حصار قطر.. ماذا وراء المطالب البائسة؟!

نبيل الفولي

كاتب وباحث مصري

 

حجم اللامعقول في مواجهة خصوم الربيع العربي له جاء ضخما جدا، وفي مقابِله بدا المعقول ظاهرا وواضحا في دعم هذا الربيع الساعي إلى تغيير أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في العالم العربي، واستعادة الوظيفة الدولية والإقليمية للعرب.

القانون الدولي والعرف
وفي اتساع أكثر للامعقول العربي؛ جاء الحصار الرباعي لدولة قطر مفتقرا إلى المنطق السياسي المعهود في سلوك الدول، فالمعروف أن الدول تتلاقى أو تتقاطع مصالحها بشتى أنواعها (سياسية واقتصادية واجتماعية)، والقرار الأَولى في حال الخلاف بينها هو ما يضمن مصالح كل الأطراف.

ولا يُلجأ إلى العلاجات الجراحية -التي يتحمل فيها الطرفان (الفاعل والمنفعل) ضريبة ما- إلا عند انعدام الفرص أمام الحل الآخر؛ هذا إن كانت المطالب معقولة، والطرف الذي تُوَجه الإجراءات ضده وقف بالفعل مواقف غير مسؤولة.

والحقيقة أنه ليس هناك وضع عربي مثالي ولا شبه مثالي يسمح لنا بالعثور على طرف عربي تخلو سياساته من ثغرات، لكن ثمة فرق بين أن تكون السياسات كلها أو كثير منها عبارة عن ثغرات ومواقف ضارة، وأن تلجأ الدولة -تحت ضغط حجمها أو موقعها أو حساب التوازنات أو غياب دور الإقليم- إلى مواقف تعالج بها علاقاتها بالآخرين.

ومن هنا زادت المساحات التي يغيب عنها المنطق واللامعقول في السلوك العربي المحاصِر في الأزمة الخليجية الحالية، حيث أُعلنت المقاطعة في البداية عبر الإعلام والكلام الشفوي، حتى اشتكت الدبلوماسية القطرية قرابة ثلاثة أسابيع من أنها لم تتسلم مطالب محددة يمكنها أن تتفاوض حولها.

وفي اتساع أقصى للامعقول واللامنطق السياسي والتفاوضي؛ جاءت المطالب في “ورقة” تحمل ما يمكن وصفه بدون مبالغة بـ”الإملاءات”، وهي أشبه بشروط المحاربين المنتصرين منها ببنود تفاوض لدول مستقلة مع دولة أخرى لها استقلالها وقرارها.

وتتلخص هذه المطالب في إسكات صوت الإعلام الحر المدعوم قطريا وفي مقدمته مؤسسة “الجزيرة” عملاق الإعلام العربي، وإلغاء الاتفاقيات العسكرية القطرية مع تركيا، وتقليص العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية القطرية مع  إيران، والتوقف عن دعم الجماعات الإرهابية بدون تفريق بين من ينطبق عليه هذا الوصف، ومن يمارس المعارضة السياسية بوسائل لم يجرِّمها عاقل ولا منصف.

إنالأزمات الدولية -أعني التي تقع بين الدول وإن كانت متجاورة في إقليم جغرافي واحد- يحكمها أحد أمرين: القانون الدولي، أو العرف الذي تسير عليه الجماعة البشرية في منطقة الأزمة.

ولا أحد ينكر أن العرف له دوره -حتى سياسيا- في الربط بين دول عربية كثيرة، ويزداد هذا في أجزاء معينة من العالم العربي، مثل دول الخليج العربي معا، ومصر والسودان معا، ودول المغرب العربي كذلك، إلا أن العرف في هذه الحال يُنتَظر أن تكون وظيفته إيجابية تقرّب وجهات النظر، وتجمع الأطراف التي تباينت رؤاها، لا نقيض هذا.

اقرأ أيضا  تجدد المواعظ والعبر... مما استجد بين السعودية وقطر

وليس من التجني أن نقول: إن التوظيف السلبي للعرف غلب في موقف الحصار القائم على قطر، حيث صارت خصوصية العلاقات دافعا إلى مزيد من التحامل، والنظر إلى الشقيق على أنه صغير، ويجب أن يبقى هكذا وأن يخضع لآراء الكبار وإجماعهم، وإلا فإن للوسائل العنيفة ألف مسوِّغ، وقد أطلقها الشاعر القطامي قديما فقال:
وأحياناً على بكرٍ أخينا ** إذا ما لم نجد إلا أخانا!!

وإذا كان العرف قد تجلى من قبل واضحا في خصوصية العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي التي كادت تلغي الحدود السياسية أمام مواطنيها؛ فإنه هذه المرة لم ينظر إلى قداسة المواسم والمناسبات التي تمر بالناس، ولم يراع حساسية وضع الدول الشقيقة في ظل سياسة دولية تعمل لصالح كل أحد إلا العرب.

وحين لا تبقى للعرف مكانة أو قدرة على حل المشكلات العالقة بين الدول، فالحاكم بين الأشقاء -وغيرهم كذلك- هو القانون الدولي؛ كما جرى من قبل في الخلاف الحدودي بين قطر والبحرين، حين حكمت فيه محكمة العدل الدولية بما رضيه الطرفان وسكّن الخلافات بينهما.

سقف مطالب المحاصِرين
لا يختلف اثنان على أن سقف المطالب التي تقدمت بها دول الحصار إلى قطر في هذه الأزمة عالٍ جدا، وفي تعليق على هذا ذهب بعض المتابعين إلى أن الطرف المحاصِر لا يريد حل النزاع، بل يلجأ إلى سياسة التركيع بدلا من التفاهم. ونتساءل: ما السبب في هذا السلوك المريب أصلا؟

بدا لي أولَ الأمر أن الاتباع الحرفي لنصائح المختصين في التفاوض السياسي برفع سقف المطالب عند التفاوض أكثر مما تريده حتى تحقق ما تريده، هو سبب المبالغة في المطلوب من قطر فعله في هذه الأزمة.

إذ تبدو بعض المطالب المقدمة غير ذات معنى في سياقها أصلا، مثل انتقاد العلاقات الإيرانية القطرية في حين تقيم الإمارات مع طهران علاقات اقتصادية وسياسية -بل استخباراتية واجتماعية- أعمق بكثير، ومثل اتهام قطر بدعم تنظيم الدولة الإسلامية في حين أن أغلب طائرات التحالف التي تضرب التنظيم تنطلق من “قاعدة العديد” الأميركية في قطر، ومن هنا نفهم أن الغرض من وضع هذه المطالب هو مزاحمتها للمطالب الأخرى؛ للحصول ولو على الحد الأدنى من الشروط الأخرى.

اقرأ أيضا  حديث إنما الأعمال بالنيات

والحقيقة أن هذا التفسير لو صح لكان مدرسة بائسة في فهم التفاوض وتطبيقه؛ لأنها:

– أولا شروط ومطالب أكثرها تعجيزي، ولا تقبل به دولة ذات سيادة، والمفاوض يجب أن يقدم ما تمكن مناقشته والحوار حوله.

– ثانيا جاءت هذه المطالب بعد إلحاح قطري وغربي، وهذا يعني أن مقدميها لم يكن في نيتهم تقديمها أصلا، مع قناعتهم التامة بأن الخلاف يجب أن يبقى مشتعلا.

– ثالثا جاءت المطالب متأخرة زمنيا، بحيث سمحت للطرف المفاوَض بأن يأخذ احتياطه، ويعالج الآثار السلبية الرئيسية الناتجة عن الحصار، فالتلكؤ في تقديم المطالب أعطى للدبلوماسية القطرية فرصتها الذهبية، بحيث تنشط في مساحات واسعة تركتها دول الحصار تلعب فيها وحدها تقريبا.

كما خدم هذا التأخر الطرفَ القطري في تقديم خطاب إعلامي مخاصم ولكنه نظيف بدرجة كبيرة، وهو ما افتقر إليه الطرف المحاصِر الذي ملأ إعلامه بخطاب تشهيري يزيد في إشعال الحريق.

ومن هنا وجب أن نبحث عن تفسير آخر لشروط دول الحصار التي طالبت قطر بالالتزام بها وإلا فستكون القطيعة أبدا، بعيدا عن أن يكون هذا ممارسة محترفة لفن التفاوض السياسي.

وفي هذا الصدد تردد في بعض التحليلات أن الهدف الحقيقي من الحملة على قطر هو تمرير بعض التغييرات السياسية في بعض دول الحصار، وقد يكون هذا منطقيا بدرجة ما، إلا أنه يفرض أن تتجه الأزمة إلى التهدئة بعد تمرير هذه التغييرات، وهو ما لم يحدث قط.

الإنذار بالطلاق
وفي محاولة البحث عن تعليل آخر لقائمة المطالب العربية الرباعية من قطر، نلاحظ أنها جاءت مصحوبة بإنذار بالتطبيق خلال عشرة أيام أو اعتبارها ملغاة؛ إضافة إلى معطى آخر مهم، وهو أن الأطراف العربية المحاصِرة هددت قطر إذا لم تلتزم بهذه الشروط بالمقاطعة أو “الطلاق”!

فقد كتب وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي -في تغريدة له على تويتر- بأن “الشقيق (قطر) كان من الأعقل أن يتعامل مع مطالب ومشاغل جيرانه بجدية، دون ذلك فالطلاق واقع”. كما صرح مصدر آخر قائلا: إننا لن نصعِّد مع قطر إذا لم تستجب لمطالبنا، ولكن سنبقي على مقاطعتها.

وهذا في جملته يضع قطر أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول، التماهي مع السياسات العربية التي تتبناها دول الحصار في المنطقة بالاستجابة للمطالب المطروحة، وتَمثل هذا صراحة في اشتراط “أن تلتزم قطر بأن تكون دولة منسجمة مع محيطها الخليجي والعربي على كافة الأصعدة بما يضمن الأمن القومي الخليجي والعربي”، وبقية البنود هي تفصيل وشرح لهذه العبارة لا أكثر.

اقرأ أيضا  السكر يرفع ضغط الدم وليس الملح فقط

الثاني، عزل قطر عن محيطها الخليجي واعتبارها “دولة منبوذة”؛ حتى يتحرك هذا المحيط في قضايا المنطقة بصورة أكثر انسجاما، وحتى دون حاجة إلى مجلس التعاون الخليجي واجتماعاته.

وقدّرت أطراف الحصار أن قطر ستتجه مكرهة -تحت وطأة الحصار- إلى إيران بحكم الجغرافيا، وهنا يمكن ضمهما معا باعتبارهما دولا منبوذة ترعى الإرهاب، وتتسبب في قلاقل بالمنطقة. إلا أن الدبلوماسية القطرية وظفت التاريخ أكثر من الجغرافيا، وقدمت تركيا حليفا إستراتيجياً لها وسط بيئة سياسية قلقة، وتبدو بسلوكها ومواقفها معادية أكثر مما تبدو صديقة.

وقد يعني هذا الموقف من قطر وفاة فعلية لمجلس التعاون أو تجميدا له، وهو أمر لم يعد يهم أحدا تقريبا، بل الأهم -كما هو الهدف من فرض الحصار حسبما تثبت المعطيات السابقة وغيرها- هو إحلال تشكيل سياسي آخر محل مجلس التعاون أوسع جغرافياً، ويعادي نمو القوى الشعبية والتوجهَ نحو الديمقراطية واستقلال المواقف السياسية العربية، ويشمل كل المتفقين مع أجندة دول الحصار، وتبدو آثاره على الخريطة السياسية للمنطقة دون أن نرى بوضوح حركته الجماعية، ولا كل أعضائه وما يجري بينهم من تنسيق.

وقد يقال إن التشكيل الإقليمي أو الحلف المشار إليه ليس جديدا، بل هو موجود بالفعل، ويعمل منذ سنوات في مواجهة موجة التغييرات التي اجتاحت بعض الأقطار العربية منذ بداية هذا العقد، فما الجديد؟

الجديد هو أن الهيئات السياسية الجماعية في المنطقة؛ مثل: مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، قد تعطلت وظائفها، وصار الفاعل الوحيد تقريبا في سياسات المنطقة هو هذا الحلف الإقليمي الذي وأد الربيع العربي أو يكاد، وقد تطورت وظيفته الآن بحيث أصبح مطلوبا منه إعادة ترتيب المنطقة برمتها بعد العواصف التي جرت، وهذا يفرض عليه احتواء أو نبذ الدول غير المنسجمة مع المهمة الجديدة.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.