أسرار قرآنية – الإبداع الحرفي

الأربعاء3 ذو الحجة 1436//16 سبتنبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. جمال يوسف الهميلي
أسرار قرآنية
الإبداع الحرفي
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على النبيِّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فاللهمَّ اجعلنا من المقرَّبين، واجعل كِتابنا في عِلِّيين، يا أرحم الرَّاحمين، واسقنا من الرَّحيق المختوم: ﴿ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 25 – 28].

من صوَر نَعيم المقرَّبين أنَّهم يشربون ألذَّ شرابِ أهل الجنَّة، لكن التعبير القرآني قال: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا ﴾ [المطففين: 28]ولم يَقل: يشرب مِنها، مع أنَّنا نعلم أنَّ الشرب يكون من العَين وليس بِها، فالعرب تقول: “شرب من العين”، فتَستخدم حرف الجرِّ “مِن” وليس حرفَ “الباء”، فلماذا عَدل القرآن الكريم إلى الباء بدل “من”؟

وبتعبيرٍ آخر: ما السرُّ القرآنيُّ في وضع الحرف “ب” بدل الحرف “من”؟[1]

وهذا التعبير: أقصد ﴿ بها ﴾ [المطففين: 28] بدل ﴿ مِنْهَا ﴾ [البقرة: 25] ورَد في آية أخرى – تدبَّر معي -:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴾ [الإنسان: 5، 6]، فما السرُّ يا تُرى؟

نحن نشرب – في الغالب – لأحد سببين، أو هما معًا:
1 – لنرتوي من ظَمأ.
2 – للتَّلذُّذ بالمشروب.

وأهل الجنَّة لا يشربون من ظمأ؛ فقد ثبتَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((حَوضي مسيرةُ شهرٍ، ماؤُه أبيضُ من اللَّبن، وريحُه أطيبُ من المِسكِ، وكيزانُه كنجومِ السماءِ، مَن شرِبَ منها فلا يظمأُ أبدًا))[2]، فشُربهم إذًا للتَّلذُّذ بالمشروب، فهم يَشربون من العين ليتلذَّذوا بهذا الشراب، فعبَّر القرآن الكريم بحرف الباء؛ لبيان ذلك في أقصر وأَجمل وأَكمل عِبارة، فكان الإبداعُ في وضع حرف الباء بدل حرف “من”، فيا لَه من إبداعٍ حرفيٍّ!

اقرأ أيضا  تفسير: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول)

مثالٌ آخر:
لنتدبَّر هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].

الأصل في التعبير عن الذلِّ أن تقول: ذليلٌ لفلان، والعزَّة أن تقول: عزيزٌ على، باعتبار أنَّ حرف “على” يدلُّ على العلوِّ والاستعلاء، والذلُّ فيه الانخفاض.

ومع هذا نَجد أنَّ القرآن الكريم عبَّر عن الذلِّ هنا بقوله: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54]، فلماذا استخدمَ حرف “على” بدل حرف اللام، مع أنَّه بعدها مباشرة قال: ﴿ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، فاستخدم حرف “على”، فهل الذلُّ والعِزَّة شيء واحد؟ فما سرُّ ذلك؟ (لا يمكن أن نحيط بكلِّ الأسرار).

لعلَّ من أسرار ذلك – والله أعلم – أنَّ الآية ذكرَت صِفات القوم الذين سَيأتي اللهُ بهم، وهي صفات مدحٍ وثَناء، وبدأ بصِفة الحبِّ بين الله وبينهم، وهذا يَعني أنَّ جُلَّ أعمالهم مرتبطة بالله، فهم حين يتعاملون مع إخوانهم المؤمنين يكونون ذَليلين لهم استجابةً لأمر الله وطلبًا لمرضاته، وليس لحظوظ النَّفس أو اتِّباعًا لهوى، وفي مِثل هذه الحالة فالذلَّة هنا ليس فيها انخِفاض، بل فيها ارتِفاع وسموٌّ ورقيٌّ؛ كما جاء في الحديث عن الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((مَن تواضع للهِ، رفعَه اللهُ))[3]، فناسب أن يكون “على” للدلالة على الاستعلاء.

اقرأ أيضا  فضل القرآن وقراءته

وآخِر الأمثلة الإبداعيَّة في سورةٍ نكرِّرها كلَّ جمعة، والكثير منَّا يحفظها، لنتدبَّر قولَه تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، العِوج يُعبَّر عنه بـ”فيه”، وعادة نقول: هذا الكتاب فيه عوجٌ، ولا نقول: له عِوج، فلماذا عدل القرآن الكريم إلى “له”، ولم يقل: “فيه”؟

لعلَّ من الأسرار – والله أعلم – أنَّ التعبير بـ “فيه” يَعني العِوج الذَّاتي دون الحديث عن التأثير الخارجي؛ أي: من خارج الكِتاب، أمَّا التعبير بـ “له” فيتضمَّن أمرين:
• سلامته من الاعوِجاج الدَّاخلي والذَّاتي.
• حِفظه من الاعوِجاج الخارجي.

فالقرآنُ الكريم محفوظٌ فلا عِوَج فيه، ولا أحد يستطيع أن يُدخِل فيه عوجًا من خارجه، وهكذا تمَّ حِفظ القرآن الكريم، وممَّا يَعضُد ذلك قولُه تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41، 42]، قال المفسِّرون: ﴿ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ [فصلت: 42]: من داخله ﴿ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 42]: التَّحريف من خارِجه.

ومن الشَّواهد على الحفظ الرَّبَّاني: كثرة محاولات خُصوم القرآن على مدى الزَّمان في تحريفه وتَزويره، وكلها باءت – وستبوء غيرُها – بالفشل الذَّريع، ومنه محاولات المستشرقين المتكرِّرة؛ مثل كتاب “دحض القرآن”، ومن آخِرها كتاب “الفرقان الحق”، الذي صدر في أمريكا، وهو كتابٌ مكتوب باللُّغة العربية عن طريق محاولة استنساخ كتابات مطابقة للقرآن، ودَمج عناصر من تعالِيم المسيحيَّة التقليديَّة، وقد أطلق المسلمون الأمريكيُّون على الكتاب لقب “الخدعة” “hoax”.

اقرأ أيضا  تفسير: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات)

وفي الختام:
أدعوكم للتدبُّر في هذه الآية؛ في الحديث عن السَّحَرة، بعد إيمانهم يهدِّدهم فرعون بقوله: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]، عادة الصَّلب يكون “على”، لكن القرآن الكريم عبَّر هنا بحرف “في”، فما السرُّ؟ أَترك لكم البحثَ والاستمتاع.

اللهمَّ اجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وارزقنا تلاوتَه آناءَ اللَّيل وأطراف النَّهار، على الوجه الذي يُرضيك عنَّا، اللهمَّ افتح لنا من كنوز كتابك وأسراره العظيمة.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

________________________________________
[1] للتذكير نحن لا نستطيع أن نحيط بكلِّ الأسرار، فما نذكره هو ممَّا فتح الله على بعض عباده.
[2] رواه البخاري برقم 6579.
[3] “حَسن”؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 2328.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.