في الاجتهاد في العشر وقيام ليلة القدر

(معراج) بقلم الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر

الحمد لله غافر الذنب مُقِيل العثار، أحمَدُه – سبحانه – هو الذي يَقبَل التوبةَ ويَعفُو عن السيِّئات وهو الواحد القهَّار.

وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، الذي خلَق الجنَّ والإنس لعِبادَتِه، وأمَرَهم بتوحيده وطاعته؛ ليثيبهم رِضاه وجنَّته، فهنيئًا للمصلِّين الصائمين المخلصين، المنفقين أموالَهم ابتِغاءَ وجهه؛ سِرًّا وعَلانية بالليلوالنهار، والمتجافية جنوبُهم عن المضاجع يَدعُون ربَّهم خوفًا وطمعًا والمستغفرين بالأسحار.

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أخشى الناس لربِّه، وأعظمهم قِيامًا بعبادته وذكره، وشُكرًا لنعمته، وبُعدًا عن معصيته، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أئمَّة الأمَّة في السَّير على سنَّته، وأقومهم بدينه من بعده وتبليغ رسالته.

أمَّا بعدُ:

فيا أيُّها الناس، أُوصِيكم ونفسي بلُزُوم تقوى الله؛ فقد أفلَحَ عبدٌ راقَب مَوْلاه فاتَّقاه، وسارَع إلى طاعَتِه وما فيه رِضاه، واستِجاب لما به وَصَّاه، فكان داخِلاً في عداد المتَّقين، المبشَّرين بقول الحق في الذِّكر المبين: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].

أيها الناس، اعلَموا أنَّ الله – تعالى – قد أعطاكم الدُّنيا ومكَّنكم منها لتطلبوا بها الأخرى؛ حتى تكونوا من أهل التجارة الرابحة، ولم يُعطِكموها لتَركَنُوا إليها وتشتَغِلوا بها عمَّا خلقكم الله له؛ فإنَّ الدنيا فانية والآخرة باقية، فلا تشغلنكم الفانية عن الباقية، بل آثِرُوا ما يَبقَى، وانهجوا نهج أولي التُّقَى، وتذكَّروا على الدَّوام المصيرَ المحتوم، وما بعدَه من أهوال القبر والبِلَى والغُربة تحت أطباق الثَّرى، بعد مُفارَقة القريب والحبيب، والطارف والتليد، وتذكَّروا أهوالَ البعث والحِساب، والوقوف بين يدي ربِّ الأرباب، حين يُحاسَب العبد على النَّقِير والفتيل والقِطمير، ويجزى بما قدَّمتْ يَداه، ولا يَنفَعُ حميم حميمًا إلاَّ مَن رحمه مَوْلاه: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47].

عبادَ الله:

تذكَّروا الآن أنَّكم في العشر الأخير من شهر الصيام والقيام، وكم وعَد الله الصائمين المحتسِبين الحافظين لحدود الله من مغفرة عظيم الآثام، وأنواع الإكرام في الجنَّة دار الرضوان والسلام، فاختِموا شهركم بخير الأعمال وجليل الخصال؛ طاعةً وشكرًا لذي الكرم والجلال.

أكثِرُوا تِلاوَة القُرآن؛ فإنَّه يَهدِي للتي هي أقوَم، وصِلُوا الإحسان بالإحسان فإنَّ ربَّكم بالمحسنين أرحم، وأكثِروا ذكر الله، فإنَّ الله قد وعَد الذاكرين والذاكرات مغفرةً وأجرًا عظيمًا، وادْعوا الله مُخلِصين له الدِّين، لأنفُسكم وإخوانكم من عِباده الصالحين الأحياء والميِّتين؛ فإنَّ ربكم – تبارك وتعالى – قريبٌ من دَاعِيه، ويرضى عنه إذ يُناجِيه، فكم من معجل الخيرات ومُؤجلها يدَّخر له ويعطيه، فآمِنوا بربكم واستَجِيبوا له لعلَّكم ترشدون، وأطِيعُوه وأخلِصُوا له لعلَّكم تُفلِحون، وتذكَّروا بتصرُّم شهركم فَناءَ الأعمار، وبسُرعة انقِضاء لحظاتكم سُرعةَ الوقوف بين يدي الواحد القهَّار، فقدِّموا لأنفسكم خيرًا تجدوه، وتنافَسُوا في الصالحات تحمدوه، وتُوبُوا إلى الله من أوزاركم، فإنها حملٌ ثقيل، وإنَّ أمامكم عقبةً كؤودًا لا يُجاوِزها إلاَّ المخفون، وإنَّ الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، وإنَّ منزل أحدكم من الجنة بحسب عمله الصالح الموافق للكتاب والسنَّة، فأكثِرُوا من الصلاة وتنافَسُوا في جزيل الصدقات، تفوزوا برفيع الدرجات.

ففي الصحيح عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إنَّك لن تعمَل عمَلاً تبتَغِي به وجْه الله، إلاَّ ازدَدتَ به درجةً ورفعةً)).

وفيه أيضًا عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إنَّك لن تَسجُد لله سَجدةً، إلاَّ رفَعَك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئة)).

وثبت عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إنَّك لن تُنفِق نفقةً تبتَغِي بها وجْه الله إلاَّ أُجرت عليها، حتى ما تجعَل في فِي امرأتك)).

وأقرَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذين قالوا: ذهب أهل الدثور – أهل الأموال – بالأجور والدرجات العُلَى والنعيم المقيم؛ بسبب ما هم عليه من جَلائل الأعمال، من الصلاة والصيام والصدقة بفُضول الأموال، ولَمَّا علموا بفضيلة الذكر بعد الصلاة ونافَسُوا فيه الفُقَراء، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الجمعة: 4].

أيها المؤمنون:

اختموا شهرَكم بالتنافُس بجليل المشروع من الطاعات، تفوزوا بعَظِيم ما ادَّخَر الله لكم من المثوبة في هذه الليالي المباركات المعدودات المعلومات؛ فإنَّ الله – تعالى – قد ادَّخر لكم منها أجورًا كثيرة، وخيرات وفيرة، على أعمال صالحة يسيرة، فقيام ليلة القدر إيمانًا واحتِسابًا خيرٌ من عبادةٍ في ألف شهر خالية منها، فمُحيِي هذه الليالي يفوز بالغَنائم، وتُغفر له العَظائم، ويُعتَق من النار، ويُحشَر في زُمرَة الأخيار؛ ولذا كان نبيُّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا دخَل العشر الأواخر شدَّ المئزر، وأيقَظَ أهلَه، وأحيا ليله، فيجتَهِد فيها ما لا يجتَهِد في غيرها؛ لعِلمِه بجليل ما ادَّخَر الله لهذه الأمَّة فيها.

وقد اقتضت حكمة الله – تعالى – إخفاء ليلة القدر في آخِر هذا الشَّهر؛ فإنها قَطْعًا في تلك الليالي لكنَّها غير مُعيَّنة لنا بحال؛ ليتميَّز المؤمنون المُسارِعون في الخيرات، المتنافسون في أسباب الفَوْز بالمغفرة والجنات، وما أعدَّ الله – تعالى – فيها للقائمين من جليل الهِبات وجَزِيل الأعطيات، ممَّن يتَّبِعون الشَّهوات ويستَثقِلون الطاعات، ويَزداد مَلُّهم من الشهر كلَّما توالت اللحظات ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3].

فأروا الله من أنفُسِكم خيرًا، وادَّخِروا عملَكم الصالح عنده ذُخرًا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 75 – 61].

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه يَغفِر لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم.

الألوكة

اقرأ أيضا  البنك ينصح العملاء باستخدام الخدمات الرقمية والهاتفية
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.