طريقة القرآن الكريم في الهداية

الخميس 24 ذو الحجة 1436//8 أكتوبر/تشرين الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
دسوقي إبراهيم أباظة
طريقة القرآن الكريم في الهداية
كانت طريقة القرآن الكريم في معالجة العادات السيئة الحِكمةُ والسَّداد؛ حيث لم يَعمد إلى العادات المألوفة فيَنتزِعْها من النفوس انتزاعًا، ويقتَلِعْها منها دَفعة وطفرة؛ فذلك صعبٌ وعسير، وإنما كان يعالجها بلُطف ويترفَّق بها، ويتدرج معها في التشريع حتى تَستبينَ السوء فيما كانت تألَف من العادات، فتَنفر منها وتُعرض عنها، وتَنساها كأنْ لم يكن لها عهدٌ بها ولا إلفٌ من قديم.

وها هي ذي الآياتُ التي نزلَت في الخمر تُرينا كيف تدرَّج القرآن الكريم في تحريمها، وكيف ترفَّق بالنفوس عند إرادة انتزاعها منها؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث وللعرب تعلُّق كبير بالخمر، وإلفٌ عظيم لتعاطيها، حتى امتزجَت بها دماؤهم، وتعلَّقَت بها نفوسهم، وهامت بها أرواحُهم، وشبَّبوا بها في أشعارهم، واستحسَنوا كلَّ شيء فيها، وجعَلوها مثلاً في الرقة، فأصفى شيءٍ ما كان مثلَها في الصفاء، وأرقُّ شيء ما كان مثلها في الرقة، وأمتعُ لونٍ ما كان مثلها في اللون والمنظر، واتخذوها عنوانًا لسرورهم، وجعلوا شُربها مَفخرة من مَفاخرهم.

فلو فوجئوا بالتَّحريم مع وُلوعهم بها واعتقادِهم منفعتَها، لكان مِن المتوقَّع أن يُخالفوا أو يستثقلوا التكليف، ولكان تحريمها صارفًا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، والنظر الصحيح المؤدِّي إلى الاهتداء به؛ لأنهم حينئذٍ يَنظرون إليه بعين السخط؛ إذ هو يُعارضهم في مُشتهَياتهم وعاداتهم ومألوفات نُفوسهم، فيرونه بغير صورته الجميلة.

فكان مِن لُطف الله وبالغِ حكمته أن تدرَّج القرآن بهم في التحريم، فأنزل أولاً قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]، فأفاد أن في تَناول الخمر ضررًا كبيرًا ومنافعَ تِجارية أو اجتماعية، وأن ضررها أكبرُ من نفعها، وذلك يدل على التحريم دلالة ظنِّية، فيها مجالٌ للاجتهاد والنظر؛ ليَتركها من لم تتمكَّن فتنتُها من نفسه، ويقلِّل منها مَن غلب عليه حبُّها خشيةَ الضرر.

ثم أنزل قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43]، فأفاد تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة؛ إذ النهي عن قرب الصلاة في حال السكر مؤدٍّ إلى تحريم السكر في الوقت القريب من الصلاة، فلم يبقَ للمُصرِّ على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء، وضرره قليل، وكذا الصَّبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمَل له، ولا يَخشى أن يمتدَّ سُكره إلى وقت الظهر، وقليلٌ ما هم.

ثم تركهم الله على هذه الحال زمنًا قويَ فيه الدين ورسَخ اليقين. ومرنت النفوس على تركها والزهد فيها، وكثرَت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمُ الخمر وضررُها، حتى كان الكثير يتمنَّى على الله بتَّ تحريمها والتصريحَ بالمنع من شربها؛ منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كان يقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا.

فأنزل الله قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91]، وفي الحثِّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مع ما تقدم من أصناف الصَّوارف – إيذانٌ بأن الأمر في الزجر عنها والتحذير منها وكشف ما فيها من المفاسد والشرور، قد بلغ الغاية، وأن الأعذار قد انقطعَت بالكلية، فقال عُمر وقد تُلي هاتان الآيتان: انتهينا يا رب.

اقرأ أيضا  رفعة قدر القرآن وعظيم ثوابه

فأنت ترى من هذا الصنع الحكيم أن الله تعالى لم يأخذ الناس بما يشق عليهم، بل رباهم بهذا التدريج على الاقتناع بأسرار التشريع وفوائده؛ ليأخذوه بقوة وعقل، وقد كان.

فهذا هو مسلك القرآن الكريم في معالجة العادات التي ألفها الناس، والبدع التي ابتدعوها، فليَسلُكه الواعظ؛ يتدرَّج بالناس فيفهِّمهم الدين القيم، وفضل السُّنة وإحيائِها، وضررَ البدع وإثمَ فاعلها وناشرِها، وقبح العادات وتلك البدع، وأن تفشِّيَها بين طبقات الأمة يعود على الدين وعليهم بالنقص، حتى إذا أحسَّ منهم استِقباحَ البدعة، والرغبةَ عنها، ومحبةَ السنَّة والرغبةَ فيها وفي إحيائها، وتوجَّهت نفوسُهم لتعرُّف السنن المشروعة عرَّفها لهم، وأبان في لطفٍ وحكمة وأناةٍ ما تفشَّى فيهم من بدع وعادات وأن الخيرَ في تركها، ولا يَزال بهم حتى يَتم له ما يريد من إماتة البدعة وإحياء السنة، والقضاء على العادات السيئة، فذلك التدريج والتلطف أدعى لقبول دعوته وأجدى من أن يَنعى على المألوف نعيًا قاسيًا، ويأخذ النفوسَ طفرةً بترك إلفها، فالنفسُ أسيرة العادات، والحكمة في فكِّها مِن أسرها ما سلَك القرآن الكريم؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].

طريقته في الرد على المخالفين ودعوتهم إليه:
كذلك ترى القرآن في ردِّه على مَن خالفه وإقناعِه لمن حادَ عنه، ودعوته إلى موافقته – يسلك طريقًا عجبًا، جذابًا للنفوس مميلاً للأرواح، مقدِّمًا للضمائر الحية النزيهة، أخَّاذًا للعقول الحرة، فتراه يأتي على شُبهِهم واحدةً واحدة، فيَدحضها مبينًا وجه الحق في أدبٍ وحكمة.

فاستمِع إليه حين يقول: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 5، 6]؛ فإنك تراه يَحكي شُبهتهم في القرآن، وقولَهم فيه: إنه أكاذيبُ الأولين استنسخَها، وأنها تُقرأ عليه غدوةً وعشيًّا ليَحفظها، ثم يرد عليهم بأن ذلك ليس صحيحًا، وأن وجه الحق في هذا القرآن أنه كلام الله الذي يعلم الغيب في السموات والأرض، ولعلمِه بالغيب واختصاصه به؛ يُخبر عنه الخبرَ اليقين مهما تطاولَت الأزمان، وتباعدَت العصور، فليس اشتمالُه على أخبار الأولين مستلزِمًا لانتساخ الرسول له ممن عندهم أخبارُهم، ولا مَدعاة للشكِّ في كونه من عند الله العليم الخبير.

واستمع إليه حين يقول: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [الفرقان: 32]؛ فإنك تراه يَحكي شبهتهم في القرآن أيضًا، وأنه فذٌّ في نزوله، فليس كالكتب السابقة قد نزَل كلٌّ منها دَفعة واحدة، بل نزل متفرِّقًا ونُجومًا، وذلك آية افترائه على الله، وأنه من عند محمد يكتبه آيةً آية، ويُحبِّره سورة سورة، ثم يرد عليهم بأن نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقًا ونجومًا، ومخالفته للكتب السابقة – التوراة والزَّبور والإنجيل – في ذلك إنما هو لحِكَم سامية، وفوائدَ هامة؛ تلك هي تقويةُ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظه، وفهمه؛ لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى؛ حيث كان عليه الصلاة والسلام أميًّا وكانوا يكتبون ويَقرؤون، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيدَ بصيرةٍ وغوصٍ في المعنى، ولأنه إذا نزل منجَّمًا – وهو يتحدى بكل نجمٍ منه فيعجزون عن معارضته – زاد ذلك قوةَ قلبه، ولأن نزول جبريل به حالاً بعد حال تثبيتٌ لفؤاده، وترويحٌ لنفسه صلى الله عليه وسلم، كما أن كتب المحبوب إذا تواصلت المحبة جددت له شوقًا ومحبة ونشاطًا.

اقرأ أيضا  “حافظ” تحتفي بـ317 طالباً متميزاً من حفظة القرآن الكريم

واسمع إليه حين يقول: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 101، 102]؛ فإنَّك تراه يَحكي شبهةً أخرى من شبهات منكِري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنهم رأَوه يأمُر أصحابه بِنَسخ بعض آيات القرآن ووضعِ غيرها مكانَها؛ امتِثالاً لأمر ربه الذي أنزلَه عليه، فقالوا: إن محمدًا يَسخَر مِن أصحابه؛ يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدًا، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه، وهو من أجل ذلك يَضطرب فيها، فدَعْواه أن القرآن من عند الله، أنزله عليه تأييدًا لنبوته افتراءٌ على الله، فليس من أنبيائه المرسلين! فردَّ عليهم بأن هذا النسخ لفوائد ومصالح، ووجودَه في القرآن وجَهْلَهم بفوائده لا يَقدَح في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

ثم بيَّن حقيقة القرآن – وفيه الناسخ والمنسوخ – بأنه تنزيلٌ من رب العالمين، نزَل به الرُّوح على محمد صلى الله عليه وسلم متلبسًا بالحكمة والصواب؛ تثبيتًا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيمانًا مع إيمانهم، وهدًى لهم من الضلالة، وبُشرى للمسلمين الذين استسلَموا لأمر الله وانقادوا لما أنزله في آيِ كتابه الكريم، وصدَّقوا به قولاً وعملاً…

ثم استمع إليه حين يقول بعد ذلك: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]؛ فإنك تراه يتعقَّبهم خطوة خطوة، فيَحكي عنهم شبهة أكثَروا مِن ترديدها واللَّغوِ بها مع ضآلتِها وتكذيب الواقع والحسِّ لها، كانوا يقولون: إن محمدًا يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر، ويتعلمها عنه وينسبها إلى الله افتراء على الله، وقد كان هذا الذي يلحدون إليه أعجميًّا لعامر بن الحضرمي واسمه جَبر، أو لحويطب بن عبدالعُزَّى واسمه عائشٌ أو يَعيش، فردَّ عليهم بما لا يستطيعون له ردًّا، فأفحمهم بهذا الرد إفحامًا، وألزمَهم الحجَّة إلزامًا، وقال لهم: ﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]، وهذه التفرقة بين لغة الذي يَميلون إليه وبين لغة القرآن – ممَّا يعترفون به ولا يُنكرونه، فيعترفون أن هذا الغُلام أعجمي لا يَكاد يُبين، وأن هذا القرآن لسانٌ عربي مبين…

وهكذا نرى القرآن يَصنع بِشُبَه المخالفين؛ يَحكيها ويَردُّها ويبين الحقَّ والصواب، ثم تراه يدعوهم إلى موافقته في لُطفٍ؛ عارضُا عليهم الحقَّ في أسلوب تقبله النفوس الصافية، وتأوي إليه الأرواح الطاهرة، فاستمع إليه حين يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [النساء:170 – 171].

وحين يقول: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

اقرأ أيضا  شهر الله الحرام

فإنك تراه في الآية الأولى بعدَما أثبت نبوة محمد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحيَ إليه على سنن الوحي إلى النبيِّين من قبله – ناداهم ليُقبلوا عليه، فأخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالحق مِن ربهم مُربِّيهم ومتعهِّدِهم حتى يَبلُغوا كمالهم، ثم عقَّب هذا الإخبار بطلب الإيمان منهم، والتصديق بما جاء به الرسول؛ فهو خيرٌ لهم، ونفعُه راجعٌ إليهم، وضررُ كفرِهم لا يَنال اللهَ منه شيءٌ؛ فإن له ما في السموات والأرض مُلكًا وخَلقًا، وهو بعدُ عليمٌ بخلقه حكيمٌ في صنعه بهم.

وتراه في الآية الثانية يُنادي المخالفين له من النصارى بما يُذكِّرهم بالإيمان، ويَدعوهم إلى التوحيد، ثم ينهاهم عن الغلوِّ في الدين، وهو سببُ تورطهم فيما تورطوا فيه، كما يَنهاهم عن أن يقولوا على الله إلا الحق، ومِن تنزيهه عن الشريك والولد، ثم يُتبع ذلك النهيَ ببيان الحق في شأن عيسى عليه السلام؛ من أنه عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فليس إلهًا ولا ابنًا لإلهٍ، ثم يأمرهم بالإيمان الصحيح، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد، وبالرسل كافَّة دون تفريقٍ بين أحد من رسله، ثم يعود فينهاهم عن التثليث ويُحذِّرهم منه، ويخبرهم أن الخير في الانتهاء عنه، قارعًا لنفوسهم بعدَ ذلك بالتوحيد الحق، منزِّهًا ساحة الإلهية المقدسة عما ينسبون إليه سبحانه، مبينًا مِلكيته لجميع العوالم – عُلويَّةً وسُفليةً – خَلقًا ومُلكًا، والمِلكيَّة تُنافي النبوة، وأنَّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟!

وتَراه في الآية الثالثة يُنادي أهل الكتاب جميعًا فيَدعوهم إلى الوفاق والوئام، والانضمام تحت راية الإسلام وكلمة التوحيد، وينهاهم عن الشرك بالله واتخاذِ بعضهم بعضًا أربابًا مِن دون الله الحق؛ يُحلُّون ويحرِّمون ما شاءت لهم الأهواء والأغراض؛ فإنْ أبَوْا ذلك وأعرَضوا عنه – حميَّة للشيطان أو خُنوعًا للتقليد، أو خضوعُا للتعقل الفاسد والرأيِ الكاسد – فإنَّه يَطلب من أمة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أن يُسجِّلوا الفوز على هؤلاء المتأبِّين المعرضين، ويقولوا لهم: اشهدوا بأنا مسلمون؛ أسلَمْنا وجهَنا لله الحقِّ، مخلِصين له الدِّينَ.

فهذا هو مَسلك القرآن الكريم في الردِّ على المخالفين، ودعوتهم إلى الدخول في حظيرته، فليَسلُكْه الواعظ، يأتي على شبه المخالف فيردها في أدبٍ ولطف بما يُزيح الشكَّ عن النفوس، ويخرج العقول من الظلمات؛ ظلمات الشك إلى نور اليقين، ثم يبين الحقَّ بالدليل والبرهان في حدود آداب الدينِ والمناظرة، داعيًا إلى اتباعه، مبيِّنًا أن الخير فيه بأسلوبٍ علمي يَستميل القلوب، ويَهدي النفوس، ويجذب الأرواح.

وليَحذَرْ الواعظُ؛ فإن إثارةَ الخلاف مَفسَدة، وإطالة الجدال مَدْعاة إلى الهلكة، بل ننصَح له – جازِمين – بتجنُّب مواضع النزاع في الدروس العامة، وألاَّ يَسلك سبيل الحِجَاج والجِدال إلا إذا دعَت إليه حاجة؛ حيث تكون شُبهة يَخشى أن تُضلَّ العامة أو تُؤثر في شيء من عقائدها، فعندها يتعيَّن عليه أن يسلك سبيل القرآن؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.