رحلة في إدراك طرف من إعجاز القرآن

AlQuran

AlQuranالأحد،3شعبان 1435الموافق1 حزيران/يونيو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى
رحلة في إدراك طرف من إعجاز القرآن
لا يختلفُ اثنان من أهل الإسلام أن القرآنَ الكريم هو كلامُ الله المعجِز، كيف لا وقد تحدَّى المولى سبحانه جميعَ خلقه أن يأتوا بسورة مثله؟! قال تعالى: ﴿ أم يقولونَ افتَراهُ قُل فَأتُوا بسُورَةٍ مِثلِهِ وَادْعُوا مَنِ استَطَعتُم مِنْ دُونِ اللهِ إن كنتُم صادِقِين ﴾ [يونس: 38].
ولقد كانت أهمَّتني قضيَّة الإعجاز البيانيِّ في بواكير صباي، وأرَّقني شأنُها زمنًا، ومضَيت أتلمَّس صراطًا لاحبًا يبلِّغُني مَقصِدي، ويوقفُني على ما ترنو إليه نفسي؛ من إدراك جوهر الإعجاز وتذوُّقه، ومعرفة كُنهِه وحقيقته.
كنت أقرأ القرآن الكريم وأرتِّل آياته فأستشعر – كما يستشعر سواي – أنه نمطٌ خاصٌّ من الكلام متفرِّد في نظمه ونسَقه وأسلوبه، غير أني كنت أُجيل النظرَ في مسألة الإعجاز خاصَّة، وفي آيات التحدِّي عن الإتيان بمثل هذا القرآن، أو نظم عشر سورٍ من مثله، بل إنشاء سورةٍ واحدة ولو كانت في مقدار أقصر سُوَره، تحاكي بناءه وبيانه وبلاغته! فيحوكُ في رُوْعي سؤالٌ محيِّر: كيف لي أن أتيقَّنَ بقلبي حقيقةَ الإعجاز وأتحسَّسَها بمشاعري وكِياني؟!

زاحِم بعَوْدٍ أو دَع[1]:
وما زلت أبحث عن جواب شافٍ حتى ساقه الله إليَّ في توجيه عالم ناقد خبير، سألتُه فأجابني، وعرضتُ عليه حَيرتي فأرشدني. ذلك الرجلُ هو أستاذي الكبير المتبحِّر، الأستاذ الدكتور عبدالكريم حسين الذي عرفتُه من بعيدٍ قبل أن أسعدَ بالاتصال به؛ إذ كنت – بعد دخولي قسم اللغة العربيَّة بجامعة دمشق – لا أزور قاعةَ البحث في المكتبة الوطنيَّة بدمشق[2] إلا وأراه ثَمَّة مُنكبًّا على أسفارها، يقضي فيها سحابةَ نهاره وطرفًا من ليله، حتى لكأنه عَمودٌ من أعمدتها لا يكاد يبرَحُها؛ يسبق الموظَّفين في الحضور صباحًا، ويكون آخرَ الخارجين منها مساءً، ولو أُتيح له أن يبقى بين الكتب الليلَ كلَّه لفعل مغتبطًا سعيدًا! لم أكن أعرفه يومئذٍ غير أنه لفتَ نظري بانقطاعه التامِّ للكتاب الساعات الطِّوال، وبهيئته وحِليَته الغريبة! فقد كان زاهدًا في لباسه أشعثَ أغبرَ تقتحمُه العين، أشبه بأعرابيٍّ ضلَّ طريقَ البادية فحلَّ بيننا، ولكنَّه أبى أن ينخلعَ من مظاهر البَداوة والأصالة في صورة الظاهر وطبيعة الباطن، وصدقَ أبو الطيِّب حين قال: (وفي البَداوةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ)!

ويشاء الله أن أحضُرَ مناقشته لرسالة (الدكتوراه) فكانت معركةً لا مناقشة، وغدَت القاعة مَيدانَ نزال بطلُها المجلِّي وفارسُها الكميُّ هو هو صاحبنا!

ومن صُنع الله بي ونِعَمه عليَّ أن عُهدَ إليه تدريسُنا النقد العربيَّ القديم في السنة الثانية عام (1992- 1993م)، فكان معلِّمًا حاذقًا ألمعيًّا، راويةً للشعر والأدب، يُبحر بطلابه في بطون كتب العربيَّة، ويقتنصُ من أعماقها اللآلئ والفرائد وما لا يعرفُ قدرَه إلا الجادُّون من الطلاب، وقليلٌ ما هم، ويا للأسف!

اقرأ أيضا  القرآن

وإذا كان المعلِّمون عادةً يدخلون قاعات المحاضرة وبين أيديهم كتابٌ يقرؤون منه أو كُرَّاسةٌ ينظرون فيها، فإن أستاذنا كان في كلِّ محاضرة يقدَمُ ومعه مكتبةٌ كاملة تنوء بثِقَلها يداه القويتان، لا ليقرأَ منها أو يعتمدَ عليها؛ إذ إنَّ علمه مسطَّرٌ في صدره يغرفُ من مَعينه غرفًا، ولكنَّه كان إذا ما روى نصًّا من “الشعر والشعراء” لابن قتيبة مثلاً رفع الكتابَ أمام أعيُننا لننظرَه، وإذا ذكر قولاً للجاحظ في “البيان والتبيُّن”[3] أخرج الكتابَ إلينا لنبصرَه… وهكذا في عشَرات المصادر والمراجع من أمَّات كتب الأدب واللغة يحرِصُ أن نراها عِيانًا بدلَ أن تبقى أسماءً تُرَدَّد على أسماعنا فحسب.

واستحكمَت صلتي به حينئذٍ وعاملني معاملةَ الأخ الصغير لا الطالب، وحَدِبَ عليَّ حَدَبَ الأب على ولده، ومَحَضَني من نُصحه، وحبَّبَ إليَّ كتبَ الأدب والنقد، وحثَّني على قراءة “العُمدة” لابن رشيق القَيروانيِّ وتلخيص فصولٍ منه، فأفدتُّ بذلك أيَّما فائدة، وهداني إلى الطبَعات الجيِّدة والمعتمَدة من كتب تراثنا العربيِّ الغنيّ، ورغَّبَني في اقتناء المراجع النافعة والمجلاَّت الأدبيَّة والثقافيَّة الرَّصينة..

ولكنَّ أعظم ما قدَّمه لي – جزاه الله عنِّي خيرًا – هو ما وجَّهني إليه ودلَّني عليه من سبيل تكشفُ عن بصري عَشا الرِّيبَة، وتهدي جَناني إلى طُمَأنينة اليقين..

شكوتُ إليه يومًا تحيُّري – وكنت أُماشيه من كليَّة الآداب في المِزَّة إلى المكتبة الوطنيَّة في ساحة الأمويِّين – سائلاً:
إنني أقرأ القرآنَ وأستمتع بترداد آياته، وأستشعر مباينةَ نظمه وأسلوبه للمعهود من الكلام والأساليب، غيرَ أنني لا أدري كيف أتحقَّقُ بأحاسيسي من أن هذا القرآن مُعجِز، وأنه فوق كلام البشَر، وأن الثقلَين جميعًا عاجزون عن المجيء بمثله ولو تظاهَروا عليه؛ مِصداق قول الحقِّ سبحانه: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ والجِنُّ على أن يأتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ لا يأتُونَ بمِثلِهِ ولو كانَ بعضُهُم لبَعضٍ ظَهِيرًا * ولقد صَرَّفنا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فأبَى أكثَرُ النَّاسِ إلا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 88- 89]؟!

فأجابني بكلماتٍ قليلة المباني جليلة المعاني، قال:
لا يمكن أن تُدركَ إعجازَ القرآن حتى تنالَ حظًّا وافرًا من تذوُّق كلام الفُصَحاء الأبْيِناء[4]، وتتمرَّسَ ببلاغتهم، و(تتشبَّعَ) نفسُك بأساليب قولهم. عليك بأبي عثمانَ الجاحظ وأبي حيَّانَ التوحيديِّ ومصطفى صادق الرافعيِّ… فإذا أكثرتَ من القراءة لهم ولأمثالهم وأحطتَ بفصاحتهم وبيانهم.. أدركتَ البونَ البعيدَ البعيد بين بلاغة هؤلاء البلغاء من البشَر وبيان خالق البشَر وفاطر الجَنان واللسان!

رحلة إدراك اليقين:
تلكم الكلماتُ على قلَّتها أضاءت لي الطريقَ ومهَّدته أمامي، فمضَيتُ فيه غيرَ متوانٍ ولا هيَّاب، عسى أن أحقِّقَ طَلِبَتي وأفوزَ بثمرة سعيي ودأَبي..

اقرأ أيضا  المسلمون والقرآن

مضَيتُ مع شيخ أدباء العربيَّة الرافعيِّ في رحلة من التأمُّل والتذوُّق لأعظم كتبه وأَذكَرها “وحي القلم”، فكانت رحلةً ما أمتعَها وما أحلاها! قرأت مقالاته جملةً جملة، وكلمةً كلمة، وحرفًا حرفًا.. أبذل وُكْدي في الوقوف على مواطن العبقرية والإبداع فيها، أكرِّر عباراتِه مرَّات ومرَّات، أدقِّقُ في طريقة بنائه جملَه وصوغه تراكيبَه، وأُنعم في أسلوبه في التعبير عن رؤاه وأفكاره، وأُمعن في صُوَره وابتكاراته… عشتُ مع الرافعيِّ بحقٍّ في فضاء الرِّفعة، فارتقى بي إلى أفُقه العالي، لأحلِّقَ معه في سماء التفرُّد والتميُّز…

وطالما أطربَني قلمُه وأرقصَني، وأدار رأسيَ لذَّةً ونشوة!

أجل والله، لقد أخذ الرافعيُّ بلبِّي، حتى إنني كنت أقفُ مبهورًا أمام كثير من عباراته وحِكَمه وتصاويره فلا أملكُ إلا أن أقول: سبحانَ من وهبَك وأعطاك، وصدقَ رسولنا – صلى الله عليه وسلم – القائل: ((إنَّ من البيان لسِحرًا))، نعم إن هذا لبيانٌ يكاد يكون ضربًا من الإعجاز، والذي فطرَ النيِّرات ما قائله بشَرٌ كسائر البشَر!! وتمثُل بين عينيَّ تلك العبارة المُحكَمة التي أصاب فيها صاحبُها[5] كبدَ الحقيقة وعبَّر أصدقَ تعبير في وصف أدب الرافعيِّ بقوله: ((بيان كأنَّه تنزيلٌ من التنزيل أو قبَسٌ من نور الذِّكر الحكيم))!

لا والله ما هذا بوحي قلم، ولا وحي عقل، ولا وحي فؤاد.. ما هذا إلا إلهامُ ربِّ الأنام، الذي خلق الإنسانَ علَّمَه البيان!

قضَيتُ في صحبة أمير الأبْيِناء زمنًا لا يُحسَب في ساعات العمُر؛ إذ الساعةُ في ذَرا الرافعيِّ وذُراه ساعات[6]، والدَّهر في صُحبته ورفقته دهور.. كيف لا وقد اشتمل كتابه على كلِّ ضروب العبقرية؛ فكرةً سامية، وأسلوبًا راقيًا، وبلاغة أخَّاذة، وألفاظًا متخيَّرة، ونغمًا عذبًا تلذُّ له الأذن وتطرَب!

وحين بلغتُ أواخرَ الكتاب وقد ارتوَت نفسي من هذا الأدب الأصيل الجامع بين الحلاوة والجزالة، وبين الرشاقة والفخامة.. بأسلوبٍ تُستَمال به القلوب، وتُستجلَب به العقول، وتُزيَّن به المعاني… وأنا في تلك الحال من فيض المشاعر، وتوهُّج الأحاسيس، واستشعار سموِّ التعبير وقد صيغَ في قالَبٍ من البيان لا يتأتَّى إلا لقلَّة قليلة من الموهوبين في تاريخ البشرية!

أقول: وأنا في تلك الحال من النشوة والتحليق… حملتُ المصحفَ بين يديَّ أريد أن أقرأ فيه.. فتحتُه دون قصدِ سورةٍ بعينها.. فخرجت لي سورةٌ لا أذكرُها الآن، بيدَ أن ما أذكرُه تمامًا هو أنني لم أشرَع في قراءتها حتى قَفَّ شعرُ بدني!

إي وربِّي، لقد غشيَني إحساسٌ عجيب لم أحسَّه من قبل بتاتًا، وتوهَّجت في رُوحي مشاعرُ لم أعرفها سابقًا قطُّ! ملكت عليَّ عقلي وقلبي وجوارحي… فلم أقدِر أن أتجاوزَ الآيةَ الأولى إلى تاليتها!

اقرأ أيضا  نعمة إنزال القرآن

ورُحت أكرِّر الآية مرَّة بعد مرَّة… أتغلغل في عُمق معناها، وأنغلُّ في جَذر مبناها، أتذوَّق من جمالها وجلالها ما لم أتذوَّقه يومًا على كثرة ما قرأتُ من كلام الله وردَّدت! ولكنَّ لها اليوم طعمًا غير الطعم، ومَذاقًا غير المذاق!

وتاللهِ الذي لا إله غيرُه، لم أملك إلا أن أفغَرَ فمي دهشةً وعجبًا، وعيناي تَهْمِيان بالعَبَرات، ولساني يتلجلَجُ في فمي مردِّدًا في استكانة وتسليم وإقرار:
هذا هو الإعجاز حقًّا، هذا هو الإعجاز صدقًا، هذا هو الإعجاز!! هذا هو الكلام الذي لو اجتمعت الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثله، لا يأتونَ ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظَهيرًا!

________________________________________
[1] العَود: الجمل المسنُّ. وهذا مَثَلٌ من أمثال العرب، يُضرَب للحثِّ على الاستعانة في الأمور بذوي السنِّ والتجرِبة والخبرة. وفي هذا المعنى تقول العامَّة في الشام: من ليس له كبير ليس له تدبير!
[2] المسمَّاة (مكتبة الأسد)!
[3] هو أجلُّ كتب الجاحظ وأسيَرُها، اشتَهر بعنوان: “البيان والتبيين” في طبعاته المتداوَلة، والصواب فيه: “البيان والتبيُّن”، وهو المثبَت في صدر أصوله الخطيَّة، وهو ما انتهى إليه محقِّقُه الكبير الأستاذ عبد السلام هارون، ووعد أن يعيدَ العنوان الصحيح للكتاب في طبعة جديدة، ولكنَّ الأجل وافاه قبل تحقيق أمنيَّته رحمه الله.
[4] الأبْيِناء: جمع (بيِّن)، والبيِّنُ من الرجال: الطلقُ اللسان الفصيح.
[5] هو سعد زُغلول، وكلمتُه الذائعةُ السيَّارة هذه كان كتبها في تقريظ كتاب الرافعيِّ “إعجاز القرآن” الذي لقي قَبولاً كبيرًا من الأدباء والنقاد، ونالَ به صاحبه مكانةً ساميةً بينهم، فكتب سعد: ((وأيَّدَ [أي: كتابُ الرافعيِّ] بلاغةَ القرآن وإعجازَه بأدلَّة مُشتقَّة من أسرارها، في بيانٍ يستمدُّ من رُوحها، بيانٍ كأنه تنـزيلٌ من التنـزيل، أو قبَسٌ من نُور الذِّكر الحكيم)). ولقد صدقت في الرافعيِّ نبوءة الزعيم المصريِّ الكبير مُصطفى كامل، فيما كتب إليه مقرِّظًا ديوانه: ((سيأتي يومٌ إذا ذُكرَ فيه الرافعيُّ قال الناس: هو الحكمةُ العاليةُ مَصوغَةً في أجمل قالَبٍ من البيان)).
[6] الذَّرا (بالفتح): الكَنَف، يُقال: أنا في ذَرا فلان؛ أي: في كَنَفِه ودِفئِه. والذُّرا (بالضم): جمع ذُِروَة (بالضم والكسر)، والذروة من الشيء: أعلاه.
المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.