الصلح بين الناس
السبت 7 شعبان 1437/ 14ماي/آيار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
الشيخ صلاح نجيب الدق
الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن الإصلاح بين المتخاصمين له منزلة كبيرة عند الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى الصلح:
الصلح في اللغة: اسم من المصالحة، وهي المسالَمة بعد المنازعة؛ (التعريفات للجرجاني صـ 176 رقم 877).
الصلح في الشرع: معاقدةٌ يتوصل بها إلى الإصلاح بين الناس؛ (المغني لابن قدامة بتحقيق التركي جـ 7 صـ 5).
جاءت كلمة الصلح بمشتقاتها في القرآن الكريم ثلاثين مرة؛ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم صـ 410).
الإصلاح بين الناس وصية ربِّ العالَمين:
جاءت آيات كثيرة في القرآن تتحدث عن الإصلاح بين الناس.
قال سبحانه: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
قال القرطبي (رحمه الله): مَن شفع شفاعةً حسنةً ليصلح بين اثنين، استوجب الأجرَ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 5 صـ 295).
وقال ابن كثير (رحمه الله): من سعى في أمرٍ، فترتب عليه خيرٌ، كان له نصيبٌ من ذلك؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 4 صـ 281).
ويقول الله تعالى أيضًا: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا تجعلوا الله قوةً لأيمانكم في ألَّا تبَرُّوا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس، ولكن إذا حلَف أحدكم، فرأى الذي هو خيرٌ مما حلف عليه؛ مِن ترك البر والإصلاح بين الناس – فليحنَثْ في يمينه، ولْيَبَرَّ، وليتقِ الله، وليُصلِحْ بين الناس، وليُكفِّرْ عن يمينه؛ (جامع البيان لابن جرير الطبري جـ 2 صـ 402).
روى مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه))؛ (مسلم – كتاب الإيمان حديث 13).
يقول الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا خير في كثيرٍ من نجوى الناس جميعًا ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ [النساء: 114]، والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندَب إليه من أعمال البر والخير، ﴿ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وهو الإصلاح بين المتبايِنَيْنِ أو المختصِمَيْنِ بما أباح الله الإصلاح بينهما؛ ليتراجعا إلى ما فيه الأُلفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به،ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد مَن فعل ذلك، فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 114] يقول: ومَن يأمر بصدقةٍ أو معروفٍ من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلبَ رضا الله بفعله ذلك – ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لِما فعل مِن ذلك عظيمًا، ولا حدَّ لمبلَغ ما سمى الله عظيمًا يعلَمُه سواه؛ (جامع البيان للطبري جـ 4 صـ 276).
نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الإصلاح بين الناس:
(1) روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقةٌ، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وكل خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقةٌ، ويميط الأذى عن الطريق صدقةٌ))؛ (البخاري حديث 2989 / مسلم حديث 1009).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (يعدل بين الاثنين صدقةٌ)؛ أي: يصلح بينهما بالعدل؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 103).
(2) روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضلَ مِن درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البَيْنِ، وفساد ذات البَيْنِ الحالقة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 4111).
قال شمس الحق آبادي (رحمه الله): في الحديث حثٌّ وترغيب في إصلاح ذات البَيْن، واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البَيْن ثُلمة في الدِّين، فمَن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها، نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه؛ (عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ 13 صـ 178).
(3) روى البيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمِل ابن آدم شيئًا أفضلَ من الصلاة، وصلاحِ ذات البَيْن، وخُلقٍ حسنٍ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 5645).
جواز الأخذ من الزكاة للإصلاح بين الناس:
مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية المباركة بالإصلاح بين الناس أنه يجوز للمصلِح بين المتخاصِمَين أن يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء ما تحمَّله من ديون في سبيل الإصلاح بين الناس، وإن كان غنيًّا؛ وذلك بدليل ما يلي:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
قال الإمام القرطبي (رحمه الله) ـ عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾ [التوبة: 60]: يجوز للمتحمِّل في صلاحٍ وبر أن يعطَى من الصدقة ما يؤدي ما تحمَّل به إذا وجب عليه، وإن كان غنيًّا، إذا كان ذلك يجحف بماله، كالغريم،وهو قول الشافعي وأصحابه، وأحمدَ بن حنبل وغيرهم؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 8 صـ 171).
روى مسلمٌ عن قَبيصة بن مخارقٍ الهلالي قال: تحمَّلت حَمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها،فقال: ((أقِمْ حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها))، قال: ثم قال: ((يا قَبيصة، إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حَمَالةً فحلَّتْ له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك))؛ (مسلم حديث 1044).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله: (تحمَّلت حَمالة) هي بفتح الحاء، وهي المال الذي يتحمله الإنسان؛ أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين؛ كالإصلاح بين قبيلتين، ونحو ذلك، وإنما تحل له المسألة ويعطَى من الزكاة بشرط أن يستدينَ لغير معصيةٍ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 144).
جماعة الإصلاح بين الناس:
إن الله عز وجل قد أكمل لنا الدِّين، وأتم علينا نعمتَه، وبيَّن لنا المنهج القويم لنسير عليه؛ ليصبح المجتمع الإسلامي مجتمعًا تسُودُه المحبة والمودة والأُلفة بين أفراده، ولا يخلو مجتمع من مشاكلَ أو منازعات بين أفراده؛ ولذا يجب أن يكونَ في كل مسجد، وفي كل حي، وفي كل شركة، أو مصنع، أو مدرسة، أو مؤسسة حكومية أو خاصة – جماعةٌ مِن أهل الدين والفضل والعلم تقوم بالإصلاح، وتوقِف الظالم عن ظلمه، وترده إلى رشده وصوابه،ولقد حثنا الله على ذلك؛ حيث يقول سبحانه في محكم التنزيل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181].
وينبغي على هذه الطائفة المباركة أن تبذل من أموالها وجهدها ووقتها قدر طاقتها لحل المنازعات بين المتخاصمين؛ لتعود المودة بين أفراد المجتمع المسلم؛ مِن أجل ذلك فإن هذه الطائفة المصلحة العادلة في حُكمها لها منزلة عظيمة عند الله تعالى يوم القيامة.
روى مسلمٌ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المُقسِطين (أي العادلين) عند الله على منابرَ من نورٍ، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمينٌ، الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا “أي: مَن كانت لهم عليه ولاية”))؛ (مسلم حديث 1827).
فهنيئًا لك يا مَن تُصلح بين الناس ابتغاء وجه الله تعالى.
الشيطان يقف بالمرصاد لمن يريد الإصلاح:
يجب على كل مسلم أن يعلم أن الشيطان هو عدوُّه الأكبر، وأنه له بالمرصاد؛ فليكُنْ على حذَر منه.
يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): (إن الشيطان مبارزٌ لكم بالعداوة، فعادُوه أنتم أشد العداوة، وخالِفوه وكذبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]؛ أي: إنما يقصِد أن يُضلَّكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين؛فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباعَ كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قديرٌ، وبالإجابة جديرٌ؛ (تفسير ابن كثير جـ 6 صـ: 534).
ويحاول الشيطان الرجيم جاهدًا أن يُبعِد المسلم عن القيام بالصلح بين المتخاصمين، ويوسوس له أنه سوف يتعرض للأذى، أو ينال الناس من عِرضه، وأن هذا الصلح سوف يجعله يفقد ماله وجهده ووقته، وأن غيره من الناس يمكن أن يكفيَه الصلحَ بين المتخاصمين، فعند ذلك يجب أن يستعيذَ المسلم بالله من الشيطان الرجيم، ويتذكر قوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 200، 201].
وعلى المسلِم أن يتذكر أيضًا أن الصلح بين الناس له منزلة عظيمة عند الله تعالى، وهو باب عظيم من أبواب مغفرة الذنوب، يجب عليه أن يسارع إليه.
يقول الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
صفات الذي يُصلح بين الناس:
ذكر أهل العلم صفات ينبغي توافرها فيمن يتصدى للإصلاح بين الناس، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: إخلاص العمل لله وحده:
يجب على من يقوم بالإصلاح بين الناس أن يعلم أن أساس الثواب وقبول الأعمال عند الله تعالى يكون بإخلاص العمل لله وحده، وأن يكون بعيدًا عن الرياء والسمعة، وألا ينظرَ العبد مدح الناس له على أعماله؛ فعدمُ إخلاص النية لله تعالى يحبط الأعمال الصالحة؛يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
روى البخاري عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))؛ (البخاري حديث 1).
ثانيًا: العلم:
يجب على مَن يتصدى لمهمة الإصلاح بين الناس أن يكون على علم بأحكام الشريعة الإسلامية في القضية التي يُصلح فيها، وبأحوال مَن يُصلح بينهم؛ حتى يقتصر تصرفه في حدود الشرع الشريف؛ لأنه إذا كان جاهلًا بهذه الأمور فإنه سوف يفسد أكثر مما يُصلح.
ثالثًا: الرِّفق وحُسن الخُلق:
الرِّفق وحُسن الخُلق من الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يصلح بين الناس؛ لأن العنف المفرِط قد يؤدي إلى مفسدة عظيمة لا يُحمَد عقباها،وهذا الخُلق الحميد من الرِّفق ولِين الجانب هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون وساروا عليه عند الإصلاح بين الناس، والإسلام يحثنا على الرِّفق وحُسن الخُلق مع الناس.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
روى مسلمٌ عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (مسلم حديث 2594).
قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث فيه فضل الرِّفق، والحث على التخلُّق وذمِّ العنف، والرِّفق سببُ كل خيرٍ، ومعنى: يُعطي على الرفق؛ أي: يُثيب عليه ما لا يُثيب على غيره؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 391).
روى الشيخان عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: ((إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقًا))؛ (البخاري حديث 3559 / مسلم حديث 2321).
قال القاضي عِياض (رحمه الله): أصل الفُحش: الزيادة والخروج عن الحد.
قال الطبري (رحمه الله): الفاحش: البذيء.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن خياركم أحاسنَكم أخلاقًا))، فيه الحثُّ على حُسن الخُلق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه.
قال الحسن البصري (رحمه الله): حقيقة حُسن الخُلق: بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه.
قال القاضي عياضٌ (رحمه الله): حُسن الخُلق: هو مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودُّد لهم والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكِبْر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلَظ والغضَب والمؤاخَذة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 87).
روى الترمذيُّ عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن خُلُقٍ حسَنٍ، وإن اللهَ ليُبغِضُ الفاحشَ البذيءَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1628).
والبَذِيء: هو الذي يتكلم بالفُحْش، ورَدِيء الكلام.
أخي المسلم الكريم:
الرفق في الموعظة كثيرًا ما يَهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف القلوب النافرة، ويأتي بخير، وهذا أفضل من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
رابعًا: الصبر وتحمُّل الأذى:
الصبر وتحمُّل الأذى من الصفات الهامة التي يجب أن يتحلى بها مَن يقوم بالإصلاح بين الناس، وطالما هناك مهمة سامية، فالغالب أن يصاحبَها أذًى من المتخاصمين، ويظهر هذا جليًّا في وصية لقمان لابنه؛ حيث يقول الحقُّ تبارك وتعالى حكاية عن لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
وينبغي لمن يُصلح أن يصبر ويتحمَّل الأذى ابتغاء وجه الله عز وجل؛ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
روى الشيخانِ عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبيرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم في شِراجِ (مسايل الماء) الحَرَّة (الأرض الملساء، فيها حجارة سوداء)، التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء (أي أطلِقْه) يمُرَّ، فأبى عليه، فاختصَما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: ((اسقِ يا زُبيرُ، ثم أرسل الماء إلى جارك))، فغضِب الأنصاري فقال: أنْ كان ابنَ عمَّتِك، فتلوَّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((اسقِ يا زبيرُ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر))، فقال الزبير: والله، إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]؛ (البخاري حديث 2359 / مسلم حديث 2357).
قوله: (سرِّح الماء): قال الأنصاري ذلك للزبير؛ لأن الماء كان يمر بأرض الزبير قبل أرض الأنصاري، فيحبسه لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمَس منه الأنصاري تعجيل ذلك، فامتنع؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ 36).
قوله: (أنْ كان ابنَ عمَّتِك)؛ أي: فعلتَ هذا لكونِه ابنَ عمتك.
قوله: (فتلوَّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: تغيَّر مِن الغضب؛ لانتهاك حرمات النبوة، وقُبحْ كلام هذا الإنسان.
قوله: ((احبِسِ الماء حتى يرجع إلى الجَدْر)): الجدر وهو الجدار،ومعنى يرجع إلى الجدر؛ أي: يصير إليه، والمراد بالجدر: أصل الحائط، وقدره العلماء: أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبتلَّ كعب رِجْلِ الإنسان، فلصاحب الأرض الأُولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبيرُ صاحبَ الأرض الأولى، فأدَلَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((اسقِ، ثم أرسل الماء إلى جارك))؛ أي: اسقِ شيئًا يسيرًا دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك، إدلالًا على الزبير، ولعلمِه بأنه يرضى بذلك، ويؤثِر الإحسان إلى جاره،فلما قال الجار ما قال، أمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذ جميعَ حقه؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ: 119).
الكذِب بقصد الإصلاح بين المتخاصمين:
روى الشيخانِ عن أم كلثومٍ بنت عقبة: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذَّابُ الذي يُصلح بين الناس، فيَنمي خيرًا، أو يقول خيرًا))؛ (البخاري حديث 2692 / مسلم حديث 2605).
قال الإمام النووي: ليس الكذاب المذموم الذي يُصلح بين الناس، بل هذا محسن؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 404).
عمر بن الخطاب:
قال الإمام ابن القاسم (رحمه الله): رُوِي أن رجلًا في عهد عمرَ قال لزوجته: نشدتُك بالله، هل تحبيني؟ فقالت: أما إذ نشدتَني بالله فلا، فخرج الرجل حتى أتى عمر – رضي الله عنه – فأرسل إليها، فقال: أنتِ التي تقولين لزوجك: لا أحبُّكَ، فقالت: يا أمير المؤمنين، نشدني بالله، أفأكذِبُه؟ قال: نعم، فأكذِبيه، ليس كل البيوت تبنى على الحب،ولكن الناس يتعاشَرون بالإسلام والإحسان؛ (شرح السنة للبغوي جـ 13 صـ 120).
سفيان بن عيينة:
قال سفيان بن عيينة (رحمه الله): لو أن رجلًا اعتذر إلى رجلٍ فحرَّف الكلام ليرضيه بذلك، لم يكن كاذبًا، يتأول الحديث: ((ليس بالكاذب الذي يُصلح بين الناس))؛ فإصلاحه ما بين وبين صاحبه أفضلُ مِن إصلاحه ما بين الناس؛ (شرح السنة للبغوي جـ 13 صـ 120).
التنازل عن بعض الحقوق من أجل الصلح:
ينبغي للمصلح بين المتخاصمين أن يحثَّهم على التنازل عن بعض حقوقهم ابتغاء وجه الله تعالى من أجل الإصلاح.
يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): هذه الآية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب؛ في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرجَ من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تَقَلَّقُوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]؛ أي: هلَّا اقتديتم به وتأسَّيْتم بشمائله؟ (تفسير ابن كثير جـ 9 صـ: 391).
روى البخاري عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما قال: لَمَّا صالَح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية، كتب علي بن أبي طالبٍ بينهم كتابًا، فكتب: محمدٌ رسول الله،فقال المشركون: لا تكتب: محمدٌ رسول الله، لو كنت رسولًا لم نقاتلك، فقال لعليٍّ: امحُه،فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيامٍ ولا يدخلوها إلا بجُلُبَّانِ السلاح، فسألوه: ما جُلُبَّانُ السلاح؟ فقال: القِراب بما فيه؛ (البخاري حديث 2698).
وهكذا تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن حقه، وهو كتابة: محمد رسول الله، مِن أجل الصلح.
قول علي: (ما أنا بالذي أمحاه): ليس بمخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علِم بالقرينةِ أن الأمر ليس للإيجاب؛ (عمدة القاري ـ للبدر العيني جـ 13 صـ 275).
روى الشيخانِ عن كعبٍ رضي الله عنه: أنه تقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعَتْ أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حجرته، فنادى: ((يا كعبُ))، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ((ضَعْ مِن دَينِك هذا))، فأومَأ إليه؛ أي الشَّطر (النصف)،قال: لقد فعلتُ يا رسول الله،قال: ((قُمْ فاقضِه))؛ (البخاري حديث 2710 / مسلم حديث 1558).
قوله: (دَيْنًا كان له عليه)؛ أي: طلَب كعبٌ قضاءَ الدَّينِ الذي كان له على ابن أبي حَدْرَدٍ.
قوله: (سِجْفَ حجرته)؛ أي: سترتها.
قوله: (لقد فعلتُ)؛ أي: امتثلتُ أمرك يا رسول الله.
قوله: (قم فاقضِه)؛ أي: الشطر الثاني من الدين.
♦ قال الطِّيبي (رحمه الله): في الحديث جواز المطالبة بالدَّين في المسجد، والشفاعة إلى صاحب الحق، والإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم، وقبول الشفاعة في غير معصيةٍ، وجواز الاعتماد على الإشارة وإقامتها مقام القول؛ (مرقاة المفاتيح ـ علي الهروي القاري جـ 5 صـ 1956).
خير الناس الذي يبدأ بالصلح:
الإسلام هو دِين المودة والتسامح؛ ولذا ينبغي على المسلم العاقل، الذي يحب الله ورسوله، ويحب الخيرَ لنفسه ولإخوانه المسلمين – أن يبادرَ بالصلح مع مَن خاصمه؛ فيَصِل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، وينسى المشاكل والفتن، ويبدأ مع إخوانه المسلمين صفحةً بيضاء نقية، وليعلم أن له ثوابًا عظيمًا عند الله تعالى؛ يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
♦ قال ابن كثير (رحمه الله): إذا أحسنتَ إلى مَن أساء إليك، قادَتْه تلك الحسنة إليه إلى مُصافاتك ومحبتك، والحنوِّ عليك، حتى يصير كأنه وليٌّ لك حميمٌ؛ أي: قريبٌ إليك، مِن الشفقة عليك، والإحسان إليك،ثم قال: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ [فصلت: 35]؛ أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا مَن صبر على ذلك؛ فإنه يشق على النفوس؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 12 صـ 243).
روى الشيخانِ عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحلُّ لرجلٍ أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان، فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام))؛ (البخاري حديث 6077 / مسلم حديث 2559).
روى مسلمٌ عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تُفتَح أبوابُ الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيقال: أنظِروا هذينِ حتى يصطلحا، أنظِروا هذينِ حتى يصطلحا، أنظِروا هذينِ حتى يصطلحا))؛ (مسلم حديث 2565).
الصُّلح بين الزوجين:
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35].
قال ابن كثير (رحمه الله): قال الفقهاء: إذا وقع الشقاقُ بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقةٍ، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقةً من أهل المرأة، وثقةً من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانِه مِن التفريق أو التوفيق؛ (تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 29).
وقال الله عز وجل: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 128].
قال ابن كثير (رحمه الله): إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفِرَ عنها، أو يُعرِض عنها، فلها أن تُسقِط حقَّها أو بعضه، من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيتٍ، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ﴾ [النساء: 128]، ثم قال: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128]؛ أي: مِن الفِراق،وقوله: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ أي الصُّلحُ عند المشاحَّة خيرٌ من الفِراق؛ ولهذا لما كبِرَتْ سَوْدةُ بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فِراقها، فصالحَتْه على أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك؛ (تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 298).
الصلح بين طوائف المسلمين:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 9، 10].
في هذه الآيات المباركة يأمر الله تعالى بالإصلاح بين الطوائف المسلمة المتحاربة، مع مراعاة العدل والإنصاف عند الصلح بينهم، وقد سمَّاهم الله عز وجل مؤمنين رغم القتال.
روى البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه: أن أهل قباءٍ اقتتلوا حتى ترامَوْا بالحجارة، فأُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ((اذهبوا بنا نُصلِحْ بينهم))؛ (البخاري حديث 2693).
الحسَن بن علي يحقن دماء المسلمين:
روى البخاري عن أبي بكرة قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسَنُ بن عليٍّ إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً، وعليه أخرى، ويقول: ((إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين مِن المسلمين))؛ (البخاري حديث 2704).
هذا الحديث من علامات النبوة؛ فقد أصلح الله بالحسن بن عليٍّ بين أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وبين أهل العراق، بقيادة الحسن بن علي رضي الله عنهما، وذلك بعد حروب طويلة قتل فيها الآلاف من المسلمين، وحقن الله به دماء المسلمين، وعادت المودة بين طوائف المسلمين المتحاربة؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 8 صـ 16: صـ 20).
الصُّلح مع أعداء المسلمين:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنفال: 61].
قال ابن كثير (رحمه الله): إن مالوا إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، ﴿ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الأنفال: 61]؛ أي: فمِلْ إليها، واقبَلْ منهم ذلك؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووَضْع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين – أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأُخَر؛ (تفسير ابن كثير جـ 2 صـ 113).
قال ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 6 صـ 318).
وبناءً على ذلك، فإن الصلح مع أعداء المسلمين جائز، بحسَب حاجة المسلمين إليه، ومصلحتهم فيه؛ (أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي جـ 2 صـ 876).
روى البخاري عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما قال: صالَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء؛ على أن مَن أتاه من المشركين رده إليهم، ومَن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابلٍ ويقيم بها ثلاثة أيامٍ، ولا يدخلها إلا بجُلُبَّان السلاح السيف والقوس ونحوه، فجاء أبو جندلٍ يحجل في قيوده، فردَّه إليهم؛ (البخاري حديث 2700).
روى البخاري عن عمرو بن عوفٍ الأنصاري – وكان شهد بدرًا -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالَحَ أهل البحرين وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي؛ (البخاري حديث 3158).
روى أبو داود عن ذي مخبرٍ، رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيناه، فسأله جبيرٌ عن الهدنة، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوًّا من ورائكم، فتُنصَرون وتغنَمون وتسلَمون، ثم ترجعون؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني جـ 3 حديث 3607).
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): قد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرًا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 8 صـ 43).
الصلح المخالف للقرآن والسنَّة مردود:
يجب أن يكون الصلح بين المتخاصمين على أساس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يرضَوْا بحكم أهل الإصلاح طالمًا وافق ذلك شرع الله، وإن خالف أهواء المتخاصمين.
يقول الله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
وقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52].
أما إذا كان الصلح مخالفًا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو مردود، ولا بركة فيه، وإن رضي به المتخاصمون؛فلنحذَرْ مخالفة الشرع الشريف عند الإصلاح بين الناس؛ يقول الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
روى الترمذي عن عمرو بن عوفٍ المُزَني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صُلحًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1089).
روى مسلمٌ عن أبي هريرة وزيد بن خالدٍ الجهني أنهما قالا: إن رجلًا من الأعراب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيتَ لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نَعم، فاقضِ بيننا بكتاب الله، وأْذَنْ لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل))، قال: إن ابني كان عَسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أُخبرتُ أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاةٍ ووليدةٍ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائةٍ، وتغريب عامٍ، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لأقضِيَنَّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغَنَم ردٌّ، وعلى ابنك جلد مائةٍ، وتغريب عامٍ، واغدُ يا أُنَيْسُ، إلى امرأة هذا، فإن اعترفَتْ فارجمها))، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَت؛ (مسلم حديث 1697).
حِرص السلف على الصلح بين المتخاصمين:
حرَص سلفُنا الصالح على الصلح بين المتخاصمين، وهذا واضح في سِيَرهم وأقوالهم العطرة، التي امتلأت بها بطون أمهات الكتب، وسوف نذكر بعضًا من هذه النماذج المشرقة؛ لتكونَ نبراسًا يسير المسلمون عليه؛ لتعود المودةُ والمحبة بين المجتمع المسلم.
(1) عمر بن الخطاب:
قال عمر بن الخطاب: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا؛ فإن فَصْلَ القضاء يورث الضغائن بين الناس؛ (مصنف عبدالرزاق جـ 8 رقم 15304).
(2) عائشة أم المؤمنين:
روى البخاري عن عوف بن مالك بن الطفيل، هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها: أن عائشة حُدِّثَتْ أن عبدالله بن الزبير قال في بيعٍ أو عطاءٍ أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت؟ أهو قال هذا؟! قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذرٌ ألا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفَعَ ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أشفع فيه أبدًا، ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة؛ فإنها لا يحل لها أن تنذِرَ قطيعتي، فأقبل به المسور وعبدالرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم، ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمتِ من الهجرة؛ فإنه لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفِقَت تذكرهما نذرها وتبكي، وتقول: إني نذرتُ، والنذر شديدٌ، فلم يزالا بها حتى كلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبةً، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبُلَّ دموعُها خمارَها؛ (البخاري حديث 6073).
(3) محمد بن كعب القرظي:
قال عبدالله بن ثابت: كنت جالسًا عند محمد بن كعبٍ، فقال له محمدٌ: أين كنت؟ قال: “كان بين قومي شيءٌ فأصلحت بينهم، قال: أصبحت لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله”، ثم قرأ: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]؛ (تفسير ابن أبي حاتم جـ 4 صـ 1065).
(4) الفُضَيل بن عياض:
قال الفضيل بن عياضٍ: إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلًا بمثل، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإن باب العفوِ أوسعُ؛ فإنه مَن عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 8 صـ 112).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
المصدر: السوسنة