أسس الأخلاق في الإسلام

الجمعة 20 ذو القعدة 1436//4 سبتنبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. هند بنت مصطفى شريفي
أسس الأخلاق في الإسلام
أهمية وجود قدوة أخلاقية متميزة:
إن (حسن الخلق، لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل، أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدا مستمرا، ولن تصلح تربية، إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيء لا يترك في نفوس من حوله أثرا طيبا، وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه)[1]، لما يتميز ويتحلى به من مكارم الأخلاق، ويترفع عن رذائلها، ويستجيش نفوس المتطلعين إليه لتقليده واقتفاء أثره، ومهمة هذه القدوة أن تترجم الأخلاق من الحالة المعنوية -أي المعاني المجردة- إلى واقع حي ملموس، وتؤصل في نفوس متبعيها العادات الحسنة ومكارم الأخلاق.

هذه القدوة هي النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾[2]، فقد كان صلى الله عليه وسلم مهيأً لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال، وأفضل الأعمال، ولم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم من قاربه في فضله، ولا داناه في كماله خلقا وخُلقا، وقولا وفعلا،[3] فكان صلى الله عليه وسلم الأسوة الرفيعة، والقدوة الخالدة، والآية الكريمة تقرر قاعدة منهجية، ينبغي أن يسير عليها كل مسلم راغب في الخلق الفاضل، وفي الخير بعامة، وهي أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي به في كل شيء، لأنه هو المربي الكامل، وهو الأستاذ في الأخلاق والدين، وهو المعصوم بعصمة الله تعالى له[4].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة، صدقا وأمانة وكرما ورحمة وشجاعة وعفة، إلى غير ذلك من الصفات التي تحظى بالإجلال والإكبار لمن حصل على واحدة منها، فضلا عمن جمعت له وتوفرت فيه.

ولما بعثه الله تعالى بالنور والهدى، زاده قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته، حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان[5].

وقد كان من شيمه الحميدة عليه الصلاة والسلام، أنه لا يرضى أن يسبقه أحد في موقف من مواقف مكارم الأخلاق، والناظر في سيرته لا يستطيع أن يجد تصرفا يمكن أن يرى أعظم منه في باب الأخلاق عند غيره صلى الله عليه وسلم ،وكان صحابته رضي الله عنهم يعرفوا هذا منه، فكانوا أحيانا- يوقفون أناسا مواقف سبقت من بعض الأنبياء السابقين، فكان يفعل كفعلهم، إذ أنهم عرفوا أنه لا يرضى أن يكون أحدا أحسن منه تصرفا ومسلكا، وذلك كما حدث أثناء مسيره لمكة، حين لقيه أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية رضي الله عنهما، فأعرض عنهما-لشدة إيذائهما له بمكة-،فأشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ابن عمه – وقد أغلقت عليه السبل – أن يأتيه من قبل وجهه، وأن يقول له ما قال أخوة يوسف: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91] [6]، وأظهر له هذه الخاصية من خلقه بقوله: أنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا. فلما فعل ذلك، قال صلى الله عليه وسلم : ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92] [7] [8].

اقرأ أيضا  معالجة الأخطاء

وأمر الله تعالى وحث المؤمنين على الإقتداء به مع علمه بنقص حالهم، وعدم قدرتهم على الوصول إلى مرتبته الأخلاقية، ولعل الحكمة من ذلك( أن المثل الأعلى يبقى فوق الإنسان يسعى إليه بكل طموح، لكنه لا بد وأن يبقى دونه، ليظل يتوجه بطاقته نحو أهداف خيرة متجددة)[9]، فينتج من ذلك استمرارا وتجددا في محاولة الإقتداء ومنع الشعور بالاكتفاء من هذا المثل والتوجه لغيره.

وقد اقتدى الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى ( صاروا أعلم أهل الأرض، وأدينهم، وأعدلهم وأفضلهم، حتى أن النصارى لما رأوهم – حين قدموا الشام – قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح – عليه السلام – بأفضل من هؤلاء)[10].

والإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع من الإقتداء بمن هم دونه من أهل الخير والصلاح من السلف الصالح أو المعاصرين الأخيار، فسيرة أهل الصلاح والتقوى تنبه إلى كثير من الفضائل التي يمكن أن يقتدي بهم المسلم لاكتسابها، كما أن الإنسان قد يحتاج أحيانا إلى قدوة قريبة تتمثل أمام ناظريه ليحاكيها ويترسم خطاها، إضافة – أو مع شرط – إلى ارتباطه بالقدوة الأولى والمثل الأعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن البشر يعتريهم النقص والضعف، وقد لا تسلم أخلاقهم من العيب واتباع الهوى، وتبقى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي السيرة الكاملة، التي اجتمع فيها الخير والفضل ما تفرق في الناس، والتي اجتمع فيها كريم الأخلاق على أفضل درجاتها، بلا انحراف أو غلو أو تقصير ، وفيها يتحقق موطن القدوة والأسوة الصالحة لكل زمان ومكان[11].

وسطية الأخلاق الإسلامية[12]:
فهي وسط بين الإفراط والتفريط، ذلك أن للأخلاق حدودا متى جاوزتها صارت عدوانا، ومتى قصرت عنها كان نقصا ومهانة، فمثلا التواضع له حد متى جاوزه صار ذلا ومهانة، وإذا قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر.

وللحرص حد وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة، ومتى زاد عليه كان شرها وطمعا[13].

وقد لاحظ الإسلام غرائز الإنسان التي تؤثر في أخلاقه، فمن المعلوم أن الجبلة البشرية تنطوي على مجموعة من الأخلاق الفطرية، التي لا يمكن إزالتها بالكلية أو هدمها، بل الترقي بها لتعديلها، ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع حكيم بن حزام رضي الله عنه – وهو من مسلمة الفتح – حين سأله من غنائم حنين، فأعطاه ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه تأليفا له ،ثم أراد صلى الله عليه وسلم تهذيب خلق حب المال عنده، فقال: ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرة حلوة[14]، فمن أخذه بسخاوة نفس[15] بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس[16] لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع..))، فقرر حكيم رضي الله عنه الامتناع عن سؤال أحد من الناس، وقال:( يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا)[17]. والتزم بما قاله، فامتنع عن السؤال أو أخذ أي عطاء – رغم استحقاقه له – لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا، فيعتاد على الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك[18]، تهذيبا لأخلاقه أن تنساق وراء رغباته وشهوات نفسه.

اقرأ أيضا  المحافظة على العمل الصالح في عشر ذي الحجة

جماعية الأخلاق الإسلامية:
فالأخلاق الإسلامية ترتكز أساسا إلى النظر للإنسان على أنه جزء من الجماعة، لا يتجزأ عنها، وأخلاق الفرد نحو الجماعة ترتكز على أمرين:
أولهما: أن بذل الفرد وعطاءه وتضحيته في سبيل الجماعة، هو بالقيام بكل ما يستطيعه من خير وفائدة نحوها.

ثانيا: إمساكه عن الظلم والاعتداء قولا وفعلا.

وعلى هذين المرتكزين تقوم الأخوة الإسلامية، التي تبني صفا واحدا كالبنيان المرصوص، فالتعامل الأخلاقي مع الجماعة المسلمة يكون بتقديم الخير لها، وكف الشر عنها، والجماعة هي مجال التطبيق العملي للأخلاق، وهدف الإسلام الأخلاقي في المجتمع هو إيجاد مجتمع متحاب متعاون بناء[19].

فالمجتمع هو مجال التطبيق العملي للأخلاق، وذلك عن طريق معاشرته لمن عاشره من سائر الخلق، فصاحب الخلق الفضل الحسن:( يأمن شره من خالطه، ويأمل خيره من صاحبه، لا يؤاخذ بالعثرات، ولا يشيع الذنوب عن غيره… ذليل للحق، عزيز عن الباطل، كاظم للغيظ عمن آذاه، شديد البغض لمن عصى مولاه… لا مداهن، ولا مشاحن، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف…يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين، في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم عن أحد.. الناس منه في راحة، ونفسه منه في جهد)[20].

والمتأمل في غزوة الفتح أسبابها وأحداثها ونتائجها وما نزل فيها من آيات قرآنية، يستنبط العديد من الدلائل والقواعد الأخلاقية، سواء فيما يتعلق بالمعاملة مع الله تعالى[21]، كدلالة سورة النصر على خلق الحمد والشكر والاعتراف بالفضل له تعالى إلى نعمه.

أو ما يتعلق بتعامله مع غيره كأمانته عليه السلام ووفائه بالعهد، وذلك حين سلم مفاتيح الكعبة لعثمان رضي الله عنه، وقال: ((هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء))[22].

أو ما يتعلق بالأخلاق التي تخلق بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في ذات أنفسهم، كالصبر والشجاعة، والتي أثمرت حب البذل في سبيل الله والتضحية لنصرة الدين.

ومجمل القول، أنه لا يكاد يوجد حدث في هذه الغزوة، إلا ويستنبط منه خلق حميد يُحث عليه، أو خلق ذميم يُنفر منه ويُنهى عنه، وذلك – كما سبق – لارتباط الأخلاق بسائر شئون المسلم، فالعقيدة أخلاقية، والشريعة أخلاقية، والعمل المبني عليها أخلاقي، وصلة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره صلات أخلاقية[23].

اقرأ أيضا  الدعوة إلى الله والتبشير والإنذار

________________________________________
[1] خلق المسلم: الشيخ محمد الغزالي ص 15، دار الكتب الحديثة، مصر ط:8، 1394هـ 1974م.
[2] سورة الأحزاب آية 21.
[3] بتصرف، أعلام النبوة ص 201.
[4] بتصرف، الأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها ص 45.
[5] بتصرف، من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: د. عبد المحسن عباد ص 29.
[6] سورة يوسف جزء من آية 91.
[7] سورة يوسف سورة يوسف جزء من آية 92.
[8] انظر زاد المعاد 3/400. والرسول صلى الله عليه وسلم: سعيد حوى ص 136، دار الكتب العلمية بيروت، ط:2، 1391هـ 1971م.
[9] الإسلام والوعي الحضاري: د. أكرم ضياء العمري ص 88، دار المنارة للنشر والتوزيع جدة، ط:1، 1407هـ 1987م.
[10] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/82، وقال الإمام مالك رحمه الله : أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحو الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. بتصرف، تفسير القرآن العظيم 7/343.
[11] بتصرف، الأخلاق الفاضلة ص 133-134.
[12] للاستفادة انظر الخصائص العامة للإسلام: د. يوسف القرضاوي ص 130- 137.
[13] بتصرف، الفوائد: الإمام ابن قيم الجوزية ص 183، تخريج أحمد راتب عرموش، دار النفائس بيروت، ط:7، 1406هـ 1986م.
[14] شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة. فتح الباري 3/336 ح 1472.
[15] أي بغير شره ولا إلحاح، أي من أخذه بغير سؤال، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي: أي بسخاوة نفس المعطي أ ي انشراحه بما يعطيه. المرجع السابق.
[16] أي تطلعها وطمعها بالشيء. نزهة المتقين شرح رياض الصالحين 1/460.
[17] روى الحديث الإمام البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة 2/129.
[18] بتصرف، فتح الباري 3/336.
[19] بتصرف، مقدمة محقق كتاب مكارم الأخلاق: الإمام الطبراني ص 13، تحقيق: د. فاروق حمادة، الكتب التعليمي السعودي بالمغرب ط:1، 1400هـ 1980م.
[20] باختصار، أخلاق العلماء: أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري ص 64- 65، تحقيق: الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري، نشر إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ط: بدون 1398هـ 1978م.
[21] انظر الأخلاق الفاضلة، قواعد ومنطلقات لاكتسابها ص 39.
[22] سبق تخريجه ص 134.
[23] بتصرف، من فلسفة التشريع الإسلامي ص 50.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.