الروهينغا بين مظالم الداخل ومصالح القوى الإقليمية

محمد مكرم بلعاوي

رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط

في ميانمار تسود رواية موحدة مفادها أنه لا وجود لأقلية ميانمارية باسم “الروهينغا”، وأنّ مسلمي إقليم “أراكان” (أو “راخين” حسب التسمية الرسمية) هم في الحقيقة دخلاء على ميانمار جاؤوا من بنغلاديش المجاورة مع الاستعمار البريطاني، وأنّ الوقت حان كي يتركوا البلاد بعد أن ملؤوها عنفاً ودماءً.

وفي ظل سيطرة الجيش على البلاد؛ من المفهوم رغبته في إبقاء حالة التوتر قائمة ليبرر نفوذه الكبير وحاجته إلى المزيد من الدعم والتمويل، وهو ما يعني مزيدا من السيطرة الأمنية والعسكرية على البلاد بأسرها وليس في أراكان وحده.

العسكر ومظلمة الروهينغا
ولذا كان من المهم للعسكر اللعبُ على التناقضات ونشر الكراهية، وإيقاظ غريزة الخوف من انتشار الإسلام وانحسار البوذية، مدعين أن الروهينغا هم طليعة المسلمين التي تريد تحويل هوية البلاد وأسلمة أهلها، رغم أنّ نسبة هذه الأقلية -وفقاً لما تزعمه الحكومة- لا تتعدى 4% من السكان.

ولعل أهم ما يروّجه هذا الخطاب هو رغبة مسلمي أراكان في إحداث تطهير عرقي في الإقليم، حتى يخلو لهم ويتمكنوا من الانفصال عن ميانمار للالتحاق ببنغلاديش أو تكوين دولة خاصة بهم، مع أنّهم -حسب رواية النظام- أقليّة غير أصلية وغريبة على الولاية، وذلك رغم توافر أدلة على وجودهم في منطقتهم منذ القرن التاسع الميلادي، وبذلك ينفي النظام أي حق لهم في تقرير المصيرحسب المواثيق الدوليّة.

إن أهم ما يميز إقليم أراكان هو نقص التنمية وضعف الخدمات، وهو جو مواتٍ جداً لنشر التطرف العرقيوالديني لصرف الانتباه عن عدم تطوير السلطات لهذه المنطقة والارتقاء بحياة سكانها من عرقيتيْ “الراخين” -الذين يدينون بالبوذية وهم الأغلبية- والروهينغا المسلمين.

ويتم تحريض الأغلبية الراخينية على الروهينغا رغم تشاركهم معهم في التهميش والإقصاء وضعف الخدمات؛ فلا الحكومة تعترف بهم كمواطنين أصليين ولا حتى بشركائهم من الراخين الذين يطلقون عليهم اسم “البنغال”، وهي التسمية التي يرفضها الروهينغا بشدة لأنها تحرمهم من حقهم الطبيعي في المواطنة.

ومن خلال سياسة رسميّة ممنهجة تمّ حرمان الروهينغا من الأوراق الرسمية التي يمكن أن تثبت أنّهم مواطنون في ميانمار، فقد أدت سياسة التحقق من أصلية السكان إلى حرمان الروهينغا عموماً من حقوقهم الوطنية، وتحويلهم إلى كائنات فاقدة للهوية أمامها ثلاثة خيارات كلها مرة:

اقرأ أيضا  تحذير أممي من استمرار النزاع والاحتلال بين الإسرائيليين الفلسطينيين

فإمّا البقاء في مخيمات الاعتقال الجماعي أو الموت، أو التهجير خارج وطنهم، أو اللجوء إلى العمل المسلح وهو ما سيمثل بدوره سانحة للجيش لاستخدام قوة غير متناسبة على الإطلاق ضدهم، ومدعاة لفرض مزيد من السيطرة ليس على المنطقة وحدها بل على ميانمار بأسرها.

ديمقراطية هضم الحقوق
حرص الغرب على انتشار الديمقراطية -المستلهمة من النموذج الغربي- في سائر أنحاء آسيا، ومارس ضغوطاً استمرت سنوات عديدة على النظام العسكري الذي حكم ميانمار حكماً مباشراً خلال 1962-2011، وأدى في النهاية إلى عقد انتخابات عام 2015 فازت فيها المعارضة ممثلة في حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية الذي تقوده أونغ سان سو تشي، وعُيّن هتن كايو كأول رئيس انتُخب ديمقراطياً.

ورغم ذلك فإن الغرب لم يكن معنيّاً حينها بالقيم والحقوق المدنية للسكان في ميانمار، بل بالمصالح التجارية والاستثمارات الضخمة التي تعده بها ميانمار إذا صارت دولة أكثر انفتاحاً، وهو ما بدأ يتراجع تدريجيّاً ليحل مكانه خطاب أخلاقي مع دخول الصين على الخط وتمددها بشكل كبير في البلاد.

صحيح أن الديمقراطية قد جاءت بسو تشي إلى سدة الحكم رغم الموانع الدستورية، لكن الدولة العميقة -التي بناها النظام العسكري على مدى عقود طويلة تحت حكم الحزب الواحد والانتخابات الشكلية- ما زالت هي التي تحكم فعليّاً، وما زالت تسيطر على الصحافة والإعلام ومنابر التوجيه.

وهو وضع يذكر القارئ العربي بالفترة التي حكم فيها الرئيس محمد مرسي مصر، مما يعني أنّ على سو تشي وحزبها أن تعمل لمدة طويلة جداً كي تتخلص من النفوذ الذي اخترق كل مفاصل الدولة، هذا إن صدقت نواياهم.

ولعل مقابلتها مع الصحفية مشعل حسين على قناة “بي بي سي” في أكتوبر/تشرين الأول 2013، وتعليقها العنصري ضد المسلمين بُعيد انتهائها بقولها: “لم يقل لي أحد إن مسلمة ستجري مقابلة معي” (وقد تفوهت به دون ملاحظتها أن الكاميرا ما زالت تعمل)؛ تشكك في حياديتها ورغبتها المعلنة العملَ على بناء دولة ديمقراطية متعددة الأعراق.

إذ أصرت سو تشي -طوال المقابلة- على تجاهل وجود الروهينغا فضلاً عن التفكير في حل لمشكلتهم، وهو ما يتماهى مع الموقف الرسمي التقليدي الذي تتبناه المؤسسة العسكرية وأصبح هو الرأي السائد -فيما يبدو- داخل البلاد، باستثناء أصوات قليلة كشبكة ميانمار لحقوق الإنسان (BHRN).

اقرأ أيضا  تعدد الزوجات

فقد كشفت هذه الشبكة فصولاً مرعبة مما يتعرض له مسلمو ميانمار في تقريرها الصادر هذه السنة تحت عنوان “اضطهاد المسلمين في ميانمار”، ومن ذلك الحرمان من الهوية الوطنية، ومنع فتح المساجد المغلقة وإعادة بناء المهدم منها، والتهجير القسري من القرى وتحويلها إلى قرى خالية من المسلمين.

منذ الاستقلال وميانمار تعيش حالة من عدم الاستقرار الداخلي بسبب الخلافات العرقية، وفيها مجموعة من العرقيات الكبيرة على رأسها “الميانمارن”، ومجموعات صغيرة من الأعراق تهيمن على ما يتجاوز مائة عرقية أخرى، مما أدخل البلاد في حالة اضطراب مستمر قاد إلى الحكم العسكري الذي زاد الأمر سوءاً.

وقد انفجر الوضع عام 1988 بثورة الطلاب التي راح ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف قتيل، وفيها نالت سو تشي شهرتها بحكم أنها ابنة زعيم البلاد السابق وكانت تتزعم المعارضة حينها، ففُرضت عليها الإقامة الجبرية عقودا حتى خضع الجيش أخيراً لضغوط بإجراء انتخابات ديمقراطية أتت بها بنتيجة كاسحة إلى سدة الحكم.

ومما منحها هذا الفوز الساحق أن فئات واسعة من الشعب علقت عليها آمالاً كبيرة في تغيير واقعها المرير ومنهم المسلمون، غير أنّهم تلقوا خيبة أمل كبيرة عقب انتخابها بتخليها المباشر عن قضيتهم وخصوصاً موضوع الروهينغا.

الروهينغا والمصالح الصينية
إذا نظرنا إلى خريطة الصين وموقعها في آسيا فإننا يمكننا فهم الموقف الصيني الذي دعم تقليديّاً نظام بول بوت في كمبوديا، ونظام كيم جيم إيل في كوريا الشمالية، والنظام العسكري في ميانمار التي تعد الفناء الخلفي للصين وتبنت ذات يوم أيديولوجية يسارية.

فقبل أيام قليلة زار المبعوث الخاص للحكومة الصينية صن غوزيانغ العاصمة البورمية حيث التقى نائب الرئيس، وعبّر عن تضامنه مع حكومة ميانمار ضد “الهجمات الإرهابية” التي قام بها الجيش الروهينغي لتحرير أراكان (ARSA) واستهدفت جنوداً ميانماريين، متجاهلاً مئات الآلاف من المسلمين الذين لجؤوا إلى الحدود البنغلاديشية وسط ظروف بالغة السوء، ومعزِّزاً تصريحاً أطلقه قبل ذلك في شهر أغسطس/آب الماضي الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، بتفهم حق الحكومة البورمية في حفظ الأمان والاستقرار بإقليم أراكان.

اقرأ أيضا  مستوطنون يقتحمون الأقصى بحماية قوات الاحتلال

لم يأت الموقف الصيني لاعتبارات أيديولوجية وتاريخية فحسب، بل لأن الصين تراهن على استقرار ميانمار وخصوصاً إقليم أراكان الذي يعدّ المدخل الرئيسي على خليج البنغال، وتبني فيه بكين استثمارات بمليارات الدولارات عبر مشروع أطلقت عليه اسم “حزام واحد طريق واحد” (OBOR).

ويخترق جزء من هذا المشروع الحدود الصينية البورمية في الشمال الشرقي لينتهي على شاطئ خليج البنغال، مختصراً طريق التجارة والطاقة الذي يسلك عادة ممر مالقا بين ماليزيا وإندونيسيا إلى أن يصل بحر الصين الجنوبي.

وهناك منطقة اقتصادية في جزيرة رامري وميناء كاياكفيو العميق الذي jصل إليه خطوط الطاقة الصينية، مما دفع الحكومة الميانمارية أن تنطلق من هذه النقطة لتناشد الصين الوقوف معها كي تحل مشكلة أراكان وفقاً للأعراف الدوليّة، وهو ما يعني حقيقة أن توفر لها حمايّة في المؤسسات الدوليّة وعلى رأسها مجلس الأمن، كما صرح بذلك الناطق باسم الرئاسة الميانمارية.

ويمكن القول إن الرغبة التي تبديها حكومات إسلامية بتغيير وضع المسلمين في ميانمار يصعب أن تتحقق بمجرد الضغطعلى الحكومة الجديدة أو النخبة العسكرية الحاكمة الفعلية للبلاد، بل يجب العمل عن قرب مع الصينيين المتضررين الحقيقيين من عدم الاستقرار في المنطقة، والذين يتوجسون من أي تغيير سياسي أو عسكري يمكن أن تتضرر منه مشاريعهم، ويعزون حدوثه دائماً لصراعهم مع الولايات المتحدة الأميركية.

ويعزز ذلك أن الصينيين كثيراً ما يبدون براغماتية عالية عندما يتعلق الأمر بمصالحهم، وإقناعهم بأن المدخل الصحيح لحالة الاستقرار في المنطقة يكون باستيعاب المسلمين كقوة إيجابية بنّاءة في ميانمار، ومنحهم حقوقهم الوطنية ورفع مستوى البلاد الاقتصادي بنشر وترسيخ التنمية، حتى يأمن أهلها على مستقبلها وتنحسر الفتن العرقية.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.