الإيمان بالقدر (خطبة)

الإثنين 5 جمادى الثانية 1437// 14 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أ. عبدالعزيز بن أحمد الغامدي
الإيمان بالقدر
الخطبة الأولى
عباد الله، نتحدَّث في هذه الخطبة عن ركنٍ من أركان الإيمان وأساس من أسس العقيدة؛ إنه الإيمان بالقدر، وما أدراك ما الإيمان بالقدر، جاء في (الصحيح) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور؛ وفيه حينما سأل جبريلُ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؛ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا يبلغُ العبدُ حقيقةَ الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه )) صححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا يجدُ عبدٌ حلاوةَ الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) صححه الألباني.

عباد الله: الإيمان بالقدر يشملُ أربعةَ مراتب؛ دلَّ عليها كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذكرها عامة أهل العلم:
وهي إجمالاً: العلم والكتابة والمشيئة والخلق.
فأولها: الإيمان بعلم الله السابق وأنه علم ما كان وما يكون على وجه التفصيل – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].
وهذا العلم أزليٌّ؛ أي: ليس له أول، وهو متقدم على جميع المخلوقات، فقد علم الله كلَّ شيء، وهذا من سعة علمه سبحانه، وهو أحد صفات الله العظيمة التي لا تشابه صفات المخلوقين: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

فعِلمُهُ – سبحانه – ليس فيه خطأ أو ظنون، وعلمه سبحانه محيط بكل شيء، وعلمه – سبحانه – لم يسبقه جهل، بينما جميع علوم البشر مسبوقة بالجهل ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].

اقرأ أيضا  وجوب التناصر بين المسلمين

والمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه وتعالى للمقادير، قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحـج: 70].

المرتبة الثالثة من مراتب القدر: المشيئة، مشيئة الله تعالى النافذة وإراداته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه السُنَّة الكونية متعلقة بحكمة الله تعالى في مخلوقاته التي قد نعلمها وقد لا نعلمها، وهي واقعة لا محالة، ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ﴾ [فاطر: 8].

المرتبة الرابعة من مراتب القدر: الخلق، ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96].

وهذا التقدير المشتمل للعلم والكتابة والمشيئة والخلق ليس حُجَّةٌ للعباد في مخالفة شرع الله، وإنما لكمال علم الله وقدرته – سبحانه، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي فهذا من الكذب والتكذيب، لأن العاصي يقع في المعصية بإرادة منه، وفي ذلك يقول الله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35]، أما المصائب فيصح الاحتجاج بالقدر عليها بعد وقوعها؛ فهي واقعة بغير إرادة المُصاب، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل)) رواه النسائي. وإنما يُحاسب المصاب على ما يفعله بعد هذه المصيبة من التسخط وعدم التسليم والرضا بقضاء الله وقدره.

وبعد ذكر هذه المراتب الأربع نستطيع أن نعرف الإيمان بالقدر بأنه: أن يؤمن العبد بأن الله علم كلِّ شيء وكَتبه وشاءه وخلقه.

اقرأ أيضا  أثر القرآن على النفوس

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة…
الخطبة الثانية
أما بعد، عباد الله: فإن الإيمان بالأقدار يُكسب المؤمن راحةً وطمأنينةً وقوةَ إيمان ويقينًا بالله من عدة نواحٍ، منها:
أولاً: المصيبة إذا وقعت علم المؤمن يقينا أنه لا مجال لردها فلا يندم ولا يتحير، ولا يقل: لو أني فعلت وفعلت، وإنما يقل: قدر الله وما شاء فعل، فتطمأنَّ نفسُه.

ثانياً: إن أصابه خير من الأقدار فلا يتكبر ويزهو؛ بل يردُ الأمر إلى الله الذي مكَّنَه منه، وتأمَّلوا قولَ الحق تبارك وتعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23]، وتأملوا قولَه تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].

ثالثًا: أن المؤمن إذا أصابته المصيبة وعلِمَ أنها من عند الله تعالى، وأنه مُبتَلَى بها ومُختَبَر بها، أكسبه ذلك الصبرَ عليها والرضا بها، فهو في مصيبته تحت نظر الله تعالى يبتليه، فإن صبر فهو خير له، لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم حين يقول: (( أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل )) رواه النسائي والبيهقي، ويقول أيضاً: (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة )) رواه الترمذي (2399).

فتتبدل تلك المحن إلى مِنَح، وتلك الأسقام إلى طمأنينةٍ في القلب.

رابعًا: أن المؤمن إذا أصابه الخير فهو شاكر لربه، تأملوا قول النبي الصالح، والملك العادل: سليمان عليه السلام لما نظر إلى عرش بلقيس، قال: ﴿قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].

اقرأ أيضا  الخاسرون (خطبة)

فالدنيا دار بلاء بالخير والشر، قال الله: ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (( عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم (2999). هذا حال المؤمن فيحضى بالطمأنينة في الدنيا؛ والأجر في الآخرة، والعوض في الدنيا والآخرة.

والمقصود بالمصيبة: كل ما يعرض للإنسان سواء جسمياً أو ماديا أو معنوياً مهما صغر أو كبر، وتأمَّلوا قوله عليه الصلاة والسلام: (( ما يصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزنٍ، ولا أذىً، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه )) رواه البخاري (5318).

ويقول عليه الصلاة والسلام: (( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي (2396).

فعاقبة الصبر الأجرُ العظيم: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. من هم؟ ﴿ لَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157].

اللهم اجعلنا ممن يؤمن بقدرك؛ ويرضى بقضائك؛ ويقنع بعطائك؛ ويؤمن بلقائك.
اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك؛ المثنين بها عليك؛ المستعينين بها على ما يرضيك. اللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين، المحتسبين للأجرِ والخلف منك يا رب العالمين.

اختصار ومراجعة: الأستاذ/ عبدالعزيز بن أحمد الغامدي

-الألوكة-