الرضا بالقدر أجمل اختيار في الحياة
الجمعة 11 صفر 1438 الموافق 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
الرضا بالقدر
أجمل اختيار في الحياة
الرضا مَقامٌ عظيم من مقامات الإيمانِ واليقين، والتخلُّقُ به لا يتأتى إلا بعد طولِ عبادة وذِكر، وفهمٍ ومعرفة وفكر.
وبالحصول عليه، والتمكنِ منه يتخطى المؤمنُ في إيمانه بالأقدار أعظَمَ اختبار في الحياة، وتصبح الآلام والشدائد عنده لذائذَ؛ لأنَّه يتعامل مع الأقدار الإلهية بلُغةِ الحب والرضا، لا بلُغةِ الاختبار والتحدي.
وليعلمْ يقينًا بأن الله سبحانه ما ابتلاه إلا ليرقيَه في مدارج الكمال؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216].
نعم، أجملُ ما في الإيمان بالأقدار، المقترنِ بالرضا: أنه يخلِّص الإنسانَ من رتابة الحياة، ويُنجيه من الملل.
وقد جاء في هذا الموضوع عدةُ نصوص، أُجملها في الآتي:
1- قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “هي المصيبات تصيبُ المرءَ فيَعلمُ أنها من عند الله فيسلِّم ويرضى”[1].
2- وعن أنس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[2].
فمن رضي بما قضاه الله وقدَّره عليه من الابتلاء؛ فله الرضا من الله جزاءً وِفاقًا، كما قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8].
ومن سَخِطَ أقدارَ الله، فله السخط من الله، وكفى بذلك عقوبة؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28].
وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر، وقد يُستدل به على إيجاب الرضا، كما هو اختيار ابنِ عقيل الحنبليِّ، وذهب بعض العلماء إلى أنه مستحَب، ويبدو لي: أن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة السخط على الأقدار بقولٍ أو فعل، فهنا يكون الرضا في حقه واجبًا.
3- وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك الرضا بعد القضاء))[3].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا أن نقول حين نصبح، وحين نمسي ثلاثًا: ((رضيتُ باللَّهِ رَبًّا، وبالإِسْلام دينًا، وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا)).
ويقول: ((كان حَقًّا على الله أن يرضيه يوم القيامة))[4].
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ إني أسألك نفسًا مطمئنةً تؤمِن بلقائك، وترضى بقضائك، وتَقنَع بعطائك))[5].
4- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَارْضَ بِما قَسَمَ الله لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى الناسِ))[6].
لقد أصبح الرضا في هذا العصرِ ضرورةً، وأشعُرُ أن القناعة والرضا لما غابت من قلوبنا فقَدْنا الراحةَ والاطمئنان في حياتنا المعاصرة.
5- وجاء عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان كلَّمَا أفاق من سكرات الموت يقول: “اخنُقْني خنقك، فوعزَّتِكَ إنك تعلم أني أحبُّك”.
6- وقال ابن مسعود: “إن الله بقسطه وعلمه جعَل الروحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخط”.
7- وقال ابن عون: “ارضِ بقضاء الله من عسرٍ ويسر؛ فإن ذلك أقلُّ لهمِّك، وأبلَغُ فيما تطلُبُ من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقةَ الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرِضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك، ثم تسخط إن رأيتَ قضاه مخالفًا لهواك؟! ولعل ما هويت من ذلك لو وفِّق لك، لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؛ وذلك لقلة علمِك بالغيب، إذا كنت كذلك، ما أنصفتَ من نفسك، ولا أصبت باب الرضا”[7].
8- وقال غيلان بن جريرٍ: “من أُعطِيَ الرِّضَا، والتوكل، والتفويض، فقد كُفِيَ”[8].
9- وجاء عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه كان يقول: “أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر؛ إن تكن السراءُ فعندي الشكر، وإن تكن الضراءُ فعندي الصبر”.
10- وقال ابن عطاء الله: “يخفِّف ألمَ البلاء عنك علمُك بأنه سبحانه وتعالى هو المبلي لك، فالذي واجهتْك منه الأقدار، هو الذي عوَّدك حسنَ الاختيار”.
11- وقال عبدالواحد بن زيد: “ما أحسب أن شيئًا من الأعمال يتقدَّم الصبرَ إلا الرضا، ولا أعلم درجةً أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة”.
12- ومن علامات الرضا: الابتعاد عن الألفاظ التي تتضمَّن التسخط على الأقدار، والإكثارُ من قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156].
وهي كلمة عظيمة تعني: العبودية المطلقة لله، والتفويضَ الكامل له سبحانه.
تعني: التسلية عن المصائب لا التحسُّر، وإذا قالها المصاب كانت له حصنًا من الوقوع في عدم الرضا، ومنجاة من الاعتراض على القدَر.
إنها تخاطبه: أنْ لا تحزن؛ فأنت مِلكٌ لله سبحانه، ولا تخَفْ؛ فأنت قادم على الله سبحانه.
وحسْبُنا قولُه تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
13- وصدق من قال:
كنْ عن همومك معرِضا
وكِلِ الأمورَ إلى القَضَا أبشِرْ بخيرٍ عاجل تَنسى به ما قد مضَى فلرُبَّ أمرٍ مسخطٍ لك في عواقبِه رضا ولربَّما اتَّسَعَ المضي قُ وربما ضاق الفضا اللهُ يفعل ما يشا ء فلا تكنْ متعرِّضًا اللهُ عوَّدك الجمي لَ فقِسْ على ما قد مضى[9] |
14- وقد عبَّر عن هذه الحقيقة أجملَ تعبيرٍ أحدُ الشعراء عندما قال:
تَلَذُّ ليَ الآلام إذ أنت مُسقمي
وإن تمتحِنِّي فهْي عندي صنائعُ تحَكَّمْ بما تهواه فيَّ فإنَّني فقيرٌ لسلطان المحبة طائعُ |
15- وللشاعر محمد مصطفى حَمَام قصيدةٌ جميلة حول هذه المعاني، وهي:
علَّمتني الحياةُ أن أتلقَّى
كلَّ ألوانها رضًا وقَبولَا ورأيتُ الرِّضا يخفِّف أثقا لي ويُلقي على المآسي سُدولَا والذي أُلهمَ الرِّضا لا تراهُ أبدَ الدهر حاسدًا أو عَذولَا أنا راضٍ بكلِّ ما كتب الل هُ ومُزْجٍ إليه حَمْدًا جَزيلَا أنا راضٍ بكلِّ صِنفٍ من النا سِ لئيمًا ألفيتُه أو نبيلَا لستُ أخشى من اللئيم أذاه لا، ولن أسألَ النبيلَ فَتِيلَا فسَحَ الله في فؤادي فلا أرْ ضى من الحبِّ والودادِ بديلَا في فؤادي لكلِّ ضيفٍ مكانٌ فكُنِ الضيفَ مؤنسًا أو ثقيلَا ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوانٍ أو يراه على النِّفاق دليلَا فالرضا نعمةٌ من الله لم يَس عدْ بها في العباد إلا القليلا والرضا آيةُ البراءة والإي مانِ بالله ناصرًا ووكيلَا علَّمتني الحياةُ أنَّ لها طَعْ مَينِ: مُرًّا، وسائغًا معسولَا فتعوَّدتُ حالَتَيْها قريرًا وألِفتُ التغيير والتبديلَا أيُّها الناسُ كلُّنا شاربُ الكأ سَينِ إنْ علقمًا وإنْ سلسبيلَا |
16- من أسباب الرضا أن تعلم يقينًا بأنَّ منْعَه تعالى هو عينُ العطاء، وصدَق من قال:
“إنَّ منْعَ الله عبدَه من بعض محبوباته هو عطاءٌ منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلًا؛ وإنما منعه لطفًا”.
ومن قال: “من رضي بقضاء الله تعالى، أرضاه الله بجميل قدره”.
17- وقال الحليمي رحمه الله:
“من أحَبَّ الله تعالى لم يعُدَّ المصائب التي يقضيها عليه إساءة منه إليه، ولم يستثقل وظائفَ عبادته وتكاليفه المكتوبة عليه، كما أن من أحب أحدًا من جنسه لم يكد يبصر منه إلا ما يستحسنه ويزيده إعجابًا به، ولا يصدِّق مِن خبر المخبِرين عنه إلا ما يتخذه سببًا للولوع به والغلو في محبته”[10].
18- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي:
إذا اشتدَّت البلوى تُخفف بالرضا
عن الله قد فاز الرَّضيُّ المراقبُ[11] وكم نعمةٍ مقرونة ببلية على الناس تَخفى والبلايا مواهبُ |
20- من الكتب المهمة في هذا الباب:
جنة الرضا في التسليم لما قدَّر الله وقضى؛ للغرناطي، وهو مطبوع بتحقيق د. صلاح جرار.
[1] الدر المنثور؛ للسيوطي 8 /184.
[2] رواه الترمذي (2396)، وقال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه”.
[3] جزء من حديث رواه النسائي بسند صحيح.
[4] أخرجه أبو داود (5074)، والحاكم في المستدرك (1905) وصححه.
[5] رواه الطبراني والضياء في المختارة عن أبي أمامة.
[6] رواه الترمذي (2342).
[7] رواه ابن أبي الدنيا في “الرضا عن الله بقضائه” (رقم69).
[8] رواه ابن أبي الدنيا في “الرضا عن الله بقضائه” (رقم101).
[9] للشاعر صفي الدين الحلي.
[10] شعب الإيمان؛ للبيهقي (1 /368).
[11] برد الأكباد عند فقد الأولاد، ص37.
المصدر: الألوكة