المسجد الأقصى واحتمالات التقسيم

المسجد الأقصى - pls48.net -
المسجد الأقصى – pls48.net –

إعداد مجلة البيان

السبت 6 ذو الحجة 1436//19 سبمتبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية

يمر المسجد الأقصى في واحدة من أدق المراحل وأخطرها منذ احتلاله عام 1967 مع تصعيد السلطات الصهيونية من وتيرة اعتداءاتها على المسجد واستهداف مكوناته وعناصر الدفاع عنه والتصدي لمخططات التهويد والسيطرة عليه. وقد تجلى ذلك في سلسلة متلاحقة من الإجراءات استهدفت بشكل خاص النساء، وتجريم حركة الرباط، والتصويب على موظفي الأوقاف وإصدار قرارات بإبعادهم عن المسجد ومنعهم من الاقتراب من المقتحمين خلال ممارسة عملهم.

وفي حين يتصرف الاحتلال بجدية وبخطوات مدروسة للسيطرة على المسجد يغيب الموقف الرادع للاحتلال الذي يتصرف براحة ومن دون التعرض لأي ضغط من الجهات المعنية بشكل أساسي بالدفاع عن المسجد.

وفي ضوء تلاحق الإجراءات الصهيونية في الأقصى يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات تحكم المشهد في المسجد؛ الأول: انتقال الاحتلال إلى عملية تشريع التقسيم الزمني للمسجد في الكنيست، والثاني، اكتفاء الاحتلال بالإجراءات الإدارية لتثبيت “الوضع القائم”، والثالث اندلاع موجة جديدة من الحراك الشعبي في القدس تدفع الاحتلال إلى ضبط خطواته على إيقاعها. ترجيح أحد هذه السيناريوهات مرتبط بالعوامل المؤثرة في مسار الأحداث، وهي في المستوى الأول: الأردن، والمقاومة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، والمقدسيون مع فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، ومجموع الأحزاب والمنظمات والعلماء والإعلام في العالم العربي الإسلامي، والموقف الصهيوني. ويأتي في المستوى الثاني عوامل أخرى يتزايد تأثيرها في حال تضافرت في ما بينها.

تصعيد في استهداف المسجد ومكوّناته

شكّل انتهاء عيد الفطر بداية التحول في التعاطي الصهيوني مع المسجد الأقصى مقارنة بالموقف والإجراءات التي اتخذتها سلطات الاحتلال في الأشهر السابقة والتي فرضتها الهبة الشعبية التي شهدتها القدس في أعقاب قتل مستوطنين الفتى المقدسي محمد أبو خضير في 2/7/2014. فتداعيات الهبة دفعت المستوى الأمني إلى فرض قيود على الاقتحامات، وصولاً إلى شهر رمضان ومنع الاقتحامات كليًا في العشر الأواخر وفي أيام الفطر. أمّا على المستوى السياسي فقد أكد نتنياهو تمسك دولة الاحتلال بـ “الوضع القائم” في الأقصى والحرص على عدم تغييره إذ إنّ المكاسب التي حقّقها اليهود في ظلّ هذا الوضع أكبر من أن تضيع، وفي حين أن الحكومة تعد اليهود بالسماح لهم بالصلاة في الأقصى إلا أنّها تتحسّب للتداعيات إن سمحت لهم باقتحامه والصلاة فيه رسميًّا.

تمكّن الاحتلال من تخفيف “التوتر السائد في القدس”، بناء على نصيحة تلقّاها نتنياهو من وزير الخارجية الأميركي جون كيري والعاهل الأردني عبد الله الثاني في اجتماع في عمان في تشرين ثانٍ/نوفمبر 2014، ومع انتهاء عيد الفطر عاد المشهد في الأقصى إلى ما كان عليه، مع تصعيد في استهداف حراس المسجد وحركة الرباط، وتجدّدت الاقتحامات السياسية مع “ذكرى خراب المعبد” واقتحام عضو الكنيست ووزير الزراعة أوري أريئل الأقصى في 26/7/2015. عقب ذلك تلاحقت الإجراءات الصهيونية التي تستهدف الأقصى، وبات الاحتلال يتصرف بحرية كبيرة في فرض القيود على المصلين، ومنع النساء من دخول المسجد، والتدخل في عمل الأوقاف من خلال محاولات منع الحراس من أداء عملهم وإبعادهم عن الأقصى.

الاحتلال يجرّم حركة الرباط

في 8/9/2015، أصدر وزير الجيش موشيه يعلون قرارًا بتجريم ما أسماه تنظيمي المرابطين والمرابطات، وحلقات مصاطب العلم في المسجد الأقصى واعتبارهم مجموعات إرهابية، وقال مكتب يعلون إن القرار متوافق مع توصية من الشاباك (جهاز الأمن العام) ومع موقف الشرطة، واتهم المرابطين والمرابطات وطلاب حلقات العلم بـ “التورط في تحريض خطير ضد السياح والزائرين والمصلين في جبل المعبد، الأمر الذي يؤدي إلى العنف وتهديد الحياة”. والنقطة اللافتة في بيان المكتب الإشارة إلى أن “هدف المرابطين والمرابطات هو تقويض السيادة الصهيونية على جبل المعبد، وتغيير الواقع والترتيبات الحالية، والإضرار بحرية العبادة”. وقد حاز قرار يعلون موافقة المدعي العام يهودا فينشتاين.

قرار يعلون كان سبقه في 24/8/2015، رسالة من وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال جلعاد أردان أوصى فيها وزير الجيش بإعلان “تنظيمي” المرابطين والمرابطات تنظيمًا غير قانوني. وقال أردان في التوصية إنّ أفراد “هذين التنظيمين يتعقبون زيارات اليهود إلى [الأقصى] ويصرخون بتهور وبعبارات تحريضية، ويحجبون طريق الزوار المؤدي إلى [المسجد]”. وأضاف أنّ هدف الجماعتين هو مضايقة اليهود الراغبين بزيارة المكان من خلال اللجوء إلى العنف والترهيب مؤكدًا أنه يقوم بما في وسعه لوقف نشاطات هاتين “الجماعتين الخطيرتين اللتين تنتهكان التوازن القائم في [الأقصى]”. وقال بيان لوزارة الأمن الداخلي إن الوزير أردان أجرى اتصالات ومشاورات مع الشاباك ومع النيابة العامة والمستشار القضائي للحكومة، وقد أبدوا جميعًا موافقتهم على الاقتراح.

ليس الطرح الذي قدمه أردان بالجديد، ففي تشرين ثانٍ/نوفمبر 2014 كشفت هآرتس أن وزارة الأمن الداخلي وفروعًا أخرى من مؤسسة الدفاع الصهيونية (الشاباك والشرطة الصهيونية) سيتقدمون بمشروع قانون لتجريم المرابطين الذين يمنعون دخول اليهود إلى الأقصى. ووفق هآرتس فقد ناقش وزير الأمن حينها، يتسحاق أهارونوفيتش المشروع مع المدعي العام يهودا فينيشتاين كما قال قائد الشرطة الحنان دانينو في جلسة للجنة الداخلية في الكنيست في 2/10/2014 إنّ الشرطة ومكتب المدعي العام يعملون من أجل وقف الفلسطينيين المتورّطين في تنظيم تظاهرات في الأقصى والاشتباك مع القوى الأمنيّة في المكان. لكن القانون لم يسن، واختار أردان التوجه مباشرة إلى وزير الجيش.

استهداف الرباط عبر الدعوة إلى تجريمه كان سبقه قرار لوزير الأمن الصهيوني السابق أهارونوفيتش في 3/9/2014 بإغلاق مؤسسة عمارة الأقصى في الناصرة في الأراضي المحتلة عام 1948، وهي ذات دور كبير في رعاية برنامج مصاطب العلم ورفد المسجد بالمرابطين، لا سيما في الصباح حيث تزداد الاقتحامات. وقالت الناطقة باسم الجيش تعقيبًا على القرار إن المؤسسة “قامت، بالمشاركة مع حركة حماس في منطقة القدس، بإجراء نشاطات مختلفة في حيز الحرم القدسي سعيًا وراء تعزيز وجود المسلمين بالحرم، إضافة الى مراقبة نشاطات اليهود الزائرين وتحركاتهم في المكان، ومنع السيطرة اليهودية”. وفي 8/9/2014، مدّدت الشرطة أمر إغلاق المؤسسة عامًا كاملاً.

قرارات الإغلاق امتدت إلى عام 2015 حيث أغلق الاحتلال في 13/1/2015 ثلاث جمعيات تابعة للحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وهذه المؤسسات هي رواد الأقصى ومسلمات لأجل الأقصى في القدس، إضافة إلى جمعية الفجر في الناصرة، وذلك بموجب قرار من وزير الجيش يقضي بحظر هذه الجمعيات بتهمة تمويلها ما يسمى “منظمات الإرهاب” ودعم حركة “حماس”. واعتبر قرار الإغلاق أنّ الجمعيات المذكورة أقيمت لتمويل النشاطات المناهضة لزيارة اليهود للمسجد الأقصى وتهديد أمنهم والتّسبب بأعمال إخلال بالنظام العام، والتعاون مع حماس لدعم المرابطين في المسجد.

اقرأ أيضا  عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى

واستهداف الاحتلال لحركة الرباط هو جزء من محاولاته تحييد وعزل كل الأطراف التي يمكن أن تؤثر في “الوضع القائم” في الأقصى، لا سيما إذا عدنا إلى مناسبات سابقة متعددة تمكن فيها المرابطون من حمل الاحتلال على منع الاقتحامات كان أبرزها في عيد الفصح اليهودي في نيسان/أبريل 2014.

منع النساء من دخول الأقصى وفرض قيود على الرجال

عمدت الشرطة الصهيونية منذ 24/8/2015 إلى منع النساء من دخول الأقصى من الساعة السابعة والنصف إلى الحادية عشرة صباحًا، وهو الوقت المتاح لاقتحامات اليهود في الفترة الصباحية بموجب ما يسمى بـ “الوضع القائم”. واستمر المنع إلى 3/9/2015 للنساء كافة بالتزامن مع منع نساء أدرج الاحتلال أسماءهن ضمن “لائحة سوداء” من دخول الأقصى إلى ما بعد انقضاء فترة اقتحامات المستوطنين الثانية، أي بعد الساعة 2:30 ظهرًا. وقد بدأ هذا التصعيد منذ حوالي 4 أسابيع بقائمة ضمت 20 اسمًا ووصلت إلى 45 اسمًا. وتوجت الشرطة ممارساتها ضد المرابطات بمداهمة منازل 5 منهن فجر الخميس 3/9/2015 واعتقلت إكرام غزاوي، وسلمت سماح غزاوي أمر استدعاء للتحقيق فيما سلمت عايدة الصيداوي أمرًا بإبعادها عن الأقصى لمدة شهر، بعد تفتيش منازلهن.

كما فرضت الشرطة على النساء تسليم هوياتهن قبل السماح بدخولهن إلى الأقصى وفرضت عليهن استرجاعها قبل الساعة السابعة والنصف (بدء الاقتحامات) وإلا سيكون عليهن تسلمها من مركز شرطة القشلة، مع ما يعنيه ذلك من احتمال تعرّضهن للتحقيق، وربما التوقيف.

وبالتوازي مع استهداف النساء ومنعهن من دخول الأقصى في الفترة الصباحية، كانت الشرطة تفرض قيودًا على الرجال، فمنعت من هم دون الخامسة والعشرين من دخول المسجد وصادرت بطاقات الهوية العائدة لكبار السن، واشترطت عليهم أيضًا استردادها قبل السابعة والنصف صباحًا لضمان عدم عرقلة الاقتحامات.

… ولموظّفي الأوقاف نصيب من الاعتداءات

بالتوازي مع استهداف الرباط، ركز الاحتلال على موظفي الأوقاف، وبشكل خاص حراس المسجد حيث أصدر أوامر بالتحقيق والإبعاد بحق عدد منهم، كان آخرها في 31/8/2015 مع إصدار أوامر إدارية بإبعاد 6 من موظفي دائرة الأوقاف في المسجد الأقصى عنه لمدة شهرين، والمبعدون هم موظفو دائرة الإعمار حسام سدر وبهاء أبو صبيح وثائر أبو سنينة، بالإضافة إلى الحراس عرفات نجيب وفادي عليان وطارق أبو صبيح. كما كشف الشيخ عمر الكسواني في 27/8/2015 عن توجيه الشرطة الصهيونية تحذيرًا شفويًا إلى حراس الأقصى بوجوب عدم اقترابهم من المقتحمين مسافة تزيد على 15 مترًا.

خذوا أسرارهم من حاخاماتهم

كشف الحاخام يهودا غليك لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” (1/9/2015) عن تفاصيل لقائه مع نتنياهو في 19/8/2015 لمناقشة التطورات في الأقصى وقال غليك إنه في حين لم يعد نتنياهو بحرية صلاة اليهود في الأقصى فإنه اعتبر أن الوضع الحالي الذي يتعرض فيه اليهود للمضايقات من قبل الناشطين والناشطات من المسلمين لا يمكن قبوله وقال غليك إن نتنياهو يدعم وزير أمنه في منع المرابطات من دخول الأقصى في ساعات الزيارة الصباحية. ووفقًا لغليك، فإن نتنياهو قال بوجوب طرد الناشطين المسلمين من المكان كما ناقش معه الارتدادات السياسية قائلاً إن هذا الوضع ينبغي ألا يستمر وإنه ينسق مع مكتب المدعي العام وكل المؤسسات الأمنية لحل القضية.

ويعتبر إبعاد المرابطات عن الأقصى صباحًا من أهم إنجازات غليك وناشطي “المعبد” حيث اعتبر غليك أن هذه قد تكون الخطوة الأولى لتقسيم أوقات الزيارة بين المسلمين واليهود تمهيدًا لصلاة اليهود في المكان. وقال غليك إنه يشعر بأن “ثمة روحًا جديدة ترشد الشرطة فالوزير أردان مختلف عن سلفه أهارونوفيتش، حيث يطلق نشاطات ويفهم الوضع الفوضوي كما أنّه يتفهمنا”، وأضاف غليك أن أردان يريد أن يطور الوضع ولكن ذلك “لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها والشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى التغيير هو زيادة الوجود اليهودي في جبل المعبد، ونحن نحتاج إلى مزيد من الضغط من الحشود التي تصعد إلى المكان ومن السيّاح الشاهدين على الوضع”.

السيناريوهات المحتملة:

بالنظر إلى الإجراءات التي يتخذها الاحتلال والتصعيد في المسجد الأقصى واستهداف حركة الرباط وصولاً إلى تجريمها يمكن الحديث عن 3 سيناريوهات محتملة:

  1. خطوات متلاحقة لتسريع التقسيم وصولاً إلى تشريعه بشكل رسمي في الكنيست، وكانت محاولات في هذا السياق تمت في وقت سابق مع تقديم عضو الكنيست السابق أرييه إلداد (حزب الاتحاد الوطني) اقتراح قانون لتقسيم الأقصى زمنيًا عام 2012، واقتراح تبناه كل من النائبين ميري ريغف (ليكود) وحيليك بار (وهو من حزب العمل، وقد سحب دعمه للاقتراح بعد الانتقادات التي وجهت له) في أيار/مايو 2014.
  2. استمرار الخطوات الصهيونية لجهة استهداف مكونات الأقصى كلها، ولا سيما الرباط، مع ما ينتجه ذلك من تقسيم للأقصى بحكم الأمر الواقع وتثبيت “الوضع القائم” بما يتيح للاحتلال استمرار التحكم بالمسجد وفرض شروطه وقواعد الدخول إليه والصلاة فيه.
  3. تجدد الهبة الشعبية التي اندلعت في القدس واحتمال انطلاقها من الضفة الغربية خصوصًا بالنظر إلى حالة عدم الاستقرار التي تشهدها مدن الضفة وكان آخرها ما حصل في جنين وكذلك التحركات على خلفية إحراق عائلة الدوابشة في دوما بنابلس، مما سيدفع الاحتلال إلى ضبط اعتداءاته على الأقصى على إيقاع الحراك الشعبي.

السيناريو الأرجح:

يعتبر السيناريو الأول وإمكانية اتجاه الاحتلال إلى تشريع التقسيم في الكنيست احتمالًا ضعيفًا لا سيما أن الاحتلال يبدو قادرًا على التحكم بالأقصى من خلال قرارات إدارية من دون الحاجة إلى القوانين، فضلًا عن أن الكلفة السياسية لهذا السيناريو باهظة على حكومة نتنياهو الضعيفة من حيث تكوينها وائتلافها. وهذا السيناريو سيحرج حكومة الاحتلال أمام العالم عمومًا، وأمام الحليف المهم “الأردن” على وجه الخصوص. وسبق أن طلب الأردن توضيحات بشأن مشاريع تقسيم الأقصى التي يسعى بعض أعضاء الكنيست لتشريعها فيه، فكان الرد الصهيوني الرسمي أنه لا نية إسرائيلية رسمية لتغيير “الوضع القائم”.

ويعتبر السيناريو الثالث قابلًا للتحقيق بالنظر إلى هبة المقدسيين بعد إحراق الطفل المقدسيّ محمد أبو خضير وإحراقه في 2/7/2014. ولكنّ تقويمًا سريعًا لهذه الهبة يفيد بأن الاحتلال تمكّن بشكل أو بآخر من استيعابها نسبيًّا من خلال إجراءات أمنية و”تسهيلات” مؤقتة وملاحقة للمرابطين والمرابطات وحراس الأقصى وتقييد حركتهم وإبعادهم واعتقالهم وغير ذلك. كما أن أسبابًا موضوعية لها علاقة بطبيعة ومقومات صمود المجتمع المقدسي أدت إلى تراجع الهبة الشعبية عمّا كانت عليه في الأشهر الأولى لاندلاعها. ويبقى العامل المهم المتمثل بالغياب الواضح لفصائل وقوى المقاومة الفلسطينية عن الانخراط في صلب هذه الهبة تخطيطًا وتنظيمًا وتنفيذًا، والغياب القسري لحاضنة القدس البشرية المتمثلة بالضفة الغربية بسبب الاحتلال والتنسيق الأمني من قبل السلطة الفلسطينية معه، سببًا وجيهًا يدفعنا للترجيح بأن الهبة الشعبية في القدس قابلة للاستمرار على الوتيرة السابقة نفسها، ولكن حظوظ توسعها بما يتناسب مع حجم الاعتداءات على القدس والأقصى تبقى محدودة في ظل استفراد الاحتلال بما أسماه “الذئب الوحيد” أي شباب القدس الثائرين.

اقرأ أيضا  منظمة التعاون الإسلامي تدعو إلى منع وتجريم كافة أشكال العنف ضد المرأة

وأما السيناريو الثاني المتمثل في تكريس هذا الواقع فهو الأرجح، فالاحتلال ماضٍ قدمًا في “تحقيق المكاسب” في ما يتعلق بالأقصى على أكثر من صعيد، وإجراءاته على الأرض خير دليل على عزمه فرض تقسيم الأقصى زمانيًّا ولكن بأقل ضجة ممكنة حتى يتفادى الخسائر والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن هذه الخطوة.

ويبقى ترجيح هذا السيناريو أو ذاك مرتبطًا بتعاطي الأطراف المؤثّرة في مسار الأحداث، وكيفية تفاعلها مع الاعتداءات الصهيونية المتصاعدة على المسجد والمواقف التي يمكن أن تتخذها والسقف الذي ستلزم نفسها به، وأهم هذه الأطراف هي الأردن لما لها من وصاية على المقدسات، ولا سيما الأقصى، والمقدسيون وفلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك المقاومة الفلسطينية بما لها من قدرة على إيلام الاحتلال ولجم جموحه، بالإضافة إلى الطرف الصهيوني ذاته ولا سيما تجاوبه مع “منظمات المعبد” التي قطعت شوطًا بعيدًا في جعل مطالبها ضمن الاهتمامات المتقدّمة للمستوى الرسمي في  الكيان الصهيوني.

 الأردن:

ينطلق الأردن في “الدفاع” عن الأقصى من مبدأ تثبيت “الوضع القائم” في المسجد بما يعنيه ذلك من اقتحامات تنظمها سلطات الاحتلال بما يجعل وصاية الأردن على المسجد صورية فيما التحكم بالمسجد هو عملي ا بيد الاحتلال. ويتجلى الأمر بوضوح من خلال تصريحات للمسؤولين الأردنيين من بينها تصريح في 26/8/2015 لوزير الإعلام الأردني محمد المومني حذّر فيه من تغيير “الوضع القائم” في الأقصى مشدد ا على ضرورة التقيد بما توصل إليه الاجتماع الثلاثي في عمان في تشرين ثان/نوفمبر 2014 والذي ضم كلاً من العاهل الأردني، ووزير الخارجية الأميركية جون كيري، ورئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو وأكد الحاجة إلى الالتزام بالوضع القائم في الأقصى واحترام الوصاية الهاشمية على المقدسات، كما أكّد ضرورة لجم “التوتر” في القدس بعد اندلاع الهبة الشعبية. وفي موازاة ذلك تصريحات حول مواصلة الأردن دوره لحماية المقدسات بموجب الوصاية الهاشمية صدرت عن ملك الأردن في 30/8/2015 بعد لقائه الرئيس محمود عباس في عمان.

ولم تشكل الاعتداءات المباشرة على موظفي الأوقاف أي دافع للأردن لرفع سقف موقفه، فقد عبر وزير الأوقاف الأردني هايل داود في 31/8/2015 عن رفض الأردن الإجراءات الصهيونية في الأقصى، وربط الوزير الخطوة الأردنية التالية بالرد الصهيوني على رسائل بهذا المعنى أرسلت إلى الجانب الصهيوني عبر قنوات مختلفة منها السّفير الأردني في “تل أبيب”، مع التأكيد أن الأردن “سيقف بجانب المرابطين والموظفين التابعين له، ولن يتوانى عن اتخاذ الإجراءات كافة التي تضمن حقوقهم”.

وبينما كانت السلطات الصهيونية تستدعي موظفي الأوقاف وتحقق معهم وتصدر أحكامًا بمنعهم من دخول الأقصى تم الكشف عن قرار أردني في أوائل آب/أغسطس 2015 بفصل 3 من موظفي الأوقاف ضمن خطوة نفى وزير الأوقاف الأردني هايل داود أن يكون لها أي خلفيات أمنية معتبرًا أنها تأتي في سياق عدم الرضا عن أداء الحراس خلال مدة التجربة التي تسبق التثبيت. لكن توقيت الخطوة في الوقت الذي تستهدف فيه سلطات الاحتلال الأقصى بكل مكوناته لا يمكن عزلها عن الأخبار المتداولة حول تنسيق بين الأردن و الكيان الصهيوني لضبط الوضع الأمني في الأقصى، لا سيما وأن الحراس المفصولين كانوا ممن تصدوا للاقتحامات، وفي هذا السياق تواردت أنباء عن تأكيد حرّاس الأقصى اتجاه الأردن إلى طرد 30 حارسًا آخر ممن تتهمهم سلطات الاحتلال بالتصدي لاقتحامات اليهود.

وفي خطوة توّج بها الأردن انفصاله عما يقوم به الاحتلال من اعتداءات في الأقصى، تسلم الملك الأردني أوراق اعتماد السفيرة الصهيونية الجديدة في 7/9/2015 ليُكشف في 9/9/2015 عن توقيع وزير الجيش موشيه يعلون في 8/9/2015 على قرار يقضي باعتبار المرابطين والمرابطات “تنظيمين إرهابيين” خارجين عن القانون. وعلى الرغم من صدور القرار فإنّ الأردن يتعامل مع ذلك بكثير من التبسيط حيث تبع قرار يعلون تصريحٌ من وزير الأوقاف الأردني يعلن فيه أنّ الحكومة الأردنية لن تسمح للسلطة الصهيونية القائمة بالاحتلال بالتدخل في المسجد الأقصى، مع إعلان رفض الحديث بمسألة السيادة على الأقصى حيث “ستتدخل الدولة الأردنية في حال صدور أي قرار صهيوني بهذا الشأن لأن الأقصى حق إسلامي لا يحق لأحد التدخل في شؤونه أو في شؤون العاملين فيه”.

إن الموقف الأردني الذي لا يزال يتعاطى مع الاعتداءات الصهيونية على الأقصى كخطر بعيد التحقق يجعل السيناريو الثاني هو الأرجح، كما يعطي مجالًا للسيناريو الأول إن اختار الاحتلال سلوك طريق الكنيست والتشريع. كما أن الأردن لن يكون عاملًا رافعًا لأي حراك شعبي في حال اندلاعه في القدس المحتلة استنادًا إلى موقفه السابق من الحراك الذي اندلع في القدس عام 2014 وسعيه إلى التعاون مع الاحتلال لإخماد التحركات بدلاً من الـتأسيس عليها لفرض قواعد جديدة في المسجد الأقصى. ومن الواضح أن الأردن متماهٍ مع ما يسمى الوضع القائم في الأقصى ويتعاطى مع الاقتحامات كأمر مسلّم به وواجب التحقق.

المقدسيون وأهالي الأراضي المحتلة عام 1948:

إنّ المقدسيّين وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 هم خط الدفاع الأول عن المسجد الأقصى، وهم الشريان الذي يغذي حركة الرباط التي تعتبر بدورها من أهم وسائل الدفاع عن الأقصى في وجه مخططات التهويد والتقسيم. ولا شك في أن الممارسات الصهيونية الحالية تهدف إلى خلق حالة من الملل واليأس بين صفوف المرابطين والمرابطات وبث شعور بينهم بالعجز عن حماية الأقصى، وهو الأمر الذي تراهن عليه سلطات الاحتلال لتمرير مخططاتها بعد أن تخترق خط الدفاع الأول عن الأقصى وتقوّضه، فإن نجحت في ذلك وانفض أهل الرباط عن مسجدهم فإن ذلك يجعل السيناريو الثاني هو الأرجح أما صمودهم وتحديهم لإجراءات الاحتلال فسيشكل حالة من الحراك أو المقاومة التي ستعرقل مخططات الاحتلال، الأمر الذي يجعل السيناريو الثالث هو الأقرب إلى التحقق.

اقرأ أيضا  اقتحام 112 مستوطناً للمسجد الأقصى

المقاومة الفلسطينية:

تتميّز المقاومة الفلسطينية بقدرتها على قلب الموازين والحسابات بشكل كبير، والمقاومة تملك من أوراق الضغط ما يجعلها قادرة على إيلام الاحتلال، وهو الأمر الذي كان واضحًا خلال العدوان على غزة، وكذلك حالة الاستنفار التي أعلنتها المقاومة دعمًا للأسيرين المعتقلين إداريًا خضر عدنان ومحمد علان عند خوضهما إضرابًا عن الطعام. وعلى الرغم من تقييد المقاومة في الضفة الغربية إلا أنها لا تزال قادرة على الالتفاف على هذا التضييق كما أن فضاء العمل في غزة، وهي واقعة تحت الحصار، لا يزال أوسع خاصة في المستوى التعبوي والجماهيري، ما يمكنها من الاستفادة من هذا الهامش للمناورة. ولا شك في أن اللغة التي ستتبناها المقاومة والسقف الذي تختاره، انخفض هذا السقف أو علا، سيساهم في تحديد الخطوات اللاحقة التي ستعتمدها الحكومة الصهيونية،مما يعطي أرجحية للسيناريو الثاني واستمرار عملية التقسيم ضمن سياسة الأمر الواقع إن تبنت المقاومة خطابًا تطغى عليه لغة التهديد التي لا تبدو مقترنة بتحرك جاد على الأرض أما في حال اعتماد خطاب جاد واضح المعالم والمرتكزات فإن ذلك سيكون جزءًا من الضغط على الاحتلال لوقف تصعيده ومحاولته إسقاط تجربة المسجد الإبراهيمي على الأقصى وتكرارها. وفي هذا السياق فإن أي ظهور منظم ونشاط متواصل ومتصاعد لفصائل المقاومة في القدس سيدفع الاحتلال للتوجس من الضريبة الأمنية التي سيتكبدها، ويدفعه للتراجع عن تفجير الأوضاع الذي يقع الأقصى في صميم عناصره؛ وبذلك يتصدر سيناريو الهبة الشعبية سلّم التطورات في القدس والأقصى.

الأحزاب والمنظمات العربية والإسلامية والعلماء ووسائل الإعلام:

رصد التفاعل مع الأقصى يشير بشكل واضح إلى خسارة الرهان على الموقف الرسمي العربي والإسلامي لتغيير مسار الأحداث باتجاه مصلحة الأقصى. ولكنه يشير أيضًا إلى أن موجة التفاعل مع الأقصى متى كانت كبيرة فإن الاحتلال يحسب لها حسابًا كبيرًا. وسبق أن تحركت جموعٌ من الأحزاب والقوى والمنظمات العربية والإسلامية مشفوعة بتعبئة من العلماء الذين يبرز دورهم المؤثر في قضية كالأقصى، ومدعومة بتغطية إعلامية واسعة ومستمرة، وأدى ذلك إلى دفع الاحتلال إلى التراجع عن مخططاته، ولنا في تفاعل هذه الأطراف مع محاولة الاحتلال هدم طريق باب المغاربة في شباط/فبراير 2007 أوضح دليل ومثل حين اضطرّ الاحتلال للرضوخ أمام موجات الغضب وتركيز الإعلام على جرائم الاحتلال بحق الأقصى. إن الرهان على تحرك هذه الجهات رابح في حال قررت فعلًا أن تتحرك، ويمكن أن يتحول تحركها إلى عامل مؤثر في ترجيح السيناريوهات.

السلطة الفلسطينية:

تعيش السلطة الفلسطينية حالة من التخبط في أزماتها الداخلية مع محاولة إعادة تشكيل نفسها بما يتلاءم مع الاتجاه إلى مهادنة الاحتلال وفق قواعده وشروطه، وهي مع كل انتهاكات الاحتلال لم تتخلّ عن التنسيق الأمني مع السلطات الصهيونية وتفوّقت في بعض المناسبات على الاحتلال نفسه في الانقضاض على الفلسطينيين. وفي ظل هذا الواقع فإن السلطة لا تبدو قادرة على مواجهة الاعتداءات على الأقصى التي تصاعدت بشكل ملحوظ في شهر آب/أغسطس 2015 وتلخصت مواقفها في تصريحات من أحمد الرويضي، مستشار الرئيس الفلسطيني لشؤون القدس، حذر فيها من أنّ إجراءات الشرطة في الأقصى “تعكس رغبتها في حسم التقسيم الزماني تمهيدًا للتقسيم المكاني”. كما أبلغت السلطة في 3/9/2015 أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى دولة فلسطين أن “إسرائيل” بدأت فعليًا بتقسيم الأقصى زمانيًا بين المسلمين واليهود، مطالبة بتدخل دولي عاجل وفاعل “لوقف فتيل الانفجار”. وقد ذكرت وسائل إعلامية على ألسنة مسؤولين صهاينة وفلسطينيين عقب اندلاع الهبة الشعبية عزم السلطة على منع تمدد هذه الهبة نحو مدن الضفة الغربية، واستغلال تأثير” السلطة في القدس لتنفيس الشارع المقدسي ووأد هبته.

إن تأثير السلطة في تبلور أي من السيناريوهات قد يكون محدودًا إلا أنّ وقف التنسيق مع الاحتلال والوقوف وراء فلسطينيي الضفة عوضًا عن الانقضاض على أي احتمال لمواجهة الاحتلال من شأنه أن يهيّئ الأرضية لانطلاق هبّة من الضفة الغربية تتواصل فيها مدن الضفة، بما فيها القدس، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعطي دفعة لتحقيق السيناريو الثالث الذي سيعطّل مخططات الاحتلال وهجمته على الأقصى.

الموقف الصهيوني:

يبدو من تصريح الحاخام غليك بعد لقائه نتنياهو أن رئيس الحكومة غير راضٍ عن “الوضع القائم” الذي يحرم بموجبه اليهود من “حقهم” بالصلاة في الأقصى، وهو معني بإيصال رسائل إيجابية إلى “منظمات المعبد” بأن الدولة معنية بتأمين هذا الحق، لكن ضمن ما هو متاح وما يمكن أن يقبل به اللاعبون الدوليون والدول العربية والإسلامية وبما لا يثير قلاقل أمنية. وتشير التحركات الأخيرة على مستوى وزير الجيش، ضمن التنسيق مع الشرطة والشاباك ومدعي عام الحكومة، لجهة استهداف نساء الأقصى، وتجريم المرابطين والمرابطات إلى محاولات تكريس التقسيم والسيادة الصهيونية على الأقصى، وهو الأمر الذي يجعل السيناريو الثاني أكثر ترجيحًا. ولا شك في أن العوامل السابقة هي من أكثر ما يؤثر في الموقف الصهيوني، بالإضافة إلى عوامل إسرائيلية داخلية.

تشكل هذه الأطراف عوامل أساسية للتأثير في مسار الأحداث والسيناريوهات المحتملة، ولكنّ ذلك لا يعني أنها هي وحدها من يحدد مستقبل الأقصى والسلوك الصهيوني تجاهه، فهناك عوامل أخرى تؤثر ولكن بمستوى أقل كموقف جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والمغرب والسعودية وتركيا ومصر ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي…إلخ. ويتعزز تأثير هذه الجهات لو تضافرت في ما بينها.

المصدر : البيان

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.