتهديدات إلى فرص- تعاملت مع الوجود الداعشي في سوريا بحنكة عسكرية عالية، إذ ساهمت في إدارة المعركة في سوريا بأسلوب يضرب عصفورين بحجر واحد، كما يقال.

اقرأ أيضا  الجيش الإسرائيلي يصيب عشرات الفلسطينيين في مواجهات بالضفة

وتؤكد الوقائع الميدانية أنها نجحت في ذلك، فقد ألحقت القوات الموالية لها الهزيمة بالمعارضة السورية أولا في مناطق إستراتيجية مثل حلب وغيرها، ثم إنها تتجه اليوم نحو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة ثانيا، في ظل نجاح القوات الموالية لإيران في استعادة السيطرة على منطقة السخنة بسوريا من التنظيم، فاتحة الطريق نحو معقله الأساسي.

وفي هذا السياق، ورغم أن الهجوم الصاروخي الإيراني غير المسبوق على معاقل التنظيم في دير الزور السورية في 18 يونيو/حزيران 2017 جاء  ردا على الهجومين الإرهابيين في طهران؛ فإنه أيضا جاء في إطار الانتقال إلى مرحلة المواجهة الحقيقية مع تنظيم الدولة في سوريا، التي بدأت تسلك مسارا ستكون له ارتدادات على صعيديْ محاربة التنظيم والأزمة السورية.

وذلك بعد إعلان مفاجئ من الحرس الثوري الإيراني (16 أغسطس/آب الجاري) عن بدء معركة “الثأر للشهيد حججي” في سوريا، وخوض  مقاتليه اشتباكات مباشرة مع تنظيم الدولة، إثر مهاجمة الأخير كتائب “سيد الشهداء” العراقية على الحدود العراقية السورية، فقتل إيرانيين وأسر المقاتل الإيراني “محسن حججي” الذي ذُبح لاحقا بطريقة بشعة.

أما في الحالة العراقية فقد كان نشوء هذا التنظيم يمثل أكبر تهديد وتحدٍّ للمصالح الإيرانية الإستراتيجية، لقربه من حدود إيران أولا، ولتقزيمه الحكم العراقي المتحالف مع طهران ثانيا.

ولذلك فإن الإستراتيجية الإيرانية تعاملت مع الحالة العراقية أيضا عبر مرحلتين: الأولى، هي الدفاع عن الخطوط الحمر، مثل تأمين الحدود الإيرانية وعدم السماح للتنظيم بالاقتراب منها، ثم التصدي لتمدد تنظيم الدولة وخاصة باتجاه مدن شيعية مقدسة مثل سامراء، وبناء قوة عراقية قوية تقدر على مواجهة تنظيم الدولة. وفي هذه المرحلة، لا يمكن إنكار الدور الإيراني البارز في منع سقوط بغداد وأربيل في أيدي تنظيم  الدولة.

وبعد نجاح المرحلة الأولى، وإنشاء الحشد الشعبي تحت إشراف إيراني مباشر؛ شرعت المرحلة الثانية التي كان عنوانها قيادة خلفية للمعارك مع التنظيم، بدءاً من الرمادي والفلوجة في 20166 ووصولا إلى استعادة الموصل مؤخرا.

عوامل التصعيد
تصعيد تنظيم الدولة خطابه ومحاولاته لضرب الداخل الإيراني، يعود إلى جملة عوامل أبرزها:

1- نقل المعركة إلى داخل إيران انتقاما من المساهمة الإيرانية الفاعلة في انهيار قدرة تنظيم الدولة على التمسك بالأرض في العراق، والتعويض عن خسائره في الداخل الإيراني.

فبعد اقتراب الحرب من مرحلة خطيرة للغاية بالنسبة للتنظيم، جاء التركيز الإعلامي الداعشي على إيران، ورفع منسوب التهديدات ضدها بإصدار أفلام ومنشورات، والإعلان عن تشكيل مجموعات عسكرية مكونة من إيرانيين.

ومن الملاحظ أنه تزايدت -خلال هذه الفترة- محاولات تنظيم الدولة لضرب العمق الإيراني بشكل كبير، حيث أعلنت طهران مرات اعتقال مجموعات داعشية وإحباط تنفيذ عمليات، كان آخرها اعتقال 27 عنصرا من تنظيم الدولة في 7 أغسطس/آب الجاري، قيل إنهم كانوا يخططون لتنفيذ هجمات دامية داخل البلاد.

اقرأ أيضا  تمشيط أمني بحثاً عن ألغام داعش

وفي يوليو/تموز 2016، بث التلفزيون الإيراني اعترافات خلايا لتنظيم الدولة، كانت تريد تنفيذ عمليات في 50 نقطة بطهران. كما أعلن وزير الأمن الإيراني مؤخرا اعتقال 120 خلية إرهابية وضبط ثلاثة أطنان من المتفجرات خلال السنوات الأربع الماضية.

2- التغطية على الهزائم التي لحقت بتنظيم الدولة في العراق، فنوعية هجمات يونيو/حزيران على طهران ورمزية الأهداف توحيان بأن الغاية لم تكن إيقاع أكبر عدد من الضحايا، بل إحداث أكبر أثر سياسي وإعلامي في البلد، يشفي صدور أبناء التنظيم بعد تلك الهزائم. ففي حال نجاح التنظيم في الوصول إلى داخل ضريح الخميني وقبة البرلمان، كان هذا الهدف تحصيل حاصل، وكان التنظيم سيحقق الكثير إعلاميا وسياسيا.

3- طبيعة هذه المرحلة من عمر تنظيم الدولة -بعد فقدانه السيطرة على الأرض في العراق- تتطلب التصعيد في كل اتجاه، عبر تفعيل “الخلايا النائمة” و”الذئاب المنفردة” أكثر من ذي قبل، فالتصعيد ضد طهران ومحاولة التنظيم ضرب الداخل الإيراني يأتي أيضا في إطار الهجمات العامة التي يشنها بمنطقة الشرق الأوسط وأوروبا ومناطق أخرى.

مآلات المواجهة
لا يمكن الجزم بمآلات هذا التصعيد، ولا بعدم إمكانية أن يترجم تنظيم الدولة ميدانيا تهديداته لإيران فيكرّر هجماته السابقة، واحتمالات وقوع هجمات مماثلة تبقى واردة؛ لكن ثمة عوامل تحدّ من قدرة تنظيم الدولة على ترجمة تهديداته في داخل إيران بشكل كبير، وعلى رأس تلك العوامل يأتي:

أولا، خبرة إيران الأمنية المتراكمة في مواجهة “الجهاديين”، واتباعها أساليب كثيرة منها الاختراق؛ أعطتها القدرة على إحباط هجماتهم قبل تنفيذها، ثم حملات الاعتقال التي طالت أعضاء ومؤيدي تنظيم الدولة في المحافظات الإيرانية خلال العام الأخير، أفقدت التنظيم القدرة على المناورة إلى حد كبير جدا.

وقد قامت إيران بحملات اعتقال مماثلة عام 2009 عندما شهدت محافظات إيرانية سُنية حضورا للتيار السلفي الجهادي، وقام أعضاء منه بعمليات اغتيال لقيادات سنية بارزة، فاعتقلت أعدادا كبيرة من المنتمين إلى هذا التيار، وذهب آخرون إلى أفغانستان ثم العراق وسوريا، وبذلك ساهمت في تجفيف الموارد البشرية لتنظيم الدولة في إيران قبل تأسيسه.

ثانيا، يواجه تنظيم الدولة وغيره مشكلة انعدام الحاضنة الشعبية للفكر الجهادي المتطرف في الأوساط السُّنية الإيرانية. وهذا عكس ما يتحدث عنه البعض من أن واقع أهل السنة في إيران يشكل ساحة خصبة لتنظيم الدولة، نعم هناك للسنة مطالب وامتعاض من سياسات هنا وهناك، لكن هذا لا يعني أنهم يميلون إلى تبني أفكار راديكالية، والمشاركة الفاعلة للسنة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران تدحض تلك القراءة.

اقرأ أيضا  إدلب.. "الإغاثة الإسلامية" تجري عمليات جراحية لمئة مريض

اليوم المجتمع الإيراني بشيعته وسُنته معبأ إلى أقصى الحدود ضد الخطاب الجهادي المتطرف، ومشاهد القتل -بأساليب تفوق التصور الإنساني- بلور ضميرا شعبيا منيعا ضد هذا التوجه.

كما أن تكفير قيادات سنية بارزة مثل المولوي عبد الحميد وغيره في أفلام تنظيم الدولة الدعائية باللغة الفارسية، وتنفيذ هجمات طهران بُعيد الانتخابات الرئاسية التي كانت لأهل السنة مشاركة حاسمة فيها؛ أحدثا غضبا عارما بين السنة، واعتبروا الهجمات محاولة لإغلاق الطريق أمامهم لجني ثمار مشاركتهم.

ثالثا، صعوبة عودة المتطرفين الإيرانيين من سوريا والعراق إلى الداخل الإيراني للقيام بتنفيذ الهجمات، فليس العائد كالهارب؛ أولا لأنهم أصبحوا معروفين لدى أجهزة الأمن فردا فردا، وثانيا لا تلاصق جغرافياً بين المناطق الحدودية الإيرانية السنية والمناطق التي كان أو لا يزال يسيطر عليها تنظيم الدولة في العراق، يسهّل عودتهم إلى الداخل.

ومع ذلك، أعتقد أن الخطورة اليوم ليست في عودة مقاتلين متدربين بمعسكرات “داعش” في سوريا والعراق، لأن إمكانية ذلك صعبة للغاية؛ وإنما الخطورة في “ذئاب منفردة” أو مؤيدين لتنظيم الدولة لم يذهبوا إلى معاقل التنظيم، وإنما يتأثرون بالدعاية الداعشية “الناجحة” التي تدفعهم لأعمال تخريبية.

والخلاصة أن تصعيد تنظيم الدولة خطابه وتهديداته ضد إيران لا يعني أن بمقدوره تنفيذ كل ما يتوعد به. ومن جانب آخر، فإن نجاح  التنظيم في تنفيذ هجوميْ يونيو/حزيران يجعل تكرار هذا الاستهداف محتملا في المستقبل، لكن ذلك سيبقى محدودا جدا للأسباب السالفة الذكر.

كما أن حملات الاعتقال لأعضاء أو مؤيدي التنظيم خلال الآونة الأخيرة مؤشر على تعاظم محاولات تنظيم الدولة ضرب الداخل الإيراني، وهنا قد يكون هناك أشخاص لم تشملهم الاعتقالات ويشكلون خطرا مستقبليا.

وأخيرا، رغم أن هذا المقال له موضوع محدد وليس بصدد معالجة الظاهرة وأسباب نشوئها ومصيرها؛ فإن إنهاء سيطرة تنظيم الدولة على الأرض لا يعني نهايته، فذلك يتوقف على عملية إصلاح شامل وجذري في البيئات المفكّكة المولِّدة للتنظيم في سوريا والعراق وإزالة المسببات المركبة، وبدون ذلك تظل معالجة المشكلة منحصرة في ظاهرها دون جوهرها، وبالتالي تبقى احتمالات شن الهجمات في أي بقعة من العالم واردة في أي وقت.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.