الاستراتيجية العسكرية لتنظيم “داعش”

قوات تنظيم داعش - albawaba.om -
قوات تنظيم داعش – albawaba.om –

عمر عاشور

أستاذ محاضر في الدراسات الأمنية الاستراتيجية

الاثنين 15 ربيع الثاني 1437//25 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

“كونوا على يقين أن الله سينصر عباده المؤمنين، وأبشروا أن دولتكم بخير، وكلما ازدادت الحرب ضدها واشتدت بها المحن كلما ازداد صفها نقاء وازدادت صلابتها”.. جاء التسجيل الصوتي الأخير لزعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي في وقت انهالت فيه الضربات على “دولته” من عدة جهات.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2015، قدر الرئيس الأميركي باراك أوباما خسائر التنظيم بـ40% من أراضيه في العراق، بينما قدرت تقارير أخرى صدرت من مراكز أبحاث متخصصة في التحليل الاستخباري العسكري أن التنظيم فقد 14% من أراضيه (12800 كلم2) في كل من العراق وسوريا ما بين يناير/كانون الأول وديسمبر/كانون الثاني 2015.

وقد أكد نائب وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في يونيو/حزيران 2015 أن ضربات التحالف دمرت أكثر من ستة آلاف ومئتي هدف لتنظيم الدولة، وقتلت أكثر من عشرة آلاف من مقاتليه منذ بدء الغارات الجوية في سبتمبر/أيلول 2014، بينما حَدَّثَ البنتاغون هذه التقديرات في ديسمبر/كانون الأول الماضي ليؤكد أن القوات الجوية الأميركية وحدها أغارت أكثر من 8600 مرة، وألقت خلال الغارات أكثر من 28 ألف قنبلة على مواقع وأراضي التنظيم في العراق وسوريا. وقد قدر البنتاغون قتلى تنظيم الدولة خلال السبعة عشر شهرا الأخيرة بعشرين ألفا، بينما لم يعترف إلا بقتل ستة مدنيين خطأً.

ورغم خسائره في الرمادي وتكريت وبيجي وريف الحسكة وبعض بلدات وقرى الرقة وريف حمص وحماة، فإن التنظيم لم ينهر على عكس ما قد تتنبأ به موازين القوى الصلبة على الأرض، أو أي تحليل عسكري تقليدي يأخذ تلك الموازين في الاعتبار ويقارن بين عدد وعتاد المتحاربين وقدراتهم. والسؤال هنا هو لماذا؟

أعداد قليلة وأراض كثيرة
فمقارنة مثلا بنظامي طالبان في أفغانستان والبعث في العراق، فقد فقدَ الأول السيطرة على عاصمته الفعلية (قندهار) خلال حوالي شهرين من الغارات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وضربات قوات المعارضة الموالية للتحالف.

أما الثاني فقد فقدَ السيطرة على العاصمة بغداد بعد أقل من شهر ونصف من الغزو الأنجلوأميركي في مارس/آذار 2003. أما حالة تنظيم الدولة، فبعد 17 شهرا من ضربات التحالف الدولي المكون من أكثر من ستين دولة، لا زال التنظيم يسيطر على عاصمتيه العراقية في الموصل، والسورية في الرقة.

اقرأ أيضا  لجنة التحقيق الدولية: نظام الأسد مسئول عن الجرائم في سوريا

وخلال عامي 2014 و2015 سيطر التنظيم على أراضٍ تمتد من أجزاء من محافظة حلب السورية إلى أجزاء من محافظة صلاح الدين العراقية بعرض 650 كيلومترا. وتشمل هذه المنطقة أجزاء كبيرة من محافظات الأنبار ونينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين في العراق، وكذلك أجزاء كبيرة من الرقة والحسكة ودير الزور وحلب وحمص وريف دمشق في سوريا.

والتنظيم سيطر أيضا على ضاحية الحجر الأسود في دمشق وأجزاء كبيرة من مخيم اليرموك، ووصل إلى مسافة تقل عن خمسة كيلومترات من ساحة الأمويين في وسط دمشق. هذه المناطق (أو “الولايات” بحسب التقسيم الإداري-الجغرافي لتنظيم الدولة) يقطنها عدد يقدر بعشرة ملايين شخص.

كما أن للتنظيم سيطرة أو نفوذا -يتقدم ويتراجع- في مناطق أخرى كأجزاء من وسط وشرق ليبيا، وشمال شرق نيجيريا، وشرق أفغانستان (وخاصة محافظة نانغهار)، ومصر (شمال شرق سيناء)، ومناطق أخرى.

وقد قدرت وكالة الاستخبارات الأميركية في عام 2014 أعداد مقاتلي التنظيم بما بين عشرين و31 ألفا. ومقارنة بقوات الجيش العراقي فقط، يُتَرجَم هذا العدد لمقاتل واحد مقابل عشرة جنود، وهذا دون الأخذ في الاعتبار القوات المساندة أو الحليفة كالحشد الشعبي والحشد العشائري ووحدات البشمركة والتحالف الدولي.

أما في معركتي الموصل (يونيو/حزيران 2014) والرمادي (ديسمبر/كانون الأول 2015-يناير/كانون الثاني 2016)، فانخفضت النسبة إلى مقاتل واحد مُهَاجِم مقابل عشرين جنديا وضابطا مُدافِعا في الموصل، وحوالي مقاتل واحد مقابل 25 جنديا وضابطا في حالة الرمادي.

وفي مناطق خارج العراق وسوريا، تتراجع نِسَب القوة العددية أحيانا لتصل لمقاتل واحد مقابل خمسمئة جندي وضابط، كما هو الحال في شمال سيناء. وهذه تقديرات عددية فقط، لا تأخذ في الاعتبار نوعية العتاد ونِسَب كثافة النيران والدعم والإسناد الجوي والاستخباري والإستراتيجي/التخطيطي/الاستشاري، الإقليمي والدولي، وكلها عوامل ليست في صالح التنظيم.

التكتيكات المضادة لتنظيم الدولة
وفرت الدراسات الأمنية والعسكرية مجموعة من التفسيرات والتحليلات عن أسباب انتصار أو صمود الكيانات الأضعف عسكريا أمام الكيانات الأقوى، سواء كانت تلك الكيانات تحالفات دولية أو دولا منفردة أو مؤسسات أو تنظيمات مسلحة ثورية.

وركزت معظم هذه التفسيرات والنظريات المبنية عليها على وعورة الجغرافيا/تعقيدات الطبوغرافيا، والحاضنات الشعبية بأنواعها المختلفة (شعبوية، عرقية، مذهبية، جهوية، دينية، فكرية/أيديولوجية)، والدعم الخارجي الدولي للطرف الأضعف، وكذلك على التكتيكات والإستراتيجيات العسكرية للأطراف المتصارعة.

إلا أن التفسيرات الثلاثة الأولى لا تساعد كثيرا في فهم حالة تنظيم الدولة، فمعظم مناطق السيطرة ليست بوعورة جبال كوبا أو أفغانستان أوالشيشان حيث استفادت الأطراف الأضعف عسكريا من تعقيدات الجغرافيا، أما “الحاضنة” فهي لا تتعدى أقليات تصغر وتكبر بحسب شراسة القصف وشدة القمع.

اقرأ أيضا  الجامعة العربية تبحث الخطة العربية لمكافحة الإرهاب

فقد أجرى معهد دراسات الإدارة والمجتمع المدني في العراق استطلاعا مصغرا للرأي في مدينة الموصل، وجد فيه أن نسبة من يعتقدون أن آراءهم أو مصالحهم يمثلها تنظيم الدولة لم تتجاوز 10% في يونيو/حزيران 2014، ثم ارتفعت في ديسمبر/كانون الأول 2015 بعد ضربات التحالف لتصل إلى 39% من العينة المستطلعة.

كما أن التنظيم يُنظر إليه من قبل بعض مؤيديه (من غير المنضمين لصفوفه) في مناطق مثل سرت (ليبيا)، ودير الزور (سوريا)، وسيناء (مصر)، على أنه “شر أقل من شر آخر (الأنظمة الحاكمة)”

هذا بالإضافة إلى أن التنظيم ليس فقط في حالة حرب مع العديد من الحكومات والأنظمة في المنطقة وخارجها، بل مع شرائح واسعة من مجتمعات مسلمة محافظة، وكذلك مع كثير من التيارات الإسلامية السنية والشيعية، وحتى مع بعض التيارات الجهادية بما فيها تنظيم القاعدة.

وأما الدعم الخارجي، فبالرغم من توافر نظريات المؤامرة، فإنه لم يثبت بعد أن التنظيم يتلقى دعما منهجيا مباشرا من أية حكومة أو نظام، مشابها مثلا للدعم السوفياتي للثوار الكوبيين أو الدعم الباكستاني والسعودي لفصائل المجاهدين الأفغان.

وقد تفسر التكتيكات والإستراتيجيات العسكرية للتنظيم قدرته على الصمود والتوسع أكثر مما سبق. فالجمع ما بين: تكتيكات “إرهاب المدن” (خاصة الهجوم بطوابير السيارات المفخخة بقيادة انتحاريين، والاستخدام المُكَثَّف لسلاح القناصة والاغتيالات قبل وأثناء الهجوم)، مع أساليب الحروب الثورية التقليدية (خاصة الوحدات المختلطة من العسكريين والمتطوعين المدربين، السريعة الكر والفر، والصغيرة العدد)، بالإضافة إلى التكتيكات النظامية التقليدية (المدفعية الخفيفة والثقيلة والمدرعات والدبابات، وكذلك الأنواع المختلفة من الصواريخ الموجهة وغير الموجهة)؛ قد أثبتت فعالية كبيرة رغم قلة العدد.

ورغم أن أسلوب الحرب النظامية التقليدي (وخاصة استخدام المدرعات) قد تم تقويضه إلى حد كبير بفعل الضربات الجوية للتحالف، فإنالتنظيم استطاع تجنب المزيد من الخسائر عبر تفريق وإخفاء الأسلحة الثقيلة وبعض العربات المدرعة والدبابات التي نجت من القصف.

نوعية المقاتلين المنضوين تحت لواء تنظيم تضيف أيضا لرصيده العسكري، من ناحية الصلابة في الميدان والتجرد للهدف. فالمقاتلون المفيدون للتنظيم يندرجون تحت ثلاث فئات: الفئة الأولى هي الأعضاء السابقون في قوات مسلحة نظامية (وخاصة من العراق وسوريا ومصر وجورجيا)، وهؤلاء خدموا في قطاعات مختلفة منها الحرس الجمهوري، والاستخبارات العسكرية، والمدفعية، والمدرعات، والشرطة (المدنية والعسكرية).

اقرأ أيضا  بوريل يدين تصريحات إسرائيلية دعت لتهجير الفلسطينيين من غزة

والفئة الثانية هي فئة المقاتلين غير النظاميين الذين قاتلوا في حروب سابقة، وتعددت خبراتهم القتالية في جغرافيا متنوعة (جبال، أدغال، صحراء، مدن، قرى وبلدات). والفئة الثالثة هي المقاتلون المحليون الذين تراكمت لديهم خبرة طويلة في مواجهة القوات النظامية المحلية وبناء شبكات دعم لوجستي على مدى العقد الماضي.

 نجاح تكتيكي حالي وفشل إستراتيجي مستقبلي
بالإضافة لذلك، لا توجد لدى التنظيم صعوبات كبيرة في التجنيد، نظرا لأن البيئة السياسية القمعية تساعده على إضفاء مصداقية على خطابه التعبوي. ومن هنا الخلل في إستراتيجية احتوائه وتدميره على المدى الطويل.

إذ تقوم تلك الإستراتيجية حاليا على ثلاثة أركان رئيسية، ركنين عسكريين أمنيّين وركن سياسي إصلاحي: الضربات الجوية لاحتوائه على المدى القصير، والشركاء المحليين المتعاونين مع قوات التحالف لإضعافه وتدميره على الأرض على المدى المتوسط أو الطويل، ومحاولة إصلاح البيئات السياسية من خلال التسويات و/أو المصالحات و/أو الديمقراطية للوقاية من أفكار التنظيم وسلوكياته على المدى الطويل.

إلا أن الركنين الأخيرين يتعارضان مع بعضهما البعض، فاعتبار أنظمة ارتكبت مجازر ضد شعوبها وجرائم ضد الإنسانية “شركاء” في مكافحة الإرهاب (وهو بعض ما يترتب على الركن الثاني)، هو بذاته ما سيضرب الركن الثالث من الإستراتيجية على المدى الطويل.

وبالتالي فإن هزيمة تنظيم الدولة عسكريا -وهي بحد ذاتها نتيجة يجب ألا يُنظَر إليها على أنها إنجاز تكتيكي ميداني كبير، نظرا للفوارق الهائلة في العدد والعدة والعتاد- قد تعالج مؤقتا عارضا من عوارض الأزمة السياسية في المنطقة، ولكن جذور الأزمة تبقى قائمة. وبالتالي فإن تلك الجذور ستولد عارضا آخر قد يكون أكثر تطرفا وأشد عنفا وصلابة.

المصدر : الجزيرة.نت