التسامح في القرآن الكريم
الأربعاء،9 ذوالقعدة1435ه الموافق3 أيلول/سبتمبر2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أحميدة النيفر
لا غرابة أن يكون معنى التسامح في المعجم العربي بمعنى السماحة والجود والكرم فمعناه أن تتغاضى عن خطأ غيرك، أو تتساهل في حق، أو تصبر على إساءة ما. بينما المفهوم نفسه في لغات أخرى مثل الفرنسية يحمل دلالة أوسع. لكن ما يؤكده الاستعمال الفرنسي من معنى المساواة لم يكن هو الطابع «الأصلي» الذي ميّز عبارة(Tolérance) التي أصبحت تفيد قبول التفكير والسلوك المغايريْن لما عليه عموم الناس. ما يعبّر عنه معجم روبير الفرنسي يتعلق بما انتهت إليه هذه العبارة بعد أطوار وتحولات بدأت منذ القرن السابع عشر إلى القرنالعشرين. لقد شحنت الكلمة بمضامين جديدة فتجاوز التسامح المجال الفردي والتطوعي ليصبح دالاً على طاقة المجتمع وقدرته على استيعاب الاختلاف والمعارضة واحترامهما. مثل هذا المعنى ليس «أصلياً» ودائماً. من ثمَّ فإننانجد في المعجم الفرنسي معاني عدة للكلمة نفسها كالتفهّم والتساهل والإحجام عن المنع. لكنَّ المعجم يؤكّد أنّ ما بلغته هذه العبارة من دلالة عن احترام حرية الآخر في معتقداته الدينية أو أفكاره الفلسفية أو آرائه السياسية إنما تحقق في فترة متأخرة.
فاللغات ومنها اللغة الفرنسية أو أي لغة أخرى لها تاريخ وصيرورة والعبارات المتصلة بالجوانب الحضارية والفكريةوالاجتماعية تعكس تلك الصيرورة. وهذا يثير مسألة المعاجم عندنا. ففي العربية لا نملك إلى الآن معجماً تاريخياً شاملاً، ولقد حاول ذلك المستشرق الألماني فيشر Fisher لكنه توفي قبل أن ينظم كامل المواد التي جمعها. ماأقصده هو أن المعجم التاريخي يدعّم وعينا بمدى التحوّل الذي شمل اللغة والفكر في آن واحد فهو من هذه الناحية عنصر يساعد على إدراك طبيعة الموقع الذي تحتله أمة ما مقارنة بما كانت عليه في أطوار سابقة ومقارنة بما بلغتهالأوضاع نفسها لدى أمة أخرى.
من جهة أخرى فإنّ البحث عن مفهوم التسامح في المعجم العربي لا ينبغي أن يتوقف عند مادة (س م ح)، بل يحتاج أن يشمل مادة (ع ف و) أو مادة (د ر أ) وما حفّ بالتسامح والعفو والصبر من عبارات مصاحبة ورديفة حتى نتمكّن من تحديد خصوصية المفهوم في اللغة العربية. مع هذا فإن البحث اللغوي – الفكري ينتهي إلى أن عبارة التسامح في اللغة العربية ما تزال دالة على سلوك ذاتي واختياري فهي بذلك لا تشمل قبول المساواة التامة بين حقوق الطرف الغالب والأطراف الأخرى. إنها بذلك بعيدة من أن تكون أساساً للتنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمع.
لكنَّ هذه الخصوصية لا تتصل بأيّ صورة بخصوصيات «عرقية» إذ إنَّ الاستناد إلى مثل هذه النظريات العرقية قد وقع تجاوزه علمياً، ولقد بات من اليقيني أن الثقافة هي التي تصنع العرق وليس العرق هو الذي يصنع الثقافة، ومن ثم فإنَّ ما نعالجه من قضية اللاتسامح في مجتمعات عربية إسلامية يعود إلى ظاهرة التمركز الثقافي في ذلك الفضاء، فهي التي تحول دون بلوغ حدّ التكافؤ بين الذات والآخر. هذا مع العلم أنَّ التمركز ليس خاصية عربية وأنّ الفرنسيين وغيرهم على رغم التحوّلات المهمة في هذا الموضوع يدركون أنَّ أنساقهم الثقافية ورؤيتهم لذواتهم ولغيرهم لا تزال محمّلة بمعانٍ ثقافية ضاربة في القدم وفي اللاتكافؤ.
لذلك فإن السؤال عن شكل التسامح الذي تفصح عنه آيات القرآن الكريم يثير من جهة أولى مضمون التسامح في الخطاب القرآني، أي أنَّ المطلوب هو قراءة المسألة وتأصيلها في ضوء ما بلغه الفكر المعاصر من قيم التنظيم الاجتماعي والسياسي. من جهة ثانية يتناول السؤال المنهجَ الذي ينبغي أن يُعتمد اليوم في دراسة المفاهيم القرآنية وما يمكن أن يفضي إليه هذا المنهج من مراجعات لمعنى قدسية النص القرآني.
إنْ بدأنا بجانب المضمون فإن عبارة التسامح لا ترد في القرآن الكريم. لكنها تتوافر ضمن حقل دلالي تحدده عبارات أخرى مثل «العفو» و»الإكراه» و»التذكير» وما اتصل بمجال الإيمان والكفر. تتقاطع ضمن هذا الحقل جملة من الدوائر مجسّدة قيمة جديدة بالنسبة إلى مجتمعات قديمة كانت لا تفصل بين التدين والروابط الاجتماعية المقيدة قاصرة مفهوم الإنسان على فرديّة آسرة وعشائرية طاغية.
لقد كان مبدأ «لا إكراه في الدين» خطوة جديدة تحدى بها الخطاب القرآني النسق الثقافي السائد سواء أكان متمثلاً في الوثنية أم في النصرانية أم في اليهودية أم في غير ذلك. نجد أساس التسامح متعلقاً بالأفراد وبالجماعاتمتمركزاً في قضية «الحق» ضمن البنية القرآنية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29]. تتدعم قيمة التسامح في دوائر أخرى مثل قوله تعالى:{وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد : 22] أو قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}[الفرقان : 63]. أما في جانب العلاقات بين المجموعات فالآيات التي تؤكد على مساواة الناس أياً كانت معتقداتهم لافتة للنظر. هناك إقرار بمبدأ التعددية: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر : 24] أو قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[يونس : 99]. هذه الدوائر تثبت أن الإيمان واتباع الحق لا ينفصل عن الصيرورة التاريخية. في هذا التركيز على تعدّد الرسالات الإلهية دعوة لتجنب الحصرية وروح الطائفية. يتأكد هذا من خلال آيتين مدنيتين :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 62].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة : 69]
لذلك فإن الإقرار بمبدأ تعدد الرسالات الإلهية التي ُتختَم برسالة محمد (ص) يفضي إلى أن الخطاب القرآني جعل معاييرَ لحقية أية رسالة: إنها الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح.
آية مدنية ثالثة تؤكد هذا التوجه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}[النساء:123-124].
لقد عالج القرآن الكريم مسألة التسامح معالجة متأنية وواضحة في المرحلة المدنية وذلك بمواجهة «الحصرية» المتربصة بالرسالات السابقة وبعقيدة التوحيد بخاصة مما يؤول إلى نوع من انحسار الرحمة في حدود ضيقة. «التسامحالقرآني» يبرز من خلال مقاومة «الحصرية» التي تجعل أن ليس هناك خلاص لأحد خارج هذه الملة أو تلك.
لكن المسألة تبرز أيضاً في الجزء المكّي من القرآن الكريم. في هذا المجال نجد أن هذه المرحلة أسست لقيمة التسامح من مداخل عقدية مختلفة. هذه المسالك تتناسب والوضع التاريخي الذي كانت تعيشه الجماعة المؤمنة الأولى ونوع التحديات التي تواجهها من جهة وطبيعة التحديات التي تنتظرها في مستقبلها من جهة ثانية. لذلك فإن الحقل الذي استُنبتت فيه هذه القيمة الجديدة في هذا الطور من الخطاب القرآني ينبغي أن يُسعى إليه في الآيات المتحدثة عن «آدم» وعن مواجهة بنيه. ضمن هذه الدوائر المكية للخطاب القرآني وُضِع أساس للمساواة من خلال الأصل الجامع في بعده الانطولوجي المتعلق بطبيعة تحقق المعقول في وجود الإنسان في اعتباره فاعل ذاته.
يبقى – نتيجة لما ذكرته – الجانب المنهجي المتصل بالتمشي الذي ينبغي أن يعتمد في معالجة هذه القضية وغيرها لتحديد طبيعة الخطاب القرآني. نكتفي بالقول إنَّ المنهج التزامني Synchronique مهمّ لأنه يولي أهمية كبرى للشروط الثقافية والفكرية الخاصة بتلك اللغة في فترة زمنية محددة. إنه يتيح بمعالجة متعيّنة تاريخياً التوصّل إلى ضبط أوّلي للمفهوم الذي يراد تحديده. لكن المنهج التعاقبيDiachronique قادر أن يكشف من خلال التفاته لتطور مفهوم ما وتواصل دلالته أو تغيرها عبر فترات مختلفة إلى نتائج في غاية الأهمية.
فيمكن أن نقول في كلمة بأنَّ الغلو والتكفير ظواهر تاريخية قابلة للتجدّد لكنها محكومة برؤية يظنُّ البعض أنها من جوهر الدين في حين أنّ الإيمان هو طريق مميّز للقاء بالله، لكنّ العقائد والفهوم التي نؤسّس عليها إيماننا لا يمكن أنْ تستنفد غنى كلام الله وعلمه ورحمته. لذلك فإنّ ذلك الإيمان نفسه يفترض الإقرار بحق الاختلاف في الفهموالرؤيا والتأويل.
المصدر:تواصل أون لاين