القرآن

الجمعة 28 شوال 1436//14 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
إبراهيم علي أبو الخشب
القرآن
هو ذلك الكلام المبين، والكَنز الثمين، والحبل المتين، والبلاغة الباهرة، والآية الظاهرة، والحجة القاهرة، نزَل به جبريل الأمين على خير المرسلين، مُنَجَّمًا على حسب الحوادث والأحوال، وكان نزوله عيدًا، ومجيئه بشرى، ودَوَى صوته نَغَمًا يردِّده كلُّ لسان، ويَستقبله كلُّ مُشَوَّق، ويتهادى به المحبون للندى، والمستريحون للبِرِّ، الراغبون في المعروف.

وما هي إلاَّ مدة من الزمن مَضَت على نزوله في الأرض، حتى صارَت به سماءً لا تُطاولها سماء، وروضة رفافة الأفياء، ساحرة الرُّواء، عظيمة الضارة والماء، ثم تحوَّلت به تلك البقعة الجَرْداء إلى خصوبة ونَماء، وبُسُط خضراء، وزُروع وثمار، ونباتات وأشجار، وهناك تلفَّتت الدنيا إلى الجزيرة التي كانَتْ مرعى الشاة والإبل، ومدَّت يدَها إليها في إجلال واحترام، وذِلَّة وخُضُوع، وتواضُع وأدبٍ، مُعلنة ذلك التقدير الذي لَم يكن في حساب الأيام والليالي.

وقد ظلَّ موكب قُدومه يتهادَى في المسير، ويتمايل في الغُدوِّ، ويَملأ عِطفَيْه بالجلال والعظمة، والاختيال والأُبَّهة، والكبرياء غير المُصطنع – ثلاثًا وعشرين سنة في مكة والمدينة، حتى قضى على الشَّطط وطَمَس معالِمَ الوثنيَّة، وشَحَذ الأفكار إلى أن تتعلَّق بخالق الخَلْق، مُدَبِّر الرِّزق، لا يشركون به أحدًا من تلك الحوادث التي لا تَملِك من أمر نفسها قليلاً ولا كثيرًا؛ ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].

وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – إذا أردتُم العلم فأتوا القرآن؛ فإن فيه عِلْمَ الأوَّلين والآخرين، وعن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الذي ليس في جَوْفه شيءٌ من القرآن، كالبيت الخَرِب)).

وقد اهتمَّ علماء أصول الفقه بتعريفه جامعًا مانعًا؛ ليتبيَّنَ ما تجوز به الصلاة منه، وما يكون حُجة في استنباط الأحكام، وما يَكفر جاحده، فقالوا: هو ذلك الكلام الذي نزَل به جبريل على الرسول الكريم باللفظ العربي المنقول بالتواتُر المتعبَّد بتلاوته، المُتحدَّى ببلاغته، المَبدوء بالفاتحة، والمختوم بسورة الناس.

ومن هذا التعريف يظهر الفَرْق فيه بينه وبين الحديث القدسي؛ لأنهما وإن كانا كلامَ الله لفظًا ومعنًى، إلاَّ أنَّ الحديث القدسي لا يُتَعَبَّد بتلاوته، ولا يُتَحَدَّى بفصاحته وبلاغته، وكذلك يظهر الفرق بينه وبين الحديث النبوي؛ لأنهما وإن كانا مُتَّفِقين في أنَّ مصدرهما السماء، وطريقهما جبريل؛ ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 3 – 5]، ولكنَّ الحديث لفظُه من نَسْج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتأليفه من صُنعه، ومنزلة السُّنة من القرآن منزلة البيان والإيضاح، والشرح والتفصيل، والتأييد والتصديق، والتطبيق والتفسير، وليس ذلك لقُصورٍ كان فيه، ونقْصٍ لَحِق به، وغموض اعْتَراه، ولكن كما يتناول الأستاذ أصْلَ مادة الدرس بالبَسط والبيان، والتعليق والشرح؛ لتتمكَّن عند التلاميذ عن طريقه، وتَرسَخ في نفوسهم بتلقينه، وتُصادف عندهم قبولاً بِجَرْسه الحبيب، أو صوته اللذيذ، وعباراته الخلاَّبة؛ ولهذا يقول – سبحانه -: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، ويقول في آية أخرى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105].

اقرأ أيضا  القصة في القرآن الكريم: قصة طالوت و جالوت

والقرآن كما نعلم كُلي لا جزئي، ومُجمَل لا مُفصَّل؛ ولهذا كان لا بدَّ له من السُّنة التي بيَّنَت ما فيه من عموم، وفصَّلت ما به من إجمال؛ حتى لا يتورَّط الناس في تطبيقه على الحوادث، وتناوله للمسائل، واشتماله على الأحكام، ومع هذا وذاك رُبَّما كان المراد من اللفظ الكناية أو المجاز، أو كان اللفظ من قبيل المشترك الذي أُريدَ بعض معناه، وهكذا، والفيصل في ذلك كله هو الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – لا غيره، وبذلك يظهر جَهْلُ مَن رفضوا السُّنة، وقالوا: لنا في كتاب الله غُنية، وبخاصة إذا عُلِم أنَّ بعض الأحكام الشرعيَّة كان مصدرها وطريق العلم بها السُّنة لا الكتاب.

عِلمًا بأنَّ القرآن ينادي باحترام النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – والأَخْذ بقوله، والنزول على رأيه، والإيمان بكلِّ ما صدَر عنه، وليس بعد وصْفه له بأنه لا يَنطق عن الهوى، وكذلك ليس بعد تلك الآية تكريمًا لشأنه، واحترامًا لقَدْره؛ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

فالتحكيم له، وزوال الحَرَج منه، والتسليم بما يقضي به، معانٍ ترتفع به إلى حدِّ القَداسة، وتسمو به إلى مستوى الرِّفعة، وتصل بحديثه إلى الحدِّ الذي تَجعله بِمَنْأًى عن البُهتان.

وأعجب ما في القرآن من حديث، وأغْرَب ما فيه من وصْفٍ، وأجمل ما فيه من إبداع وحُسنٍ، أنك تَحشد له ما شِئتَ من الألفاظ، وتَخلع عليه ما شِئْتَ من تصوير، وتتأنَّق له على قَدْر ما تستطيع أن تتأنَّق، وتُجهد قلمَكَ في الكتابة، وبيانَكَ في الوصف، وفِكرَكَ في التنسيق، وذَوْقكَ في الرَّوعة، ووقتك في الاهتمام، وأسلوبك في الإبداع، ثم تظن الظنَّ الذي يوشِك أن يكون يقينًا أنَّك قد بلَغت الغاية، وأشْرَفت من القمة، ولكنَّك لا تَلبث أن تستمعَ إلى صدًى في نفسك، كأنما يقول لك: إنك ما تزال في سَفْح الجبل، والطريق طويل والقمة عالية، والمهمَّة من الصعوبة بمكان بعيد، ولا تَلبث بعد هذا المطاف أن تستمع إلى صدًى آخرَ يُردِّده البوصيري في همزيَّته.
لَمْ يُدَانُوكَ فِي عُلاَكَ وَقَدْ حَا
لَ سَنًا مِنْكَ دُونَهُمْ وَسَنَاءُ
إِنَّمَا مَثَّلُوا صِفَاتِكَ لِلنَّا
سِ كَمَا مَثَّلَ النُّجُومَ الْمَاءُ

اقرأ أيضا  دليل الصحة النفسية في القرآن

ذلك لأنَّ روعة بيانه، وسحر ألفاظه، وجمال أسلوبه، وقوَّة مَنطقه، وشِدة أَسْره للقلوب، واجْتِذابه للأفئدة، وأَخْذه بزمام النفس، وامتلاكه لناصية الرأس – تَجعلك تَسخر مما كتبتَ، وتَهزَأ بما سطَّرت، وتَحْقِر ما اعْتَزَزت به من بيان هو إلى جانب بيانه عَي، وإلى جانب نُطقه خَرَسٌ، وإلى جانب ألفاظه هُراء؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].

وقد كان الخُطباء لا يُجيدون في كل المواقف، والشعراء لا يبروزن في جميع الأغراض، أمَّا هو فوصَل إلى ذِروة القول، وانتهى إلى أقصى درجة من درجات التصوير، مع تناوله لكلِّ ناحية، وجَودته في كلِّ فنٍّ، ونَبْعه الفيَّاض في كلِّ غرضٍ، يقول عنه كاتب العربية المرحوم مصطفى صادق الرافعي: “ألفاظ إذا اشتدَّت، فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانَت، فأنفاس الحياة الآخرة، نذكر الدنيا، فمنها عمادها ونظامُها، ونصف الآخرة، فمنها جَنَّتها وضِرامها، ومتى وعَدت من كرمِ الله، جَعَلت الثغور تَضحك في وجوه الغيوب، وإن أوْعَدت بعذاب الله، جَعَلت الألْسِنة تَرْعُد من حَمْي القلوب، ومعانٍ بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورِقَّة نستروح منها نسيم الجِنان، ونور تُبصر به في مرآة الإيمان وجْهَ الأمان، وبينا هي ترفُّ بنَدَى الحياة على زهرة الضمير، وتَخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى الصبر، وتَهب عليها أنفاس الرحمة، فتَنِمُّ بسرِّ هذا العالم الصغير، ثم بينما هي تتساقط من الأفواه، تُساقط الدموع من الأجفان، وتَدَع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتُمَثِّل للمذنب حقيقة الإنسانيَّة؛ حتى يظنَّ أنه صِنف آخرُ من الإنسان، إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب، وقد انهارَت قواعده، والْتَمَعت ناره، وقصَفَت في الجو رَواعدُه، وإذ هي السماء وقد أخَذت على الأرض ذنبها، واستأْذَنت في صدمة الفزع ربَّها، فكادت تَرجف الراجفة، تَتْبعها الرادفة، وإنما هي عند ذلك زَجرة واحدة، فإذا الخَلْق طعام الفناء، وإذا الأرض ماؤه”.

اقرأ أيضا  القرآنيون يتساءلون: ما حاجتنا مع القرآن إلى مصادر أخرى؟

وقد أجمَع الباحثون فيه، والمتحدِّثون عنه، والناظرون إليه، والمتفهمون له، أنَّ عجيب تنسيقه، وغريب تأليفه، وجديد ترفيهه، ورائع نَسْجه – كان له الأثر الطيِّب في نفوس العرب الذي تحوَّلوا به من جَفوة إلى رِقَّة، ومن غِلظة إلى لِينٍ، ومن طَيْشٍ إلى حِلمٍ، ومن قَسوة إلى رحمة، ومن حربٍ إلى سِلمٍ، ومن جحود وكُفران، إلى إذعان وإيمان، وتفصيل ذلك أنَّ كُتب القوانين ورسائل الأخلاق، وما أشْبه ذلك، مما يُقصد به تربية الشعوب، وتهذيب الأُمم، وحَمْل الأفراد والجماعات على الآداب الخاصة، أو التوجيهات العامة – لها نظام في التبويب وأسلوب في العرض، وأنماط معيَّنة تَخِذَها أصحابُها بُغية نزول الناس على إرادتهم، أو الاستجابة – ولو إلى حدٍّ ما – لدعوتهم، مع إحاطة ذلك كله بالقوة الصارخة، والسلطان القاهر، والبأس الشديد، ولكننا ونحن نَتتبَّع تاريخه، ونتقصَّى أخباره مع عدم عنايته بما اعْتنَى به المؤلفون أو المُشَرِّعون، أو أصحاب السيادة والسلطان، نرى أنَّ الثورة التي أحْدَثها، والانقلاب الذي صنَعه، والدَّوِي الصاخب الذي كان يتركه، واللهفة الشديدة التي كانت في النفوس الظامئة إليه، المُشوقة له، حين يسري في الجزيرة نَبَأُ آيةٍ منه، أو خبرٌ عنه، شيء آخر وراء كلام الناس، ودساتير الأمم، وقوانين المُشَرِّعين، ونُحاول مَهْما حاوَلنا تَلَمُّسَ الأسباب، وإدراك العِلة، فلا نجد إلاَّ أننا أمام قوله هو: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [لقمان: 11].

والذي لا شكَّ فيه بعد ذلك كله، أنه شَغَل العقول، وملأَ الأسماع، وصرَف النفوس، وكانت صيحته منذ نزَلت: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 1، 2]، أشْبَه بالتغيُّر العام.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.