فاستقيموا إليه واستغفروه
الخميس 20 شوال 1436//5 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
خميس النقيب
الاستقامة علامة على طريق السلامة، ونجاةٌ يوم القيامة، وفلاح يوم الحسرة والندامة، ونجاحٌ كبير يوم الملامة!
إن الاستقامة هي تمسُّك المسلم بمبادئه المتَّفقة مع الدين، ومعتقداته المنبثقة من الشريعة، مهما كلَّف ذلك مِن عنتٍ ومشقة، ومهما ضيَّع من فرص ومكاسب، إذا أراد الإنسان أن يعيشَ وَفْق مبادئه، ورغب إلى جانب ذلك أن يُحقِّقَ مصالحَه، فإنه بذلك يحاولُ الجمع بين نقيضَيْنِ، وسيَجدُ أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما؛ حتى يستقيمَ أمر الآخر.
إن تحقيقَ المصلحة على حساب المبدأ يُعدُّ انتصارًا لشهوةٍ أو مصلحة آنية، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة، فإنه بمثابة اعتلاءِ قمَّة من الشعور بالسعادة والرضا، والنصر والحكمة، والانسجام والثقة بالنفس، وقد أثبتَتِ المبادئُ أنها قادرةٌ على أن تُكرِّرَ الانتصار المرةَ تلوَ المرة، كما أثبتَ الجريُ خلفَ الشهوات أنه يُخلِفُ فشلاً وضياعًا وشقاءً وخسرانًا مبينًا!
الاستقامة تحافظُ على نجاح المبدأ الحقِّ، وهي سلوكُ الصراط المستقيم، والطريق المستقيم هو الدين القيِّم من غير ميلٍ عنه يمنةً ولا يسرة، ويَشمَلُ ذلك فعلَ الطاعات كلِّها، الظاهرة والباطنة، وترْكَ المنهيات كلِّها، الظاهرة والباطنة.
المؤمن مُطالَبٌ بالاستقامة الدائمة؛ ولذلك يسألُها ربَّه في جلواته وصلواته: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
أمر الله تعالى المؤمنين بالاستقامة فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 6]، فأشار إلى أنه لا بد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجبَرُ بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة، قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها).
لما جاء سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنت بالله، ثم استقم).
احفظوا الله في فروضه وحدوده وعهوده، يحفظْكم في دينكم وأموالكم وأنفسكم، كونوا مع الله يَكُنِ الله معكم، في حلِّكم وترحالكم، في حركاتكم وسكناتكم، في يسركم وعسركم، في قوتِكم وضعفِكم، في غناكم وفقركم، جاهدوا أنفسكم، وجاهدوا الخلوف المترددة الملتوية المترددة بالنصيحة وبالحكمة والموعظة الحسنة، ففي ذلك دليلُ الإيمان.
هذه الآية ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾ [هود: 112] وردت في سورة هود؛ لذلك حينما قال عليه الصلاة والسلام: (شيَّبتْني هود)؛ يعني: سورةَ هود، والذي شيَّب النبيَّ فيها هذا الأمرُ الخطير.
بل قد أمر الله تعالى بها أيضًا أنبياءه، فقال في حق موسى وأخيه عليهما السلام: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ﴾ [يونس: 89].
يقول ذو النون: إنما تنالُ الجنة بأربع: استقامةٌ ليس فيها زوغان، وجهادٌ لا سهوَ معه، ومراقبةٌ لله في السر والعلن، ومحاسبةٌ للنفس قبل أن تُحاسَبَ، والاستعداد للموت بالتأهب له.
غدًا تُوفَّى النفوس ما كسبت
ويحصُد الزارعون ما زرعوا
إن أحسَنوا أحسَنوا لأنفسِهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 – 32].
من هذه الآية وغيرها نَستنتِجُ بعضًا من ثمرات الاستقامة: طمأنينة القلب بدوام الصلة بالله عز وجل.
الاستقامة تَعصِمُ صاحبَها بإذن الله عز وجل من الوقوع في المعاصي والزلل وسفاسف الأمور، والتكاسل عن الطاعات، تنزل الملائكة عليهم عند الموت قائلين: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [فصلت: 30].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
قال بعضهم في تعريف الاستقامة: إنها ضد الطغيان، ما معنى طغى؟ خرج عن الخط المستقيم.
طغى:
خرج عن المنهج، طغى القطار: إذا خرج عن سِكَّته، طغتِ السيارة: إذا خرجت عن الطريق المُعبَّد إلى وادٍ سحيق، والله سبحانه وتعالى حينما خلَق الإنسان خلق له منهجًا، وقال الله عز وجل: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 – 4].
الاستقامة تمدُّ صاحبَها بقوًى وإمكانات خارقةً وخارجة عن رصيده الفعلي؛ ولذا: فإن التضحيات الجليلة لا تَصدرُ إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام، وهم أنفعُ الناس للناس؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يَسحبوا من رصيدها الحيوي؛ إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة.
الاستقامة:
أن تلزم المنهجَ الإلهي، أن تلزمَ أمر الله وسنة نبيه، والطغيانُ: أن تحيد عن هذا المنهج: في عقيدتك، في تصرفاتك، في كسب المال، في إنفاق المال، في علاقاتك، في جِدك، في لهْوك، في إقامتك، في سفرك، في علاقاتك الداخلية، في علاقاتك الخاصة جدًّا، في علاقاتك العامة.
﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾ [الجن: 16، 17]، الطريقة المستقيمة إذا استقاموا عليها، إذا تابعوا هذا السير المستقيم: ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16].
الناس لو استقاموا على أمر ربِّهم، لانهمرت السماء بمائها؛ لذلك كلما قلَّ ماء الحياء قلَّ ماءُ السماء، وكلما رخصَ لحمُ النساء غلا لحمُ الضَّأْن، عَلاقات ثابتةٌ، وكلما هانَ اللهُ على الناس هانوا عليه.
من ثمار الاستقامة:
ألا تخاف مما هو آتٍ، وألا تحزن على ما قد فات، أنت في منجاة من القلق ومن الندم، والقلق والندم حالتان نفسيَّتان تدمِّران الصحة النفسية.
والاستقامة من ثمارها:
أن الله سبحانه وتعالى يُفرِّجُ عنك، ويُزيلُ عنك كلَّ كَرْبٍ، وكلَّ هم، وكلَّ حزن، وكلَّ ضيق، وكلَّ قلق.
عن عِرْباض بنِ ساريةَ قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا، فوَعظَنا موعظة بليغةً، ذرفت لها الأعين، ووجلت منها القلوب، قلنا أو قالوا: يا رسول الله، كأن هذه موعظةُ مودِّعٍ، فأوصنا؟! قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا؛ فإنه مَن يَعِشْ منكم يرى بعدي اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وإن كلَّ بدعة ضلالة)؛ أخرجه أحمد.
سيدنا الصدِّيق يقول:
الاستقامةُ ألا تُشرِكَ بالله شيئًا.
اعلم علمَ اليقين: أن تعصيَ الله عز وجل، فتجد في هذه المعصية أنها مَغنَمٌ هنا الشرك.. رأيت هذا الإنسانَ إذا أطعته وعصيت الله، وقعت في الشرك وأنت لا تدري.
سيدنا عمر عملاق الإسلام قال عن الاستقامة: أن تستقيمَ على الأمر والنهي – أن يَجِدَك الله حيث أمرك، وأن يَفْتقدَك حيث نهاك – ولا تروغ روغانَ الثعلب.
سيدنا عثمان ماذا قال عن الاستقامة؟
قال: استقاموا؛ أي: أخلصوا العمل لله.
سيدنا عثمان ألقى الأضواء على الإخلاص بالاستقامة، أما سيدنا عليٌّ رضي الله عنه وابن عباس فقالا: استقاموا؛ أي: أدَّوُا الفرائض.
(اتقِ المحارمَ تَكُنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس)؛ صحيح.
بعض العلماء يقول: استقاموا؛ أي: استقاموا على محبته وعبوديته.
العبودية غايةُ الخضوع مع غاية الحب، هذا معنى استقاموا.
إذا استقمتَ على أمر الله، لن تُحصِيَ الخيرات التي تتأتَّى من هذه الاستقامة: سعادة نفسية، توفيق في العمل، سرور، طمأنينة، شعور بالراحة، شعور بالتفوق، هذا كلُّه من لوازم الاستقامة (استقيموا ولن تحصوا).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه، ولا يدخل رجلٌ الجنة لا يأمن جارُه بوائقَه).
الاستقامة:
أن تمنع أذاك عن الآخرين، وأن تعطيَ لكل ذي حقٍّ حقَّه، أن تُؤدِّيَ الحقوق تمامًا، لا أن تُفرِّطَ ولا أن تُفرِطَ.
التمحور حول المبدأ الحق هو عين الاستقامة، وهو الذي يمنح الحياة معنًى، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة، التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء!
المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقيَّة، ويجعلها واضحةً مفهومة، وما هو إلا استقامة على نهج القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، الظروف قد تكون صعبةً للغاية لا نُنكِرُ ذلك، والظروف الصعبة تُوهِنُ من سيطرة المبدأ على السلوك، لكنَّ تلك الظروفَ هي التي تمنحُنا العلامة الفارقة بين أناس تشبَّعوا بمبادئهم؛ حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، فلا يضلُّون الطريق، ولا ينحرفون عن الحق، ولا ينجرفون وراء الباطل، وأناسٍ لا تُمثِّلُ المبادئ بالنسبة لهم أكثرَ من تكميل شكليٍّ لبشريَّتِهم المتطلعة إلى الشهوات والنزوات!
لذلك كان من الأهمية بمكان للمؤمن أن يَستقِيمَ إلى الله في كل أفعاله، ويستغفرَه في كل أحواله ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 6].
اللهم ارزقنا في الدنيا الاستقامة، وجنِّبنا في الآخرة الحسرة والندامة.
الألوكة