السيناريو التونسي.. تمييع الثورة وتطويع النهضة وتثبيت الوصاية
سهيل الغنوسي
أكاديمي تونسي
لا شك أن تبخر أهداف الثورة التونسية الواعدة وأحلام الشعب أمر جلل، ولكن ما يغيظ أكثر هو الأداء الهزيل والطريقة المحيرة التي ضاعت بها الفرصة التاريخية النادرة، بعد توجيه ضربة موجعة لمنظومة الوصاية والفساد والتحكم، عادت بعدها بقوة بسبب التخبط والتنازع والتخاذل والانتهازية والسذاجة السياسية والتذاكي والمكابرة. فالهزيمة تهون إذا لعب الفريق بروح قتالية ولم يتخاذل.
كلنا نعلم كيف أطيح بالثورات الأخرى بالطرق الخشنة السافرة. اختلف الأمر بالنسبة لثورة تونس التي أجهضت بطريقة ناعمة وبهدوء، وسوق لها كقصة نجاح، وهي كذلك للذين لمعوها وقدموها نموذجا وسقفا للعرب حتى لا يحلموا بأكثر من الاستقرار الهش في ظل وصاية تحكمهم بواسطة دكتاتورية أو ديمقراطية شكلية.
في الحروب والصراعات والمؤامرات لإجهاض الثورات، تُعد سيناريوهات للتمويه والتضليل وتشتيت التركيزوالصفوف، ولفتح الطريق للسيناريو الفعلي المطلوب. وفي المفاوضات يرفع المفاوض السقف ليجعل الطرف المقابل يقبل وربما يقترح السيناريو المطلوب. كذلك التحكم في الشعوب يتم بالتضييق على الشعب وإشغاله عن حقوقه وتطلعاته، فلا يتمني ويطلب سوى الحد الأدنى من الأمن والمعيشة.
ومن أنجع الأساليب، تعطيل بوصلة الخصم وتشتيت تركيزه على هدفه، وذلك بواحدة من 4 طرق هي:
1- إشغاله وإنهاكه بمسائل جانبية ودوامات لا تنتهي.
2- استدراجه وحرف مساره، بحيث بمرور الوقت يصبح أكثر طواعية وأبعد من هدفه.
3- إقناعه بأن هدفه مستحيل، حتى يخفض سقف طموحاته.
4- تضخيم أي إنجاز بسيط يحققه حتى يغرق في النشوة، فينسى الأهداف الإستراتيجية والقضايا الكبرى.
ويحضرني مثال الطلبة أو العمال الذين يُضربون احتجاجا على أوضاع أو مطالبة بحقوق، فيُطرَد بعض زملائهم أو يعتقلوا، فيصبح مطلبهم عودة الزملاء، فإن عادوا عاد الجميع للدراسة أو العمل فرحين بالنصر.
كما تحضرني قصة الثعلب الذي سلب الغراب قطعة الجبن وهو على غصن شجرة عالية، باستدراجه بالإطراء ليغرد فسقطت قطعة الجبن.
شيء من كل ذلك حدث في تونس لإجهاض ثورة سلمت من كل المطبات التي أطاحت بمثيلاتها، وخلقت فرصة حقيقية للتحرر والنهوض والإقلاع، لم تتوفر لبلد عربي منذ عقود.
وقبل الدخول في حيثيات سقوط التجربة الواعدة، لا بد من توضيح مسألتين:
– أولا: التحليل لا يدعي أن كل ما حدث خطط له بالتفصيل. ليس ذلك واقعيا، وما هكذا تخطط الدول الكبرى لتضمن نفوذها ومصالحها، بل تضع القطار على السكة، وتحدد الوجهة، وترسم الخطوط الحمراء، ثم تترك هامشا للصراعات والتفاهمات المحلية، وحتى التدخلات الإقليمية كعوامل مساعدة لإنهاك وترويض الأطراف المتنازعة لتقبل بالإملاءات والسيناريو المعد سلفا.
ولا يهم الدول الكبرى سوى تحقيق أهدافها بأقل التكاليف، ولا تبالي بمن ينفذ ولا بكيفية التنفيذ. ثم إن الضحايا كثيرا ما يسهلون المهمة بوعي أو بدونه.
– ثانيا: كل الخطط والمؤامرات، ما كانت لتنجح لولا أن تونس دولة تابعة لا تملك قرارها، ولولا أن النخبة السياسية توافقت على التسليم بالوصاية، دون أي مقاومة، بل كانت متعاونة جدا.
سأحلل التجربة التونسية كمباراة بين فريق الثورة (نخبة وشعبا) وفريق الوصاية والفساد والتحكم، بجناحيه الخارجي والداخلي، والذي يخشى على نفوذه ومكاسبه غير المشروعة، ويخشى انتشار العدوى إذا نجحت الثورة.
فلماذا كان أداء فريق الثورة هزيلا وهزيمته ثقيلة، في مباراة كانت لديه فيها فرصة معقولة للفوز.
السبب أخطاء فادحة في تشخيص جذور الأزمة وتقدير حجم الفرصة، خصوصا بعد انتخابات التأسيسي، ونشوة قبل اكتمال النصر، وارتباك في لحظة الحزم، وغياب لرؤية وإستراتيجية وأهداف وضوابط واضحة ومعايير ثابتة لتقييم الأداء والنجاح (استعيض عنها بمقارنات مريحة معلولة بمن هو أفشل، وبمنطق “أين كنا وأين أصبحنا”)، وفوبيا تكرار محرقة التسعينات أو انقلاب مصر (في ظروف مختلفة تماما). النتيجة تيه وتخبط وضياع للبوصلة، ليصبح سقف التطلعات السلامة والمكاسب الحزبية والشخصية، والحد الأدنى من الاستقرار ولو في ظل الوصاية.
قبل الثورة، كان التشخيص السائد للأزمة يحصرها في الاستبداد، وعلاجها تغيير النظام أو إطلاق الحريات. ثم توسع التشخيص ليشمل الفساد المتفاقم. انعكس ذلك في شعارات الثورة، وتحقق الهدف بين يناير/كانون الثاني، وأكتوبر/تشرين الأول 2011، فكان الاسترخاء والنشوة خلال سنتي 2011 و2012 الحاسمتين، فضاعت فرصة الثورة الأكبر وتبدد زخمها.
أديرت البلاد في السنة الأولى كأن الذي حدث شغور في منصب الرئاسة وليست ثورة أسقطت نظاما، ثم أدارت الترويكا البلاد كأنها حكومة تصريف أعمال في دولة ديمقراطية مستقلة، وليست حكومة ثورة وتأسيس، فلا حزم ولا خطوات باتجاه العدالة الانتقالية والاجتماعية والشفافية ومحاربة الفساد، ولا إصلاحات معتبرة، ولا تحصين للثورة ولا للحكومة نفسها، التي حكمت على أعضائها بالفشل عندما سلمتهم وزارات بدون تطهير ولو محدود.
فالتقى ثقل التركة مع ارتعاش الأيدي مع الوعود الانتخابية الخيالية ليهزوا صورة الحكومة ويضعفوا مصداقيتها وحاضنتها الشعبية، فتجرأ عليها الخصوم والمعرقلون الذين بدأوا يأمنون المحاسبة، وخرجوا من مخابئهم، فكانت تلك حلقة مفرغة مدمرة، أضعفت كثيرا تماسك معسكر الثورة الذي بدد جهوده بين الاحتفالات والمعارك الجانبية، بما فتح المجال لقوى الوصاية للمسك بزمام الأمور ودفعها باتجاه السيناريو المطلوب، دون مقاومة كبيرة. وتوج كل ذلك بلقاءباريس الذي أسس للتوافق، الذي كان حجر الزاوية في السيناريو الذي أجهضت به الثورة، وهو سيناريو صنع في الخارج لتجويف الثورة وتطويع النهضة، فصادف حسابات ورغبات وحقق مكاسب حزبية وشخصية آنية، على عكس الدعاية التي تصوره إستراتيجية محلية لإنقاذ الثورة والبلاد.
فريق الثورة المضادة، وتحديدا جناحه الخارجي، يعلم جيدا -بتجاربه ومراكز دراساته- أن الإمكانية الوحيدة لانتصار فريق الثورة هي خوض المعركة كشعب معبئ حول قضية وطنية وملتحم بقيادة وطنية صادقة، وذلك يتطلب تشخيصا سليما لجذور الأزمة وطبيعة المعركة يفضي إلى خوضها كمعركة تحرر وطني بقيادة حركة تحرر وطني.
ذلك أن أس الداء الوصاية التي لا تختلف جوهريا عن الاحتلال. هي التي ترعى الاستبداد الذي يقترن بالفساد: منظومة ثلاثية مترابطة وفتاكة جثمت على الوطن والشعب لعقود، سبقتها عقود من الاستعمار المباشر، سبقتها قرون من الاستبداد، أثمرت انحطاطا وتخلفا ودمارا واسعا وتشوهات عميقة في العقول والنفوس والسلوك. ولا يمكن مواجهة تلك المنظومة الأخطبوطية وتلك المخلفات إلا كما يواجه الاحتلال، بمشروع وطني على رأس أولوياته مقاومة الوصاية.
وهنا لا بد من توضيح، بعد أن استعملت ثنائيات الأبيض والأسود لتبرير الفشل والانبطاح، ولحصر خيارات الشعوب وتجريعها خيارات سيئة، فإما تبييض الفساد أو الاجتثاث، إما انهزامية أو صدام.
أولوية مقاومة الوصاية باعتبارها أساس الداء -كشرط لنجاح الثورة وللنهوض- لا تعني التهور، بل تعني إذكاء الحس الوطني ونيل ثقة الشعب، ومصارحته بالتشخيص وبالدواء المر، واستنهاضه بترسيخ حلم التحرر والعدل والنهوض، واستنفاره للتضحية والبذل وخلق الثروة والتطوع، والتقليل من العجز والمديونية، وتأميم الثروات، ومحاربة الفساد والمحسوبية لضمان تكافئ الفرص والمنافسة الشريفة، ووقف نزيف الاقتصاد الموازي والتهرب الضريبي، وتشجيع الإنتاج والاستهلاك المحليين، وتنويع الشركاء التجاريين، وإطلاق مشاريع عملاقة كقاطرة للاقتصاد. وكل ذلك بالتخطيط وبالسياسات وبالتدرج وبالحكمة.
“أول ضربة موجعة لحظوظ الثورة في الانتصار، كانت استبعاد الوصاية تماما من الخطاب والبرامج، والتسليم بها، فضاع التشخيص وحسمت المعركة قبل أن تبدأ، وانحرف مسار الثورة، وتاه فريقها الذي هزم نفسه بنفسه”
قرأ الفريق الآخر المعركة جيدا، ودخلها بتشخيص دقيق يفضي إلى حتمية سد المنفذ الوحيد -وإجهاض السيناريو الوحيد- لنجاح الثورة.
ولأن الطرق الخشنة شبه مستحيلة وليست لها أرضية (فالشعب متجانس ومسالم، والبلد غير قابل للتقسيم، والجيش بعيد عن السياسة)، وتونس من الدول التي يراد لها ألا تغرق ولا تنهض، فكان المطلوب أن يبدد زخم الثورة ويغلق قوسها دون المساس بالاستقرار في ظل الوصاية. فكان سيناريو التفتيت أو التجويف الناعم الذي يفرغ الثورة من مضمونها ويميع أهدافها، كما حدث في بعض دول أوروبا الشرقية.
وأول ضربة موجعة لحظوظ الثورة في الانتصار، كانت استبعاد الوصاية تماما من الخطاب والبرامج، والتسليم بها، فضاع التشخيص وحسمت المعركة قبل أن تبدأ، وانحرف مسار الثورة، وتاه فريقها الذي هزم نفسه بنفسه. فجأة، وبجرة قلم أصبحت تونس كاملة السيادة، وتحولت القضية من قضية تحرر إلى قضية حكم في ظل الوصاية (من يحكم وكيف نحكم)، وانشغل الفريق بالغنائم قبل نهاية المعركة.
لم يكن خافيا أن النهضة كانت (ميسي أو رونالدو فريق الثورة)، الجهة الوحيدة المؤهلة لتشكل نواة لحركة وطنية جامعة تؤطر الشعب وتقوده في معركة التحرر والنهوض، وأنها تتجه لفوز كبير في انتخابات 2011، لتضم التفويض الشعبي للشرعية الثورية والنضالية فتصبح قيادة طبيعية وشرعية للثورة.
ومن ثم اقتضى سيناريو تجويف الثورة تطويع النهضة، وذلك بالتفتيت الناعم لعناصر قوتها (فالأساليب الخشنة غير مناسبة في بلد يعيش حالة ثورية، والقوى الكبرى أصبحت تحبذ للحفاظ على نفوذها الديمقراطية الشكلية الموجهة على الدكتاتورية الخشنة المكلفة).
عناصر قوة النهضة ومبرر وجودها مشروعها ومرجعيتها الإسلامية، ومصداقيتها ورصيدها النضالي واستقلال قرارها ووحدتها وعلوية العدل في مشروعها. كل ذلك استهدف بالتفتيت المباشر وغير المباشر. أما التفتيت المباشر فقد فتح له الباب عبر خليط قاتل من تسليم بالوصاية وفوبيا العودة للسجون والمنافي، فأصبح على الحركة ممسكا، وهي العصية على الممسكات التي تستدرج وتحتوي بها الأحزاب، فسلمت الحركة رقبتها من حيث أرادت تأمينها.
ولأن التواجد في الحكم هو أضمن حصانة، أصبح البقاء في الحكم أو حوله غاية وأولوية حاكمة، فتعززت قابلية الحركة للابتزاز والتطويع، لأن ثمن الحكم في دولة تابعة (الحاكم فيها مجرد وكيل) الحصول على المباركة الخارجية، التي أصبحت الأولوية الحاكمة، ثم تدحرج الأمر لتصبح شهادة الوكلاء المحليين للحركة غاية وأولوية حاكمة.
أما التفتيت غير المباشر، فتم باستهداف الحركة (بعد أن حشرت في الزاوية وسلبت زمام المبادرة)، بمبادرات مربكة، لا تخرج منها إلا بمزيد من الخضوع والتشويه والتحجيم، وإضعاف للمصداقية والرصيد والحزام الشعبي ووحدة الصف، وتمييع للهوية والمرجعية والمشروع، وكل ذلك يصب في سيناريو التجويف والتطويع.
ذلك هو نفق “السلطة مقابل المشروع” الذي تستدرج إليه الأحزاب لتحويلها من قوة تغيير إلى قوة تطبيع، والسير فيه كالسقوط الحر والتزحلق من المرتفعات، وفيه قطع سريع لإمكانية العودة إلى المسار القويم والمتمثل في الحفاظ على استقلال القرار والمصداقية، والمراهنة على الشعب لتنفيذ المشروع، بدل المراهنة على الخارج للبقاء في السلطة.
هذا المسار الانزلاقي يحتاج إلى تمويل ثقيل، الحصول عليه واستمرار تدفقه، يفقد الحزب استقلال قراره، والإدمان عليه ييسر عملية التطويع والابتزاز، وهو مسار انقلابي لا يمكن أن ينجح مع حزب ديمقراطي يدار بشفافية وتحكمه مؤسسات. كما أن ترويض الأحزاب، كإخضاع الدول، يقتضي بالضرورة “خصخصتها”، أي تركيز السلطة والقرار في دائرة ضيقة، ومنظمة التحرير الفلسطينية خير مثال.
إذن في الوقت الذي شغلنا واستنزفنا فيه بالتصدي لسيناريوهات مستبعدة وغير مطلوبة، مر السيناريو الفعلي بدون مقاومة، بل نفذناه بأيدينا ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، ووقعت النهضة في كمين التفتيت الناعم، وهي تطارد المباركة الخارجية وسراب الديمقراطية في ظل التبعية.
لقد كانت معركة بين فريق دخلها بهدف محدد، فإجهاض الثورة التونسية لا يكون إلا بالتجويف الذي يقتضي ترويض النهضة، الذي يقتضي “خصخصتها”، وفريق ضرب حظوظه في مقتل عندما سلم بالوصاية أس الداء، واختارت نخبه السياسية أن تتنازع وتتقاسم المواقع والمكاسب داخل منظومة الوصاية والفساد، وبإشراف المسؤول الكبير، فلم تخرج تونس سوى بحرية جوفاء وبديمقراطية مغشوشة متواطئة مع الفساد.
لقد أتيحت لتونس فرصة تاريخية (لم تتح لغيرها) للتحرر والنهوض والإقلاع، ورفع سقف تطلعات الشعوب العربية عاليا، فأبت نخبتها السياسية إلا أن يظل سقف البلاد العربية الاستقرار الهش في ظل الوصاية، في انتظار جولة قادمة.
المصدر : الجزيرة.نت