الإسلاميون حينما يخضعون لإكراهات الواقع

الإثنين 15 ربيع الثاني 1437//25 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بسام ناصر
“العمل لاستئناف الحياة الإسلامية” هي الغاية الجامعة التي قامت غالب الحركات والجماعات الإسلامية للعمل من أجل تحقيقها وإنجازها، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 التي كانت تمثل كيانا سياسيا جامعا وحاميا للمسلمين في العالم.
فمقصد تلك الحركات والجماعات هو إعادة الإسلام للحياة، والتوسل بكل الوسائل الممكنة والمتاحة من أجل تطبيق الشريعة وتحكيمها، وإقامة الدولة الإسلامية التي تمارس سلطة تطبيق الأحكام والشريعة، وإشاعة نمط الحياة الإسلامية في مجتمعات المسلمين.
كان من صلب عمل تلك الحركات الانخراط في العمل السياسي، بمنهجيات مختلفة ومقاربات متباينة، فبعض تلك الحركات اختارت العمل من خلال الأنظمة السياسية القائمة، وعبر المؤسسات الدستورية والقانونية في الدولة القومية الحديثة، وبعضها الآخر امتنع عن فعل ذلك، باعتبار أن ذلك اللون من المشاركة يفرض عليها الاعتراف بشرعية القائم، فاختارت منهجية التغيير الجذري الراديكالي بتقويض أركان القائم، والعمل على إيجاد البدائل من خارجه وفق المنهجية التي تؤمن بها، وتدعو إليها.
ولوج ميادين العمل السياسي، خاصة عبر المشاركة في مؤسسات النظام القائم، أنتج حالات من تضخم الاشتغال بالسياسي والاهتمام به على حساب الدعوي والتربوي، فنشأت من رحم ذلك التضخم ظواهر مَرضية مقلقة أثقلت كاهل العمل الإسلامي برمته، وأضعفته عن بلوغ المقاصد التي كان يلح عليها في خطابه وأدبياته في سابق عهده.
لا يخفى ما يتطلبه العمل السياسي من ممارسة ألوان عديدة من المكر والدهاء الذي قد يتحول مع غياب سلطان الأخلاق عن غالب من يمارسون العمل السياسي إلى كذب ونفاق ووصولية مقيتة، ونفعية طاغية، حيث يسود ذلك المبدأ الحاكم لأداء كثير من السياسيين (الغاية تبرر الوسيلة)، ففي سبيل بلوغ أهداف سياسية معينة تصبح كل الوسائل مباحة، فيختلط الحابل بالنابل.
حينما توجهت تلك الحركات والجماعات إلى تشكيل أحزاب سياسية، تمارس العمل السياسي من خلال تلك الأطر السياسية، مع إلحاحها على ضرورة فصل السياسي عن الدعوي، لتكون الجماعة أو الحركة الأم متخصصة في ممارسة العمل الدعوي والتعليمي والتربوي والخيري، ويكون الحزب مستقلا في ممارسة العمل السياسي، نشأ عن ذلك فصل لا شعوري بين حقول التربية والتعليم والدعوة والسياسة، فبات السياسي الإسلامي يمارس مهامه ونشاطاته السياسية، وكأنه منبت عن أصوله الإسلامية، لمراعاته الشديدة للتقاليد والأعراف السياسية الحاكمة للأداء السياسي، بصرف النظر عن الانتماء الفكري.
بات من المتداول في أوساط إسلامية عريضة التصريح بأن تلك الأحزاب “الإسلامية” لا تنوي تطبيق الشريعة، ولا تسعى إلى ذلك، وليس من أهدافها ومقاصدها العمل لإقامة الدولة الإسلامية التي كانوا يحلمون بها، وشحنوا خطابهم سابقا بمفرداتها، بل تراجع الأمر إلى القبول بكل ما يمليه عليهم نموذج الدولة القومية الحديثة في شروطه ومواصفاته الصارمة، فأضحت غاية مُناهم الدعوة إلى الدولة المدنية بمرجعية إسلامية، وهي في غالب الحال جملة متداولة تقال هكذا من غير تحديد لمضمونها ولا لطبيعتها.
حينما وصلت حركة النهضة التونسية إلى الحكم، تكاثرت تصريحات قياديها ورموزها الكبار بأنهم لن يطبقوا الشريعة الإسلامية، ولن يسعوا لسن قوانين وتشريعات تلزم المواطنين بأحكام الشريعة؛ ما يعني أنه ليس في أجندة القوم العمل لتطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الإسلامية التي كانوا يدعون إليها ويبشرون بها في سابق عهدهم، فلماذا تراجعت مرجعية الشريعة، ولم يعد لها ذلك الحضور في خطابهم وحراكهم الدعوي والسياسي؟
وقد تجد حزبا إسلاميا آخر في بلد آخر، يوافق على تسلم زمام الحكومة، كما هو حال حزب العدالة والتنمية في المغرب (الذراع السياسي لجماعة التوحيد والإصلاح)، فترى أداءه السياسي لا يختلف كثيرا عن أداء أي حزب آخر، خاصة في التزامه بشروط ومواصفات الدولة الحديثة، وخضوعه التام لتقاليد الحكم في الدولة وأعرافها، حتى وإن كانت لا تتماشى مع رؤاه الفكرية والسياسية، وقد كانت آخر ممارسات الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية الضغط على السلطات التركية لإيقاف أعمال المؤتمر الدولي “التغيير في نظرية المنهاج النبوي” الذي نظمته ودعت إليه جماعة العدل والإحسان المغربية المعارضة.
فكيف تقبل حكومة حزب العدالة والتنمية بمثل هذه الممارسات، ومن قبل ذلك تقوم الشرطة المغربية بضرب المشاركين في مظاهرات المعلمين للمطالبة بحقوق لهم؟ أين قيمة العدل والقسط التي هي من أمهات قيم الحكم الإسلامي الرشيد؟ وما الذي حققته هذه الحكومة برجالها الإسلاميين؟ وهل هذه هي أهداف ومقاصد العمل السياسي الذي يسعى إليه الإسلاميون الممارسون للعمل السياسي؟
لا يستريب أحد أن الحركات والجماعات الإسلامية حينما عاينت الواقع الذي كانت تنشد إصلاحه وتغييره في سابق عهدها، بدقة وواقعية عبر تجارب عملية، اكتشفت أنها أمام تحديات كبيرة، ومعوقات حقيقية، جعلتها تتواضع في مطالبها، وربما تتراجع عما كانت تبشر به وتدعو إليه، تحت ضغط الواقع وإكراهاته الشديدة.
فمن اعترافات الشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة التونيسة، في تصريحاته الصحفية، أن حركة النهضة كانت واهمة في تصوراتها وحساباتها وتقديراتها، فقد كانت تتوهم أن مجرد نجاحها في الانتخابات البرلمانية، وحصولها على نسب عالية، يخولها للإمساك بزمام السلطة، لكنها بعد تجربة قصيرة اكتشفت أن مفاصل الدولة في قبضة رجالات “الدولة العميقة”، وليست في نتائج الانتخابات؛ ما جعلهم يخضعون لضغوط الواقع وإكراهاته، ويقبلون بالخروج من الحكومة طواعية، وبقرار ذاتي؛ خوفًا من تكرار السيناريو المصري مرة أخرى في تونس.
ما زالت الحركات والجماعات الإسلامية تستكشف حقيقة الواقع الذي تعيش فيه، والذي يغاير في كثير من جوانبه وشؤونه، تماما تلك الصورة التي ارتسمت في أذهانهم عبر تصوراتهم النظرية عنه؛ ما جعلهم يتواضعون في تطلعاتهم وأهدافهم، وأحيانا رضوخهم لما كانوا يرفضونه في سابق عهودهم، ثمة مسافات شاسعة بين النظرية والواقع، قد تسعفهم التجارب العملية المريرة في قياس تلك المسافات والتعرف عليها.
-السبيل-

اقرأ أيضا  غزة.. والخطر القادم