عيد الأضحى

الأحد 8 ذو القعدة 1436//23 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
محمد كامل البنا
عيد الأضحى
هذا شهر ذي الحجة وفي العاشر منه يكون عيد الأضحى وفي هذه الأيام المشهودة تزدحم على النفس الذكريات وتتوارد الخواطر وإنها لذكريات ما أكرمها وأعلاها وخواطر ما أعذبها وأسماها وهذا العيد المبارك يقترن بالمجيد من هذه الذكريات التي يجدر بالمسلمين أن يذكروها وينبغي لهم أن يستحضروها فأنها تبعث فيهم معاني العزة والكرامة وتحيى في نفوسهم عوامل الرجاء والأمل وتنير أمامهم الطريق كلما حاقت بهم الخطوب أو ادلهمت الأحداث.

وأنك لن تجد للهمم وقوة للعزائم أكثر مما تجد في ماض يعتبر به المعتبرون ويستعرض صفحاته العقلاء والمصلحون.

هذه الأيام ترمز إلى حج بيت الله الحرام وفي جوار البيت يتعلم الإنسان دروس الخلود ويتلقى آيات البقاء ففي تلك البقاع القاحلة التي لا تعرف نماء ولا حياة انبعثت حياة الإنسان وبين قوم جفاة غلاظ يحملون أقسى قلوب وأضعف أحلام نشأ ذلك النبي الأمي الذي علم الناس كيف تصفو القلوب وترجح الأحلام ولم يكن هذا النبي الذي انبثق نوره في تلك البقاع إلا معلما يشرح للناس معاني التهذيب وآداب الجماعة وكانت آدابه كلها حارسا على قلب الإنسان وكان الإسلام علاجا إصلاحيا دفع الدنيا إلى الأمام فنقلها إلى عالم الأخلاق ثم ارتقى بها إلى الخير العام وانتشلها من السفساف والأوهام.

وكان عجيبًا أن إقليمًا من الأرض كان أقفر أركانها يحمل لواء الفضيلة ويحارب سائر بقاعها بالطبيعة الجديدة لهذا الدين ثم يكتب له النصر العزيز والفوز المبين.

أنه يحارب ويكافح ويعلو بالقسوة ويدعو إليها ويريد اخضاع الدنيا وحكم العالم ويستنفد همه ويبذل جهده ولكنه يختلف في حربه وكفاحه عن شرائع القوة وأساليب القهر فإنما تعمل القوة لسيادة الطبيعة وتحكمها أما الإسلام فيعمل لسيادة الفضيلة وتغلبها وتلك تعمل للتفريق وخلق الطبقات وهو يعمل للمساواة ومحو الشارات أن كل مسلم يقف بتلك الأدوية والفجاج سيمر بفكره لا محالة ذلك الجهاد القاسي المرير الذي احتمله رسول الله – صلى الله تعالى عليه وسلم – حتى نشر دعوته في الآفاق تستلهم نفسه أنفع دروسه وتقرأ أنفع سطوره، فكل مسلم يعرف أن النبي – صلى الله تعالى عليه وسلم – لبث ثلاث عشرة سنة بمكة لا يبغيه قومه إلا شرًا ولا يريدون به إلا نكرًا على أنه دائب يطلب ثم لا يجد ويعرض ثم لا يقبل منه ويخفق ولا يعتريه اليأس ويبطئ أمله فلا يدركه الملل وهذه هي معاني التربية والصبر على الكفاح التي أظهرها الله على يد نبيه فعمل بها وثبت عليها وتحلى بآدابها ودعا إليها وهي العوامل الأخلاقية التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره فتدفعه في مجراه بين الأمم وتجعل من صفات المسلم الثبات على الحق وإن أبطأ والبعد عن الأثرة وإن تهافتت عليها النفوس ومقاومة الباطل وان ساد وغلب وبقاء الرجل رجلًا وإن خذله جميع من حوله وما حوله من الأحياء والأشياء.

اقرأ أيضا  السيسي ونتنياهو يبحثان "ثبيت التهدئة" مع فلسطين

فإذا اتجهت بفكرك إلى العاقبة أيقنت أنها للعاملين الصابرين؛ فهذه مكة وما يليها كانت صخرًا يتحطم ويلين وكأن الطغيان وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليفسد التاريخ الإسلامي عن المسير تخرج رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – إلى أرض غير أرضه ليتلقاه قوم ليسوا بقومه فيستمر على كفاحه لا يني ولا يخضع ولا يتجه إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما كان وحده الإنسانية بأكملها ويشرح الدين لأمة أعمالًا مفصلة على النفس أكمل تفصيل وأوفاه.

فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي تنظم به أحوال النفس على هدى وبصيرة ويدع للدنيا عقلها العلمي المتجدد المتغير تنظم به أحوال الدنيا على قصد وهداية ثم تعود مكة ذلك الصخر العاتي طريقًا ذلولًا يحتمل تيار الإسلام ليروي قلوب الناس في الدنيا بأسرها وتكون ثمرة هذا الري أن يسود الإسلام جميع ربوعها ويفرض على الناس عبادات يمارسونها ويكون الحج أحد هذه العبادات ومن الحج يتعلم الناس الإيمان والمساواة والتوحيد وفي الحج أبلغ امتحان لصدق الإيمان وقوة اليقين فقد ألفت النفوس أن تؤمن بما تفهم وتذعن لما تدرك. أما تكليفها بأعمال قد لا تدرك تفاصيل علتها، كما في مناسك الحج ميزان فهذا هو مقياس الإيمان الخالص ومعيار الدين الراسخ.

ويحتشد الحجيج عند بيت الله الحرام، وينظر بعضهم إلى بعض وقد عنت لله وجوههم وخشعت لعظمته قلوبهم وتجردوا من جميل الثياب وعظيم الألقاب ينادي غنيهم وفقيرهم ويتكافأ كبيرهم وصغيرهم لا ينفع قويا جاهه وسلطانه ولا غنيا ماله، حيث تصطك المناكب وتقترب الرءوس وكأنما يلقى ذلك الجمع الحاشد في صدر كل إنسان أن هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها وكلهم عند الله سواء فلا يسوغ الاستكبار والاستعلاء لأن العزة كلها للواحد القهار أما الكبرياء والجبروت والطغيان فإن ذلك من وحي النفوس التي لم تنتفع بما في الإسلام من تهذيب ولم يكن لها من حظوظ الخير أدنى نصيب كان هذا البيت مثابة للناس وأمنًا يشترك في الحج إليه جميع العرب فللمشركين عهودهم ولهم حجهم وكانوا يتجردون من ثيابهم ويطوفون بالبيت عرايا ويزعمون أن ذلك من شعائر الله وأنه لا يتقرب إليه إلا بالإهاب عاريا من الثياب ويلبون شاهدين على أنفسهم بالكفر مقرين بالشرك (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) وكانت ترتفع أصواتهم بهذه التلبية الآثمة وذلك الاشراك المبين فأمر رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – عليًا كرم الله وجهه أن ينادي عام الوفود ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فأعلن التوحيد الخالص وأبطل الشرك من بلاد الإيمان والتوحيد وجعل الناس جميعا على الشريعة السمحة التي شرعها الله لأبيه إبراهيم ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79] وألغى عهود المشركين وطهر بيت الله الحرام وحماه من عبادة الأوثان والأصنام وأعاد الإسلام للإنسانية منزلتها وهيبتها وكرم عبادتها وعقيدتها ورفعها إلى طهارة يرضاها رب العالمين ويقبل عليها عقلاء الناس أجمعين.

اقرأ أيضا  خطبة عيد الأضحى المبارك (أهل السنة والجماعة.. من هم؟)

ويحج الرسول – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – حجة الوداع فتتجلى وحدة الإسلام وتظهر لبناته ويرسخ التوحيد في القلوب وتغلب آياته فالناس لا يسيرون على المألوف من سيرهم ولا يتبعون ما كانوا يسلكون من سنتهم فلا تفرقهم عصبيات ولا ينحازون إلى رايات وإنما هي راية الإسلام أظلتهم وكلمته جمعتهم ويتتابع القوم جميعا في سمت وخشوع فلا جلبة ولا ضوضاء ولا تفاخر بالأنساب والآباء ولا اعتلاء لعزيز على ذليل ولا سبق لقوي على ضعيف وقد محيت أسماء الأوثان فلا رب لكنانة ولا معبود لهمدان وإنما المعبود هو الله وحده (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك).

قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار وتبدلت القلوب والأبصار وأصبح للناس شارة لم يعهدوها وعقيدة أقبلوا عليها وأحبوها يعبر عنها في المشعر الحرام ذلك النداء يؤيده في بلاد الإسلام تلك الأصوات والأصداء فالناس في أيامهم هذه تسمع لهم هديرا كهدير البحر في تلاطمه والمساجد تغص بالناس وقد تلاحمت صفوفهم وتلاحقت جماعاتهم فيهم الشيوخ والشباب يقفون للصلاة كسطر في كتاب ثم تراهم قد تتابعوا صفا وراء صف ونسقا خلف نسق ليس لهم إلا التهليل والتكبير والخضوع للعلي الكبير فالمسلمون جميعا في عبادة الله بين حاج يلبي ومقيم يردد صداه.

اقرأ أيضا  الانتخابات المبكرة بتركيا.. الدوافع والحسابات

ألا ما أروع هذا الاتحاد وما أغزر معناه، وما أشد حاجة المسلمين إلى أن يفهموا الأعياد فهمًا صحيحًا يستقبلونها به ويأخذونها من ناحيته فتكون أيامهم سعيدة عامرة تنبه فيهم أصواتها القوية وتبعث في نفوسهم معانيها النافعة فليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تجدد حياتها وتستعيدمجدها وتحيى تاريخ السالفين لتنقله أمثلة صالحة لمن يتلقاها من اللاحقين وبمثل هذا تعيش الأمم وتستقر النظم ومن هذا التراث تستمد عوامل البقاء ومن التاريخ نستقي أسباب الثبات وأن في التاريخ لعبرة وأن فيه لذكرى لقوم عابدين.

هذا بعض ما يذكرنا به عيدنا الأكبر وهي ذكريات تملأ النفس فرحًا وإيمانًا وتثير في القلب بواعث المجد والعظمة وأني أنبه إليها كل مسلم فهم الإسلام وسرى في قلبه نوره وكل إنسان توجه إلى الخير فله ضميره وأسال الله سؤال اللائذ برحابه العائذ بجنابه أن يكشف عنا ما نزل من بلاء قد استحكمت حلقاته وتلاقت سيئاته وأن يملأ شعور المسلمين بما يدفعهم إلى الكمال الدائم والتمام الذي لا ينفض وأن يهيئ نفوسهم للجهاد والصبر في سبيل الكفاح ليعود لهم مجدهم ويرجع على الأيام عزهم فيصبحوا وقد ساد آخرهم بما ساد به أولهم وارتفع خلفهم بما اعتز به سلفهم حتى يستقبلوا من أمرهم رشدا ويجعلوا من سيرة رسول الله أسوة وسندا.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.