المفاتن الدنيوية وأثرها على النفس في القرآن الكريم

الخميس 20 شوال 1436//5 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
عبدالعزيز سالم شامان الرويلي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد:
تعريف الفتنة في اللغة والاصطلاح:
الفتنة في اللغة: مصدر كالفتن والفتون، وكل ذلك مأخوذ من مادة ((فتن)) التي تدل على الابتلاء والاختبار، يُقال: فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته[1].

أما الفتنة في الاصطلاح: فقد عرفها الجرجاني بقوله: ((الفتنة: هي ما يُبيَّن به حال الإنسان في الخير والشر))[2]، وقال المناوي: ((الفتنة : البلية وهي معاملة تُظهر الأمور الباطنة))[3].

وقد خلق الله تعالى الدنيا وخلق فيها الإنسان، وجعل فيها من الفتن والمغريات الكثيرة ليمتحن الإنسان ويبتليه، فإما أن يسلك طريق الشهوات والفتن ويتبع خطوات الشيطان خطوة تلو خطوة وهو مسلوب الهمة، فليس له همٌ إلا اتباع رغباته، وإما أن يتحدى نفسه، ويغلب نفسه الأمارة بالسوء، والله -سبحانه وتعالى- قد بين في كتابه العزيز أن الدنيا بما فيها ما هي إلا فتنة، قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28]، فالله تعالى في هذه الآية يقول للمؤمنين: اعلموا أن أموالكم وأولادكم التي خولكموها الله تعالى ما هي إلا اختبار وبلاء، أعطاكموها، ليمتحنكم ويبتليكم لينظر كيف أنتم عاملون في أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمر الله ونهيه فيها، والفتنة هنا هي الاختبار والامتحان[4]، والسبب في ذلك كما ذكر أبو السعود في تفسيره أنها سبب في الوقوع في الإثم والعقاب، أو محنة من محن الله تعالى، ويكون الأجر العظيم لمن آثر رضا الله تعالى عليها وراعى حدوده فيهما فنيطوا[5] همتكم مما يؤدكم إليه[6].

وقد بين الله تعالى لعبادة المفاتن الدنيوية وحذر من الاشتغال بها في خطابات قرآنية كثيرة، وقد أجملها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].

فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذه المصالح الدنيوية في حب المال والأولاد وغيرها من المفاتن، إن كانت أولى من طاعة الله ورسوله، وطغى هذا الحب على حب الله ورسوله فتربصوا مما يحبونه حتى يأمر الله بعقوبة عاجلة وآجلة لهم [7].

وكل هذه المفاتن تجرد العبد من همته إن اتبعها، وإن سار خلفها، فالدنيا ما هي إلا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، فهذه هي الحياة الدنيا، وهذه هي مفرداتها وجميعها تصرف الإنسان عن المبادرة إلى الخيرات والاتصاف بعلو الهمة.

اقرأ أيضا  ميليشيات الحوثي تحرق عددا كبيرا من المصاحف

واللعب: هو اسم لقول أو فعل لا يقصد به فاعله تحصيل النفع أو دفع ضرر، وغالباً ما يطلق على أفعال الصغار والصبيان في مرحلة الطفولة، وغير ذلك.

أما اللهو: فهو الفعل الذي يقصد به جلب المتعة ودفع المفسدة، ويتضمن ذلك كل ما يحقق المتعة للإنسان من لعب وطرب وغيره[8].

يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: ((اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل، ولهو فرح، ثم ينقضي، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على مالا ينبغي))[9].

ويقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب … ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباته الكفار، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا جاءها من أمر الله ما أتلفها فهاجت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها مرأى أنيق، كذلك الدنيا … فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ ﴾ أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور)) [10].

فانظر إلى ما قاله المفسرون -رحمهم الله- عن هذه المفاتن الدنيوية بالعموم وأنها لعب ولهو وفرح سوف ينقضي.

وفيما يلي ذكرٌ لأهم المفاتن الدنيوية بشيء من التفصيل:
أولاً: حب الدنيا[11]:
إن من ظواهر خلق علو الهمة الترفع عن محقرات الأمور وصغائرها، وطلب معالي الأمور وكمالاتها، فالتعلق بسفاسف الأمور من دناءة النفس وانحطاط همتها، لا يفعله كبار القلوب والنفوس؛ لأن هؤلاء تكون نظراتهم آخذة في طريق صاعد، ومنطلقة إلى آفاق المعالي.

يقول تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16] ، أي: أن الله تعالى توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها، فهؤلاء الذين يريدون الحياة الدنيا، مستمرون على إرادتها بأعمالهم ولا يكادون يريدون الآخرة، لأنهم جردوا هممهم ومقصدهم إلى الدنيا، ولم يعملوا للآخرة[12].

قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: ((المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))[13] فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة ولهذا جزم بالجواب فقال: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ [14].

اقرأ أيضا  أفلا يتدبرون القرآن

ويقول ابن كثير: ((فلا يقتَصِرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة))[15].

فالآية تشير إلى أن الانغماس في حب الدنيا وشهواتها يؤدي إلى صرف المرء عن علو الهمة والمسارعة للخيرات، ويؤدي إلى إحباط العمل والخسران في الآخرة؛ ذلك لأن دنياه هي جل همه واهتمامه.

فالدنيا بمغرياتها وشهواتها ومفاتنها وملذاتها إذا أقبل عليها العبد إقبالاً لا ضابط له قطعت عليه الطريق إلى الله وإلى رضاه -سبحانه وتعالى- وأصبح دني الهمة لا يفكر إلا فيها.

يقول السعدي في تفسير هذه الآيات: ((أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا، فهذا لا يكون إلا كافرا، لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة))[16].

هذه هي الدنيا فمن أحبها، وشغف بها، واستراح إليها، وسعى لها سعيها ضر نفسه، وضعف إيـمانه، ودنت همته، فتراه يمشي وراءها، ويدفع الغالي والنفيس لكي يحصل عليها، وكل ذلك حتى لا يفقدها، معتقداً في قرارة نفسه أنها هي الباقية، ولكنه في النهاية يكتشف قبح فعله، فهو قد آثر الرخيص على الغالي، وباع الكنوز بأبخس الأثمان.

فتباين موقف الناس في الحياة الدنيا، فمن منكب عليها ولهث وراء ملذاتها وشهواتها والنتيجة دنو همته، وانشغاله بسفاسف الأمور، ومن منصرف عنها زاهد فيها، لا يقيم لها وزناً ولا يلقي لها بالاً، وهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، فعلت همته وانشغل بمعالي الأمور، وأصبح لا يفكر إلا بالوصول إلى السمو والرقي في هذه الحياة الدنيا؛ في الدين أولاً ثم في الدنيا.

والمتأمل في حديث القرآن عن الدنيا يجد أن القرآن قد تضمن عدداً من الآيات تبلغ نحو خمس وعشرين آية تحذر العبد المؤمن من مغريات الدنيا وتصفها بأنها متاع الغرور.

ومن الآيات التي تبين حقيقة الدنيا قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]، فالحياة في حقيقتها ـ بحسب المثل القرآني ـ أشبه بالدورة الزراعية، تبدأ بقطرات من الماء، ثم تنتهي بالهشيم من الزرع، الذي تطير به الرياح، فتذروه هنا وهناك، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

اقرأ أيضا  الإعجاز العددي في القرآن الكريم

يقول السعدي: ((قوله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أصلا ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، … وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابه وقوته وماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدِّري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه))[17].

ويقول تعالى ـ مبيناً دنو همة من سعى وراءها، وأهتم بها ـ: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29].

يقول أبو السعود في تفسير هذه الآية: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ أي عنْهم، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتوسلِ بهِ، أي وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القُرآنُ المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرة وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها : ﴿ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ راضياً بها قاصراً نظرَهُ عليها، والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه فإنَّ من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عناداً وإصراراً على الباطلِ))[18].

وال