الترابط بين أفراد المجتمع المسلم – د. طه فارس
الجمعة 10 شوال 1437/ 15 يوليو/ تموز 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
إنَّ قوَّة المسلمين وعزتَهم، ووجودَهم وهيبتَهم، يكمن في اجتماعهم وترابطهم، وقيامِهم بواجباتهم، فقد أراد الله تعالى لأمة الإسلام أن تكون أمَّة واحدة، وأن يكون مجتمعها مُترابطاً، مُتحابَّاً، مُتراحماً، متواصلاً، مُتناصحاً، مُتناصراً، يجتمع على طاعة الله تعالى ويتفرق على ذلك.
فأمرهم الله تعالى بالتَّمسك بكتابه والاجتماع عليه، ونهاهم عن التَّفرق والاختلاف فيه، وبيَّن بأنَّ عاقبة ذلك الفشل والضعف والخذلان، فقال لهم: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [1]﴾ [الأنفال: 46].
وقد امتنَّ الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن جمع له قلوب أصحابه بعد تفرُّق وعداء، وزرع فيها التراحمَ والإيثارَ والإخاءَ، فقال تعـالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 62، 63]، وقـال: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [2] ﴾ [الحشر: 9]
كما امتنَّ تعالى على المؤمنين بنعمة الأخوة التي جمعتهم بعد عداوة وبغضاء، وجعل هذه الأخوة رابطاً قوياً فيما بينهم، تفوق بقوتها أخوة النسب والأرحام، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات:10]، وهذه الأخوة القوية هي تدفعهم للتَّناصر والتَّواصل والتناصح فيما بينهم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقومون بما أوجبه الله عليهم، قـال الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ﴾ [التوبة:71]، بل ويدعو بعضهم لبعض بالمغفرة والرضوان، وإن تباعدت الأزمان والأقطار، بقلوب خلت من الغلِّ والأحقاد، وامتلأت بالمحبة والإيثار، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر:10].
وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى التي أراد أن يبني فيها دولة الإسلام، على التأليف بين قلوب المؤمنين، والمؤاخاة بينهم، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وأرسى بين أفراد المجتمع المسلم الحقوق والواجبات، التي ينبغي أن يتعاملوا من خلالها، ليكون المجتمع قوياً متماسكاً تسود فيه الحقوق، وينأى عن أخلاق أفراده التنافر والعقوق.
وقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم المجتمعَ المسلمَ عندما تسود بين أفراده الحقوق والواجبات، من توادٍّ وتَراحمٍ وتعاطف، بالجسد الواحد الذي يتألَّم لألم بعض أجزائه، فقال صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[3]، وأمَّا تماسكُم وترابطهم وتعاضدهم فشبهه بالبنيان القوي الشامخ الذي لا تهزُّه الزلازل والعواصف، فقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ[4].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جملة من الحقوق والواجبات التي ينبغي أن تسود بين أفراد المجتمع المسلم، ويتبادلوها فيما بينهم، من ذلك:
- السلام، وإجابة الدَّعوة، وتشميتُ العاطس، والنَّصيحة، وعِيادة المريض، واتِّباع الجنائز، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»[5]، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن السلام سبب من أسباب المحبَّة التي تحقِّق لصاحبها كمالَ صفة الإيمان، وذلك ليحظى بعد ذلك بجنَّة الرحمن، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ »[6].
- محبَّة الخير للغير، وذلك بأن يُحبَّ للمسلمين ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[7].
- التَّواضع لجميع المسلمين وعدمُ التَّكبُّر على أحد بعلم أو مال أو منصب أو ولد أو زوجة أو جمال أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»[8].
- عدم إيذاء أحد من المسلمين بفعل أو قول، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ: مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[9]، واللهُ تعالى يقول عن أولئك الذين يؤذون المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب:58].
- العمل على تنفيس كروب المكروبين، وتيسير المطالبة على المعسرين، وستر أخطاء المذنبين، وإعانة المحتاجين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « مَن نَفَّسَ عَن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[10].
- أن لا يبغض مؤمناً، ولا يحسدَه على ما آتاه الله إيَّاه، ولا يقاطع ولا يعادي أحداً من المسلمين، وأن يُقدِّم أخوة الإيمان على أيِّ غرض من أغراضه الشخصية والنفسيَّة، ولا يهاجر مسلماً أكثر من ثلاثة أيام، إلا إذا كان ذلك لارتكاب كبيرة من الكبائر والإصرار عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَن يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»[11].
- إحسان الظنِّ بالمسلمين، وعدم تتبع عوراتهم، أو التجسس عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، ولا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا[12]»[13].
- حفظ دماء المسلمين، وأموالِهم، وأعراضهم، وعدم التَّعدي عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»[14].
- أن لا يظلم مسلم مسلماً[15]، ولا يُسْلِمَهُ[16]، ولا يخْذُلَه[17]، ولا يحقره[18]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ..»[19].، وفي رواية: « وَلَا يَخْذُلُهُ ولا يحقره… بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ »[20].
- عدم خيانة المسلم، أو الكذب عليه، أو إخلاف عهده ووعده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ»[21].
- أن لا يبيع مسلم على بيع أخيه[22]، وأن لا يشترِي على شراء أخيه[23]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَبِع بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ»[24].
- أن لا يَسُوْمَ مسلم على سوم أخيه[25]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَا يَسُم الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ »[26].
- أن لا يزيد مسلم في ثمن سلعة لا يقصِد شراءها، إنَّما ليَخدع مسلماً آخر بشرائها بثمن أعلى، وهو ما يُسمَّى بالتناجش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَنَاجَشُوا»[27].
- أن لا يَخْطُبَ مسلم على خِطبة أخيه حتى يتزوَّج الخاطب غيرها، أو يصرِّح بتركه إيَّاها وعدم رغبته بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ»[28].
هذه جملة من الحقوق والواجبات والآداب التي ينبغي أن تسود بين أفراد المجتمع المسلم المنشُود، ولو أنَّ كلَّ مسلم أدَّى ما عليه من الواجب لصَلُحت أحوال المسلمين، وأصبح مجتمعهم مجتمعاً قوياً مترابطاً كما أراده الله تعالى، وكما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-السوسنة