الخليج والقواعد العسكرية الغربية.. الأمن الوهمي

مهنا الحبيل

مدير مكتب دراسة الشرق الأوسط  بإسطنبول

في عام 1506م أرسل ملك البرتغال أول بعثة بحرية استعمارية للخليج العربي، وهذا الأسطول كان أولى طلائع الوجود الغربي بإقليم الخليج العربي، وقد كانت البواعث اقتصادية وعقائدية ضمن حروب الرب الكنسية التي كانت معبَّأة لها أوروبا بثقافتها في ذلك الزمن، مع روح كراهية للجنس المسلم والعربي، تتدفق مشاعرها عبر أصوات الرهبان وممثلي الملكية في البرتغال.

ولذلك كانت هذه الحروب تُغطَّى بخطاب ديني، وقادها ممثلُ ملكِ البرتغال القائدُ العسكري ألفونسو دي ألبوكيرك 1507م على ساحل الخليج العربي، وهو أحد أبرز مجرمي الحرب في التاريخ الإنساني الحديث، وحربه هذه غير معتنى بها في السجل الإنساني لليونسكو ومعاهد العلم الحديث، رغم توثيقها التاريخي المشترك بين العرب والغرب.

وقد شهد هذا الغزو البرتغالي مجازر عديدة شملت إحراق الناس بأطفالهم ونسائهم، في مدن الساحل في مسقط ومملكة هرمز العربية، التي ورثتها فارس بعد ذلك وضمتها إلى سُلطتها.

غير أن الهدف الاقتصادي الجيوسياسي لغزو الخليج العربي -وخاصة في رحلة التجارة العالمية- كان مشروعاً مهماً للشبونة، ولكل من خلَفَها في الغزو أو الاستعمار، هولندا وفرنسا ثم إنجلترا وأخيرا النفوذ الأميركي.

وقد كانت مشكلة الخليج العربي هي الصراع الداخلي ومصالح شخصيات الحكم، وتفرق قوته في عدة إمارات وسلطنات، رغم المقاومة الباسلة التي بذلتها المقاومة العربية بأيدي أئمة عُمان وفي خورفكان، ومن أهمها ما  واجهه الزحف الغربي من بأس على أيدي الجبريين (الدولة الجبرية) لخصوصية تنظيم قوتهم في عهد أجود بن زامل.

لكن ضعف الدولة -الذي خلَف شخصية أجود- تزامن مع معركة العقير الكبرى بين جيش الأحساء الإسلامي والأسطول البرتغالي، والذي جُرح فيه السلطان الشهيد مقرن بن زامل، ثم احتز البرتغاليون رأسه الذي سُكّ رسمه في العملة البرتغالية في ذلك العهد، وصورة رأس مقرن مثبتة في المصادر البرتغالية اليوم.

غير أن ميناء العقير -الذي يبعد عن عمق الدولة الجبرية في الأحساء قرابة 50 كم في الصحراء- منع التوسع البرتغالي، خشية من أن تقدمهم في أراضي الجبور سيُعرضهم لاستنزاف واسع، بعد المقاومة التي واجهوها في معركة العقير.

واستمر الكر والفر بين البرتغاليين المستعمِرين والمقاومة العربية في عُمان ومقاومتها الشرسة بقيادة الأئمة، وتراوح بين احتلال كامل وانسحاب، ولم تكن قدرات الأئمة المحدودة تستطيع صناعة ترسانة عسكرية ثابتة.

هذا إضافة إلى الخلافات العُمانية الداخلية، فانهارت المقاومة أمام الزحف الغربي، وكل القوى التي خلفت البرتغاليين سعت لتثبيت نفوذها، وحصل ذلك في العهد الإنجليزي الذي رسّخ وجودا عسكريا في نهاية مغيب الشمس عن بريطانيا العظمى.

ووقّعت كل أُسر الحكم في الخليج العربي اتفاقيات نفوذ أو انتداب، خلال دورات زمنية كانت فيها الدولة العثمانية تتراجع وتتناقص أرضها، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وصراعاتها مع أوروبا، وأزمات الفوضى السياسية التي عاشتها لأسباب عديدة، وانتهت بإعلان إسقاطها رسميا في 19244، والذي تم فعليا بعد عزل السلطان عبد الحميد 1909.

اقرأ أيضا  الأمم المتحدة: وضع القدس تقرره مفاوضات الحل النهائي

كان الانتداب الإنجليزي في الخليج اتفاقيات هيمنة سياسية وأمنية واقتصادية، في حين ظل الوجود العسكري محدودا كقوة حربية مجهزة، لعدم الحاجة إليه بسبب سيطرة التاج البريطاني على كل الإقليم وآسيا الهندية عبر شركة الهند الشرقية، ومع تعزز العهد الأميركي انتقلت كل دول الخليج العربي إلى نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، باستثناء عُمان التي بقي تواصلها مع إنجلترا أوثق.

وحتى عام 1990 كانت القواعد العسكرية الأميركية محدودة، لكن بعد ذلك توسعت كثيراً ولعبت دوراً مركزيا في حروب المنطقة، واستُثمرت لتحقيق إستراتيجية واشنطن، وخاصة في حرب احتلال العراق.

وكان المقابل الذي ترجوه الدول الخليجية هو حمايتها مما وقع في 2 أغسطس/آب 1990 عبر غزو الكويت، أو بانفجارات أمنية كبرى يتبناها تنظيم القاعدة، بمعنى أن كلا المنحيين (الغزو العسكري من داخل المنطقة أو حروب تنظيم القاعدة الكبرى) اللذين يترتب عليهما انهيار النظام الأمني المحلي، إضافة للحسابات السياسية الداخلية للدول؛ ساهما في تعزيز الهيمنة الغربية.

ولو لاحظنا، فإن حرب الخليج الثالثة -أي ما بعد الحرب العراقية الإيرانية، وما بعد حرب 1990 لإخراج العراق من الكويت- لم يكن لها أي مبرر قومي ذاتي لدول الخليج العربي؛ فالعراق كان خارج التأثير بعد هزيمته في 1991، وإفناء قدرات جيشه العربي بقصف الأفواج المنسحبة على طريق الكويت/العراق الدولي، والذي نفذته واشنطن بعد اتفاق سياسي على الانسحاب مع الجانب العراقي في فبراير/شباط 1991.

بل العكس هو الذي حصل في موازين القوى، أي أن الخليج العربي تضرر كثيراً من الحرب التي شنتها واشنطن لاحتلال العراق، ولا تزال تأثيراتها الكارثية قائمة، بمعنى أن التفعيل المركزي لهذه القواعد الغربية كان ضد مصالح الأمن القُطري والجماعي لدول الخليج العربي.

وخلال الأزمة الخليجية القائمة -والتي أعلِنت فيها حربٌ سياسية على قطر في 55 يونيو/حزيران الماضي- تبيّن أن  هناك مؤشرا خطيرا للدور السلبي لهذه القواعد، وأنها تخدع البلد المضيف ولا تضمن أبداً حماية للدولة القُطرية التي تستضيفها.

ولكن قبل ذلك نذكّر بأحداث الانتفاضة الطائفية في البحرين بغض النظر عن المسؤولية السياسية لغياب الإصلاح بعد إنهاء الانتفاضة أو قبلها، من خلال موقف لندن وواشنطن الذي كان يتوجه عمليا للتعامل مع تغيير درامي في البحرين، يُحجّم أو يزيل حكم أسرة آل خليفة تدريجيا، مقابل نفوذ توسيع إيران.

في حينها كانت هناك قوة أمنية بريطانية استخبارية، وهناك قاعدة الأسطول الأميركي القائمة في البحرين (ولا تزال إلى اليوم)، ورغم أن الزحف الشعبي الطائفي كان يتوجه لقصور الحكم مباشرة التي كان من الممكن في أي لحظة أن يتم اقتحامها، فإنه لم يكن هناك أي تدخل غربي مباشر لصالح القصر.

اقرأ أيضا  دور قطر الذي لم يعد من الممكن تجاوزه

وتغيرت المعادلة عبر الإسناد الشعبي من “حركة الفاتح” الوطنية الذي واجه الانتفاضة الطائفية، وطالب بالإصلاح المركزي في ذات الوقت، وهو المؤتمر الشعبي السُّني القوي الذي فككته السلطات البحرينية فيما بعد. أما العنصر الثاني في منع إسقاط الانتفاضة للقصر، فقد كان حسم قوات درع الجزيرة الذي لم ينتظر إذن واشنطن، وهذه حقيقة بغض  النظر عن تقييم العملية سياسيا وحقوقيا.

كما أن العلاقات العسكرية والأمنية بين السعوديةوأميركا -والتي تصاعدت منذ غزو الكويت- لم تحقق معادلة أمنية في مواجهة حرب تنظيم القاعدة الشاملة، وإنما خسر التنظيم حربه على الدولة عبر مواجهة ذاتية سعودية في المسار العسكري والأمني. فواشنطن في الحقيقة لم تضمن الأمن لأي من دول المجلس، وإنما اعتمدت الدول على القوة المعنوية والسياسية التي يُشكلها هذا الحضور الغربي، مقابل مليارات الدولات لصالح دوله، والذي سقط في اختبار أزمة الخليج العربي مرةً أخرى.

وفي حالة الأزمة الخليجية، لم يُمثل وجود قاعدة العديد العسكرية في قطر أي مانع تنفيذي مطلقاً لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إعطاء الإذن لدول المحور للقيام بعمل عسكري ضد قطر، ولم تساهم القاعدة -على الأقل في أول منعطف خطة الغزو العسكري للدوحة- في منع هذا الاجتياح.

بمعنى أن القاعدة الأميركية ضُمنت لها مصالحها، وأن يتم الاعتراف بوضعها بعد إسقاط الحكم المرتضى شعبيا في قطر، فيُعاد الاتفاق معها بصورة تُعزّز مصالح واشنطن أكثر مما مضى.

ولسنا هنا نقلل من الأثر الذي تلعبه القواعد العسكرية في تأمين الدول، لكن ذلك لا يعني ضمانات سلّم شامل، كما أنه يحتاج إلى توازن ذاتي في القوة القومية للدولة، فضلاً عن الثقة السياسية التي فُقدت في واشنطن بسبب أزمة الخليج العربي، عبر تجربة قطر.

وخلافُ المؤسسات الأميركية أي البنتاغون والخارجية مع الرئيس ترمب لم يكن ليمنع هذا الاجتياح مطلقا في بدئه، وإنما الذي حصل هو دخول طرف آخر لديه استعداد لتغطية عسكرية في زمن حساس وبتحرك سريع، لم تُقدم عليه باريس ولا لندن رغم وجود مصالح لهما ومعارضتهما لموقف ترمب.

وهكذا جاء القرار التركي الذي أصدره الرئيس رجب طيب أردوغان بنشر قوات الجيش التركي في قطر لمواجهة أي احتمال تصعيد كارثي، أثبت صحة المخاوف منه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بتصريحه الشهير في المؤتمر  الصحفي مع الرئيس الأميركي بواشنطن.

والقضية هنا ليست مرتبطة فقط بشخصية الدولة التركية، وإن كانت العلاقات الشخصية بين أمير قطر والرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم؛ لعبت دوراً مهما. ولكن المقصد هو التوازن الثالث للأمن القومي أو القُطري، ونقصد هنا عملية التأمين المتعدد خارج قواعد الغرب العسكرية؛ فهل هناك من حل آخر غيرها؟

اقرأ أيضا  هل تنجح مساعي الصلح بين الخليج وإيران؟

هنا يجب أن نلحظ أن حالة الانقسام والتشظي، ثم قرارات المصالح الأميركية أو الإسرائيلية في الخليج؛ باتت تخلق ميادين فوضى واسعة، لا يُمكن أن تُبنى عبرها نظريات أمن جماعي، فهي حالة مأزق وليست أرضية صلبة.

لكن ما يُمكن طرحه هو تحقيق مستوى من التوازن الأمني والعسكري، لا يترتب عليه تعريض الدولة لخطر وجودي، ولا استخدام مساحتها لمصالح الغرب المضرة بالمنطقة، والذي يرتد على كل الدول بعد ذلك بما فيها المحتضنة للقواعد الأميركية.

إن الممكن تحقيقه هنا هو سلة اتفاقيات ووجود عسكري يعتمد على دول الشرق، مع بقاء اتفاقات عسكرية لوجستية مع الطرف الغربي، هذه التجربة كانت موجودة في الخليج العربي مع باكستان، واليوم تركيا وماليزيا يمثلان نفس الخط.

فالتجربة تقول إن قواعد واشنطن ليست أكثر أمناً من هذه القواعد الشرقية، التي يجب التعامل معها بمعادلة مصالح حتى ولو كانت بين دول إسلامية، كما أن إعادة تأهيل القوات الوطنية تشكّل بحد ذاتها قدرة لأي بلد لتأمين المتطلب الآني لدفع أحداث التدخل العسكري المفاجئ.

إننا اليوم أمام حصيلة الحرب المدمرة التي شنتها واشنطن على المنطقة، ونحن أمام إحصاء دقيق يُبين أثر هذه الحروب وما تبعها من انهيار للأمن السياسي والاجتماعي، وانتشار للتطرف والتطرف المضاد، وخاصة بعد الحرب الأمنية والعسكرية على الربيع العربي، التي اتضح أن أكبر كاسبين إقليميين فيها هما طهران وتل أبيب، رغم أن النظام الرسمي في الخليج هو الذي سدد فواتيرها.

وأزمة الثقة -التي فجّرتها أزمة الخليج العربي- لا تدع مجالا لطرح منظومة أمن قومي اليوم، بعد أن أصبحت خزانة واشنطن وأوروبا تُمطَر بالملفات الأمنية السرية التي تحرّض على قطر أو التي تدافع عنها.

كما تمتلئ صناديقهم بأموال التحريض المتصدَّق بها على مراكز الغرب الإستراتيجية، وإنما اليوم نحن أمام لحظة تاريخية توجب وقف هذه الأزمة فوراً، ثم وعي دروسها وكيف أن الغرب لا يزال لاعباً أصيلا في محور الفوضى الخلّاقة لا الشمس المطمئنة.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.