كيف نقرأ القرآن؟

كيف نقرأ القرآن (www.atadabbor.com)
كيف نقرأ القرآن
(www.atadabbor.com)

السبت،30 شعبان 1435الموافق28 حزيران/يونيو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
د. خالد بن عبدالكريم اللاحم
المطلب الأول: القيام بالقرآن (أن تكون القراءة في صلاة(
إنَّ قراءة القرآن إمَّا أن تَكونَ في صلاةٍ أو خارجَها، ولا شكَّ أنَّ هناك فرقًا بين الحالَيْنِ، وتفاوُتًا في الفضل بيْنَهما إجمالاً.
وقد دَلَّت بعض النّصوص على فضل قراءة القرآن في صلاة، وهو ما يُسَمَّى بـ: “القيام بالقرآن أو التَّهَجُّد به”، ومِن ذلكَ قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} [المزمل: 1 – 7]، وقول الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، وسُئل النبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – عن أفضل الصلاة فقال: ((طول القيام، أو القنوت))، وهذا في بعض ألفاظ الحديث[1]، وقال – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتَيْنِ: رجل آتاه الله القُرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار))[2]، عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – أنَّه قال: ((مَن قام بعشر آيات لم يكتب منَ الغافلين، ومَن قام بمائة آية كتب منَ القانتين، ومَن قام بألف آية كتب من المقنطرين))[3]، وعن عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((مَن نام عن حِزْبِه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنَّما قرأه منَ الليل))[4]، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((أيحبُّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟))، قلنا: نعم، قال: ((فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة خير له من ثلاث خلفات عظام سمان))[5]، وعن ابن عمر عن النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه))[6].

ودلَّت نصوص على أنَّ العبد إذا دخل في الصلاة فإنَّه يزداد قربًا منَ الله تعالى، وأنه سبحانه يقبل عليه بوجهه، من ذلك: عن أنس – رضيَ الله عنه – أنَّ النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: قال: ((أيُّها الناس، إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة فإنه مُنَاجٍ ربَّه، وربه فيما بينه وبين القبلة))[7]، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إذا كان أحدُكُم في صلاة فلا يبزقنَّ أمامه؛ فإنَّه مستقبلٌ ربَّه))[8]، قال ابن جُرَيج: قلت لعطاء: أيَجعل الرجل يده على أنفه أو ثوبه؟ قال: فلا، قلت: مِن أجل أنَّه يناجي ربه؟ قال: نعم، وأحب ألاَّ يخمر فاه[9]، قال عطاء: بلغنا أن الربَّ يقول: إلى أين تلتفت؟ إليَّ، يا ابن آدم، إني خير لك ممن تلتفت إليه[10].

فيُؤخَذ ممَّا سَبَق ذكره منَ النُّصوص تفضيل قراءة القرآن في الصلاة على قراءته خارجها، وأنه أعظم أجرًا وأعظم أَثَرًا.

ولو لم يكن في القراءة داخل الصَّلاة إلاَّ الانقطاع عن الشَّواغل والمُلهيات لكَفَى، فإن المُصَلِّي إذا دَخَل في الصَّلاة حرم عليه الكلام والالتفات والحركة من غير حاجة، فهذا أعوَن على التدبُّر والتَّفَكُّر وأجمع للقلب، وأيضًا فإنَّ مَن حوله لا يقاطعه ولا يشغله ما دام في صلاته.

المطلب الثاني: أن تكون القراءة في ليل
إنَّ وقت السَّحَر من أفضل الأوقات للتَّذَكُّر؛ فالذَّاكرة تكون في أعلى مستوى بسبب الهدوء والصَّفاء، وبسبب بركة الوقت؛ حيث النُّزول الإلهي وفتح أبواب السماء.

فأيُّ أمر تريد تثبيته في الذَّاكرة بحيث تَتَذَكره خلال النهار فقُم بمراجعته في هذا الوقت.

وقد استفاد من هذا أهل الدنيا من أهل السياسة والاقتصاد وخاصة الغرب؛ حيث ذكر عدد منهم أنه يقوم بمراجعة لوائحه أو حساباته أو معاملاته وأوراقه في مثل هذا الوقت، وأنه يوفق للصواب في قراراته، فأهل القرآن أهل الآخرة أولى باغتنام هذه الفُرصة لتَثبيت إيمانهم وعلمهم.

وممَّا يدلُّ على كون القراءة في الليل أحد مفاتح التدبُّر قول الله – عَزَّ وجَلَّ -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وقول الله – عَزَّ وجَلَّ -:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6] قال ابن عباس – رضيَ الله عنهما -: هو أجدر أن يفقه القرآن، ويقول ابن حجر – رضي الله عنه – عن مُدارَسَة جبريل لرسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – في كل ليلة من رمضان: “المقصود منَ التلاوة الحضور والفَهم؛ لأنَّ اللَّيل مظنَّة ذلك لما في النَّهار من الشَّواغل والعوارض الدنيويَّة والدِّينيَّة” ا. هـ[11]، قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، وقال – عز وجل -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أو كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الإنسان: 23 – 26].

قال الحسن بن علي – رضيَ الله عنهما -: “إنَّ من كان قبلكم رَأَوُا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يَتَدَبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار” ا. هـ[12]، والشاهد قوله: “يَتَدَبرونها باللَّيل”، قال ابن عمر: “أول ما ينقص منَ العبادة: التَّهَجُّد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة”[13].
وقال الشيخ عطية سالم حاكيًا عن شيخه الشنقيطي: وقد سمعت الشيخ يقول: “لا يثبت القرآن في الصدر، ولا يسهل حفظه، ويُيَسِّر فهمه إلاَّ القيام به في جوف الليل” ا. هـ[14]، قال السري السقطي – رحمه الله -: “رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل”[15]، قال النَّووي: “ينبغي للمرء أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر، وفي صلاة اللَّيل أكثر والأحاديث والآثار في هذا كثيرة، وإنَّما رجحت صلاة الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب وأبعد عنِ الشَّاغلات والمُلهيات والتَّصَرُّف في الحاجات، وأصون عنِ الرِّياء وغيره منَ المُحبطات، مع ما جاء به الشَّرع من إيجاد الخيرات في اللَّيل، فإنَّ الإسراء بالرَّسول كان ليلاً” ا. هـ[16]، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((مَن نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرَأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنَّما قَرَأَهُ منَ اللَّيل)) ا. هـ [17]، وفي هذا دلالة واضحة على أنَّ الأصل في القيام بالحزب منَ القرآن هو الليل، وفي حالة العذر فإنَّه يُعطَى الثواب نفسه إذا قضاه في النهار، قال أبو داود الجفري: دخلت على كرز بن وبرة الحارثي الكوفي في بيته فإذا هو يبكي، فقلت: ما يبكيكَ؟ قال: إن بابي مغلق وإن ستري لمسبل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة، وما هو إلاَّ مِن ذنب أحدثته[18]، فهذا يدل على أن لقراءته في الليل مزيةً مهمة وفضلاً عظيمًا يتحَسَّر عليه من يَعرِف قيمته، قال ابن أبي مليكة: سافرت مع ابن عباس – رضي الله عنهما – مِن مكة إلى المدينة، فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفًا حرفًا ثم يبكي حتى تسمع له نشيجًا[19].

إنَّ القراءة للقلب مثل السقي للنبات؛ فالسقي لا يكون في حر الشَّمس فإنَّ هذا يضعف أثره خاصَّة مع قلَّة الماء فإنه يتبخر، وكذلك قراءة القرآن إذا كانت قليلة، وكانت في النهار وقت الضَّجيج والمشغلات، فإن ما يرد على القلب منَ المعاني يتبخر ولا يُؤَثِّر فيه، وهذا يجيب على تساؤُل البعض إذ يقول: إنِّي أُكثر قراءة القرآن لكن لا أَتَأَثَّر به فلمَّا سألته متى تقرأ القرآن؟ تَبَيَّن أن كل قراءته في النهار وفي وقت الضَّجيج وبشيء منَ المُكَابَدة لحصول التركيز فكيف سيَتَأَثَّر؟

المطلب الثالث: التَّحزيب الأُسبُوعي للقرآن أو بعضه
القرآن أُنزلَ ليُعمَل به، ووسيلة العمل به العلم به أولاً، وهو يحصل بقراءته وتَدَبُّره، وكلمَّا تقاربتْ أوقات القراءة، وكلَّمَّا كَثُرَ التَّكرار كان أقوى في رسُوخ معاني القرآن الكريم، ومن أجل ذلك كان السَّلَف يحرصون على كثرة تلاوته وتَكرارها، ومَن ظَنَّ أنَّهم يقرؤونه من أجل ثواب القراءة فحسب فقد قصر فهمه في هذا الباب، وقراءة القرآن مثل العلاج، لا بدَّ أن يكون بمقدار معيَّن لا يزيد عليه ولا ينقص، حتى يحدثَ أثره مثل المُضاد الحيوي.. إن طالت المدة ضعف أثره، وإن تقاربَت أكثر منَ المُنَاسب أَضَرَّ بالبَدَن؛ فكذلكَ قراءة القرآن، المُدَّة التي أقرَّها النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – لأمته لِمَن رغب في الخير هي سبعة أيام إلى شهر، ونَهَى عن أقل من ثلاث، وجاءت نصوص في النَّهي عن هَجْر القرآن أكثر مِن أربعين يومًا.

اقرأ أيضا  وحدانية الله والإخلاص له

السَّلَف يختمون القرآن كل أسبوع:
عن أوس بن حذيفة الثقفي قال: قدمنا على رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – بني مالك في قُبَّة له، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائمًا على رجليه حتى يراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ويقول: ((ولا سواء كنا مُستَضعَفين مُستَذَلِّين فلمَّا خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم نُدَال عليهم ويُدَالُون علينا))، فلمَّا كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلت: يا رسول الله، لقد أبطأت علينا الليلة قال: ((فإنَّه طرأ عليَّ حزبي منَ القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمَّه))، قال أوس بن حذيفة سألت أصحاب رسول الله: كيف يُحَزِّبُونَ القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المُفَصِّل[20]، وذكر عن عثمان – رضي الله عنه – أنَّه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة ويختم ليلة الخميس، وعن عائشة – رضيَ الله عنها – قالت: إنِّي لأقرأ جُزئي – أو قالت: سبعي – وأنا جالسة على فراشي أو على سريري[21]، وقال عبدالله بن مسعود – رضيَ الله عنه -: لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرؤوه في سبع، ويحافظ الرجل على حزبه[22].

قال النووي عن الختم في سبع: فعل الأكثرين منَ السَّلَف.

وقال السيوطي: وهذا أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثر منَ الصَّحابة وغيرهم.

أهمية تحزيب القرآن والمحافظة عليه:
عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((مَن نامَ عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتبَ له كأنَّما قرأه منَ الليل))[23].

قال عقبة بن عامر الجهني – رضيَ الله عنه -: “ما تركتُ حزب سورة منَ القرآن من ليلتها منذ قرأت القرآن”[24]، وعنِ المُغيرة بن شعبة قال: استأذن رجل على رسول الله وهو بين مكة والمدينة، فقال: قد فاتني الليلة حزبي منَ القرآن وإنِّي لا أوثر عليه شيئًا[25]، عن خيثمة قال: انتهيت إليه – رضي الله عنه – يعني: عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – وهو يقرأ في المُصحَف، فقال: هذا حزبي الذي أريد أن أقوم به الليلة[26]، عن أفلح عن القاسم قال: كنا نأتي عائشة قبل[27] صلاة الفجر فأتيناها ذات يوم فإذا هي تصلي، فقالت نمت عن حزبي في هذه الليلة فلم أكن لأدعه[28]، وعن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنَّ رجلاً استأذنَ على عمر – رضي الله عنه – بالهاجرة فحجبه طويلاً ثمَّ أذنَ له، فقال: إنِّي كنتُ نمتُ عن حزبي فكنتُ أقضيه [29]، وعن ابن الهاد قال سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي: في كم تقرأ القرآن؟ فقلت: ما أحزبه، فقال لي نافع: لا تقل ما أحزبه؛ فإن رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – قال: ((قرأت جزءًا منَ القرآن))[30].

فهذه النُّصوص وغيرها مما نقل عنِ السَّلَف في هذه القضيَّة المهمَّة تُؤَكِّد على ضرورة تحزيب القرآن والمُحَافَظة على ما يتم تحزيبه، وأن يكون له الأولويَّة الأولى في كل وقت.

ينبغي أن يوجدَ الحرص التَّام عليه وأن يُقَدَّمَ على كل عمل، وألاَّ يهدأ لك بالٌ حتى تقوم به، حتى تؤديه في وقته أو تقضيه إن فات أداؤه في وقته، إنَّ العمل الذي لا تقضيه إذا فات يعني تساوي الفعل والتَّرك عندك، وهذا دليل على عدم أهميته لديك.

متى وجد هذا الحرص فهو مفتاح النَّجاح في الحياة، إنَّه مفتاحٌنجاحه لا يحتاج إلى إثباته بالتَّجربة؛ فهو ثابت بالخَبَر عن الله تعالى وعن رسوله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وهل يعقل أو يتصور أن يوجد اتِّباع دون قراءة مستمرَّة، دون مذاكرة لقواعده وتوجيهاته، كما سبق البيان أنَّنا في واقع الحياة نجد أنَّ الإداري الذي لا يحفظ اللاَّئحة ولا يعي ما فيها هو إداري فاشل، والطَّالب الذي لا يذاكر دروسه كذلك، ومتى علم الله منكَ صدق الرَّغبة والحرص على هذا الغذاء فإنَّه يفتح لكَ أبوابه ويبارك لك فيه، ويمتد أثره ليشمل جميع جوانب حياتك. لا أقول إنَّ التَّجربة تشهد لذلكَ، فثبات نتائج هذا العمل أقوى وأصدق من أن تخضعَ للتَّجربَة، وما يوجد في حياتنا من نقص إنَّما هو بسبب ترك وإهمال هذا العمل اليسير على مَن يَسَّرَه الله عليه، العظيم في نفعه وأثره، الشامل في تحقيق النجاح، الكامل لكل مَن أخذ به بدقَّة، وهو مَجَّاني لا يحتاج إلى دورات ولا رسوم ولا مدرب، إنَّ عادات النَّجاح ليست سبعًا ولا عشرًا بل هي عادةٌ واحدة! إنَّها المُحَافَظَة على قراءة حزبكَ منَ القرآن؛ بل إنَّها عبادة وليست عادة، مَن يَسَّرَ الله له المُحَافَظة عليها حصلت له كل معاني النَّجاح الدنيويَّة والدِّينيَّة.

التَّدَرُّج في التَّطبيق:
القيام بالقرآن كاملاً في كل أسبوع يحتاج الوصول إليه إلى التَّدَرُّج والتَّدريب شيئًا فشيئًا، ومن ذلك تطبيق قاعدة: ((أدومه وإنْ قلَّ))؛ فمنَ المُمكن أن تكونَ البداية بالمُفَصل يحزبه سبعة أحزاب لكل يوم من أيام الأسبوع حزب.

أو منَ الممكن أن تكونَ البداية بجزء (عَمَّ)، يقسمه سبعة أقسام وكل ليلة يقرأ بقسم، يكرر هذا كل أسبوع. ثم ينظر النتيجة كيف تكون؟

وعندما يرى الأثر والفائدة فإنَّ هذا سيدفعه إلى الزِّيادة، ولتكن بالتَّدريج فيزيد المقدار وبنفس الطريقة يتم توزيع المقدار الجديد إلى سبعة أقسام، كل قسم منها يقرأ في ليلة بحيثُ يختم المقدار كل أسبوع حتى يرسخَ.

تنبيه:
الأَولَى أن يكون تحزيب القرآن وتقسيمه على السور – قدر الإمكان – بمعنى أن تقرأَ السُّورة في اللَّيلة الواحدة كاملة، وأن يكونَ التقسيم والتوزيع مُتوافقًا مع نهايات السور، وهذا هو السنة، وعليه عمل الصحابة والتابعين، أمَّا الأحزاب والأجزاء والأثمان المعروفة اليوم فلم تأتِ إلاَّ مُتَأخِّرة، علاوة على ما فيها من بتر للمعاني وتقطيع للسور، ومَن أراد تفصيل القول في هذه المسألة فليراجع ما كتَبه شيخ الإسلام ابن تيميَّة في “الفتاوى”، الجزء: الثالث عشر.

المطلب الرَّابع: أن تكونَ القراءة حِفْظًا
مثل حافظ القرآن وغير الحافظ مثل اثنين في سفر الأول زاده التمر، والثاني زاده الدقيق، فالأول يأكل متى شاء وهو على راحلته، والثاني لا بدَّ له من نزول وعجن وإيقاد نار وخبز وانتظار نضج.

والعلم مثل الدواء لا يؤثر حتى يدخل الجوف ويختلط بالدم، وما لم يكن كذلك فإنَّ أثره مؤقَّت.

ومثل الجهاز المُزَوَّد ببطارية والجهاز الذي ليس كذلك، الأول يمكن أن يشتغل في أيِّ مكان، أمَّا الثاني فلا بدَّ من مَصدر كهرباء.

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إنَّ الذي ليس في جوفه شيء منَ القرآن كالبيت الخرب))[31].

وقال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: “أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى رحت فهي معي”، وهو يريد بذلك القرآن والسُّنَّة التي في صدره تثبته وتزيده يقينًا.

قال سهل بن عبدالله لأحد طُلاَّبه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا؟ قال: واغوثاه، لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبِمَ يَتَرَنَّم؟ فبمَ يَتَنَعَّم؟ فبمَ يناجي ربَّه؟!

يقول أبو عبدالله بن بشر القطان: “ما رأيتُ رجلاً أحسن انتزاعًا لما أرادَ مِن آي القرآن من أبي سهل بن زياد، وكان جارَنا، وكان يديم صلاة الليل وتلاوة القرآن فلكثرة درسه صار القرآن كأنَّه بين عَيْنَيه ينتزع منه ما شاء من غير تَعب”[32].

وهذا المقصود مِن كَون الحِفظ أحد مفاتح التَّدَبُّر؛ لأنَّه متى كانت الآية محفوظةً فتكون حاضرة ويتم تنزيلها على النَّوازل والمواقف التي تَمُرُّ بالشَّخص في الحياة اليوميَّة بشكل سريع ومباشر، أمَّا إذا كان القرآن في الرفوف فقط، فكيف يمكن لنا أن نُطَبقه على حياتنا؟

توضيح أَثَر الحفظ على الفَهم والتَّدَبُّر:
إنَّ علاج أيِّ مشكلة له ثلاث صور:
الأولى: المُعَالَجة الذِّهنيَّة المُجَرَّدة الشَّفهيَّة، من غير تحرير ولا ترتيب للحلول.
الثانية: المُعَالَجة المكتوبة المُحَرَّرة المُرَتَّبة.
الثالثة: المُعَالَجة الذِّهنيَّة لشيء مكتوبٍ مُسبقًا، ومُحَررٍ بمعنى حفظ ما تَمَّ التَّوَصُّل إليه في علاج المشكلة كتابيًّا.

والصورة الثالثة هي أقواها تليها الثانية ثُمَّ الأولى، وحفظ القرآن وتَكرار قراءته هو من النَّوع الثالث؛ فترديد الآية والتَّفَكُّر فيها، وهي محفوظة أفضل من تَكرارها؛ نظرًا لأنَّ مفعول الطريقة الأولى يستمر، بينما الثانية يقف عند إغلاق المصحف.

المطلب الخامس: تَكرار الآيات:
إنَّ الهدفَ مِنَ التَّكرار هو التَّوقُّف لاستحضار المعاني، وكلَّما كثُر التَّكرار زادتِ المعاني التي تفهم منَ النَّص.

والتَّكرار – أيضًا – قد يحصل لا إراديًّا تعظيمًا أو إعجابًا بما قرأ، وهذا مُشاهَد في واقع الناس حينما يعجب أحدهم بجملة أو قصة، فإنَّه يُكثر من تَكرارها على نفسه أو غيره.

التَّكرار نتيجة وثمرة للفَهم والتَّدَبُّر، وهو أيضًا وسيلة إليه حينما لا يوجد، قال ابن مسعود: “لا تهذوه هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة”[33].

اقرأ أيضا  إحصاء رسمي نادر في ميانمار يظهر تراجع عدد المسلمين

وقال أبو ذر – رضي الله عنه -: قام النبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – بآية حتى أصبح يرددها: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118][34].

عن عباد بن حمزة قال: “دخلت على أسماء، وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، قال: فَوَقَفَتْ عليها، فجعلتْ تستعيذ وتدعو قال عباد: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت، وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو”[35].

عن القاسم بن أبي أيوب أن سعيد بن جبير رَدَّدَ هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] بضعًا وعشرين مرَّة[36].

وقال محمد بن كعب القرظي: لأنْ أقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] و{القارعة}، أرددهما وأتَفَكَّر فيهما – أحبُّ من أن أبيت أهُذُّ القرآن[37].

وَرَدَّدَ الحسن البصري ليلة: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]، حتى أصبح، فقيل له في ذلك، فقال: “إن فيها معتبرًا ما نرفع طرفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر”[38].

وقام تميم الدَّاري بآية حتى أصبح {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21][39].

قال ابن القيم: “هذه عادة السَّلَف يردد أحدهم الآية إلى الصبح”[40].

قال النووي: وقد بات جماعة منَ السَّلَف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة[41].

قال ابن قُدامة: وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر، وأن يستحضر عظمة المُتَكَلِّم سبحانه ويتدبَّر كلامه؛ فإنَّ التَّدَبُّر هو المقصود منَ القراءة، وإن لم يحصل التَّدَبُّر إلاَّ بترديد الآية فليرددها[42].

المطلب السادس: ربط الألفاظ بالمعاني:
هو: ربط اللَّفظ بالمعنى أي: حفظ المعاني، وهو أيضًا: ربط الآية بالواقع، أي: تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليوميَّة التي تمر بالشَّخص، هو: التَّمَثُّل بالقرآن في كل حَدَث يحصل في اليوم واللَّيلة بحيثُ يبقى القرآن حيًّا في القلب تؤخذ منه الإجابات والتَّفسيرات للحياة، وتؤخذ منه التوجيهات والأنظمة في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الربط يعرف عند علماء النفس بـ”الاقتران الشرطي”، ويعرف في الوقت الحاضر عند علماء البرمجة بـ”الإرساء”، وهو ما يعرف في الكتاب والسُّنَّة بـ”الذكر أو التذكر”، وهو يعني تسلسل تذكر المعاني: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، وهو نوعان: عفوي، وقصدي.

فالعفوي: إلهامات وفتوحات يفتحها الله تعالى على مَن يشاء من عباده،والقصدي: هو أن تقوم َبالربط ثم التَّكرار حتى يرسخ ويثبتَ، والتَّكرار الذي يحقق الربط نوعان:
الأول: التَّكرار الآني.
الثاني: التَّكرار الأُسبوعي.
أمَّا التَّكرار الآني: فسبَق بيانه في مطلب: تَكرار الآيات، وأمَّا التَّكرار الأسبوعي: فسبق بيانه في مطلب: تحزيب القرآن.

كيفية التَّكرار:
أنْ تُكَرِّرَ اللَّفظ مع استحضار معنى جديد في كل مَرَّة حتى تمر على كل المعاني التي يمكن أن تَتَذَكَّرها منَ النَّص أو اللَّفظ، وقد سبق ذكر كلام الحسن البصري حين قام الليل كله يكرر قول الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فلمَّا قيل له، قال: إنَّ فيها معتبرًا ما نرفع طرفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة.

حساب الألفاظ والكلمات:
الألفاظ قوالب المعاني وحساباتها البَنكيَّة؛ فكلمةٌ عند شخص لها خمسة معانٍ، وعند آخر سبعة معانٍ، وعند ثالث: صفر خالية لا تعني له شيئًا.

إن إدراك ووعيَ الناسِ لآيات القرآن يتفاوت تفاوتًا كبيرًا مع أنَّ الآية هي الآية يقرؤها هذا ويقرؤها هذا، وإنَّ ما بينهما في عمق فَهم الآية أو الجملة كما بَيَّن المشرقَين، تجد مثلاً اثنين يسمعان الكلمة نفسها الأول يبكي والثاني يضحك! لماذا؟

مثال:
كلمة النار: الرجل الصالح المؤمن يبكي ويقشعرُّ جلده خوفًا مِن عذاب الله، والغافل يضحك لأنَّ هذه الكلمة تذكره بالشواء والمرح واللَّهو لا يفهم منها إلاَّ هذا؟

المطلب السابع: التَّرتيل
التَّرتيل يعني: التَّرَسُّل والتَّمَهُّل، ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى، بحيث يكون القارئ مُتَفَكِّرًا فيما يقرأ، قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، قال ابن كثير: أي اقرأه على تَمَهُّل فإنَّه يكون عونًا على فَهم القرآن وتَدَبُّره[43]، وكذلكَ كان يقرأ صَلَوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة – رضيَ الله عنها -: “كان يقرأ السُّورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها”[44]، وعن أنس – رضي الله عنه – أنَّه سُئل عن قراءة رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – فقال: “كانت مدًّا يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم”[45]، وعن أم سَلَمة – رضي الله عنها – أنَّها سُئلَت عن قراءة رسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – فقالت: “كان يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 1 – 4][46].

قال الحسن البصري: يا ابن آدم، كيف يرق قلبك وإنَّما همتك آخر السورة[47]، وقد أنكر ابن مسعود على نهيك بن سنان سرعته في القراءة حين قال: “قرأت المُفَصل البارحة”، فقال عبدالله – رضي الله عنه -: “هذًّا كهَذِّ الشعر؛ إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القُرَناء التي يقرأ بهنَّ النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم[48]، وقال ابن مسعود لعلقمة – وقد عجل في القراءة -: “فداك أبي وأمي، رتل فإنَّه زَيْن القرآن”[49]، قال ابن مفلح: “أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها”[50].

وصفة قراءة القرآن التي نُقلَت إلينا عن النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – وصحابته – رضوان الله عليهم – تدلُّ على أهميَّة التَّرَسُّل وتزيين الصَّوت بالقراءة، فمَن ينظر إلى أيِّ كتاب في التَّجويد يدرك هذه الحقيقة بجلاءٍ ووُضُوح، ولم ينقل ذلك إلاَّ للقرآن؛ فالأحاديث والخُطَب والمَوَاعظ لم ينقل فيها شيء من ذلك، وإنَّه لفَرق كبير في التَّمَهُّل والتَّأَنِّي بين مَن يُطَبِّق أحكام التجويد، ومَن لا يطبقها بل يهذُّ القراءة هذًّا.

أخرج مسلم عن حذيفة – رضيَ الله عنه – قال: “صَلَّيت مع النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – ذات ليلة فافْتَتَح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسِّلاً إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سَبَّح، وإذا مَرَّ بسؤال سأل، وإذا مَرَّ بتَعَوُّذ تَعَوَّذَ”[51].

وإذا تعارضَ مقدار القراءة مع صفتها قُدِّمت الصفة:
سُئل زيد بن ثابت – رضيَ الله عنه -: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟ قال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشر أحب إليَّ، وسلني: لم ذلك؟ قال: فإني أسألك، قال: لكي أتدبره وأقف عليه” ا. هـ[52].
قال ابن حجر: “إنَّ مَن رَتَّل وتَأَمَّل كمَن تَصَدَّقَ بجوهرة واحدة ثمينة، ومَن أسرع كمَن تَصَدَّقَ بعدَّة جواهر، لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر مِن قيمة الأخريات، وقد يكون العكس” ا. هـ[53].

والصَّحيح: أنَّ مَن أسرعَ فقد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد قراءة القرآن وهو: ثواب القراءة، ومَن رَتَّلَ وتَأَمَّلَ فقد حَقَّقَ المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن، واتَّبع هدي النبي، وصحابته الكرام.

المطلب الثامن: الجَهْر بالقراءة:
قال – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((ليس منَّا مَن لَم يتغنَّ بالقرآن يجهر به))[54]، وعَن أبي هريرة – رضيَ الله عنه – أنَّه سمعَ النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – يقول: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن))[55]، وعن أبي موسى – رضيَ الله عنه – قال: قال النبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إنِّي لأعرف أصوات رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن باللَّيل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنَّهار))[56]. وعن أم هانئ – رضي الله عنها – قالتْ: كنتُ أسمع قراءة النبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – وأنا على عريشي[57]، وعن أبي قتادة – رضيَ الله عنه – أنَّ النَّبيَّ – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – خرج ليلة فإذا بأبي بكر يصلي يخفض صوته، ومَرَّ على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو يصلي رافعًا صوته، قال: فلمَّا اجتمعا عند النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – قال: ((يا أبا بكر، مررت بك وأنت تُصَلِّي تخفض من صوتكَ؟)) قال: قد أسمعت مَن ناجيت يا رسول الله، وقال لعمر: ((مررتُ بكَ وأنتَ تُصَلِّي ترفع صوتك؟)) فقال: يا رسول الله، أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئًا))، وقال لعمر: ((اخفض من صوتك شيئًا))[58]، وسُئل ابن عباس عن جهر النَّبي – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – بالقراءة باللَّيل فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها فعل[59].

وقال ابن عباس لرجل ذكر له أنَّه سريع القراءة قال له: “إن كنتَ فاعلاً فاقرأ قراءة تسمعها أذنكَ، ويعيها قلبك” ا. هـ[60].

اقرأ أيضا  الخوف من الله: نعيم في الدنيا والآخرة

وعن ابن أبي ليلى قال: إذا قرأت فأسمعْ أذنيك؛ فإنَّ القلبَ عدل بين اللسان والأذن[61].

إنَّ الجهرَ بما يدور في القلب أعون على التَّركيز والانتباه؛ ولذلكَ تجد الإنسان يلجأ إليه قسرًا عندما تَتَعَقَّد الأمور ويصعب التَّفكير.

البعض عند قراءته للقرآن يسر بقراءته طلبًا للسرعة وقراءة أكبر قدر ممكن، وهذا خطأ، ومنَ الواضح غياب قصد التَّدَبُّر في مثل هذه الحالة.

إنَّ الجهر درجات؛ أدناها أن يسمع المرء نفسه، وتحريك أدوات النُّطق من لسان وشفتين، وأعلاها أن يسمع من قرب منه، فما دونه ليس بجهر وما فوقه يعيق التَّدَبُّر ويرهق القارئ ويُؤذِي السامع.

ومن فوائد الجهر استماع الملائكة الموكلة بسماع الذِّكر لقراءة القارئ، وهرب وفرار الشياطين عن القارئ والمكان الذي يقرأ فيه، وفي ذلك تطهير للبيت وتعطير له وجعله بيئة صالحة للتربية والتعليم.

إنَّ بيتًا يكثر فيه الجهر بالقرآن هو بيت – كما قال أبو هريرة: “كثر خيره، وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشياطين، والبيت الذي لا يُتلَى فيه كتاب الله ضاقَ بأهله، وقلَّ خيره، وحضرته الشياطين، وخرجت منه الملائكة”[62].
________________________________________
[1]- “صحيح مسلم” ج1/ ص520 (756)، “صحيح ابن حبَّان” ج2/ ص76 (361)، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص186 (1155)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص456 (1421)، “سنن البيهقي الكبرى” ج3/ ص8 (4461)، “سنن الترمذي” ج2/ ص229 (387)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص222 (8346)، “مصنف عبدالرَّزاق” ج3/ ص72 (4843)، “المعجم الأوسط” ج2/ ص323 (2106).
[2]- “صحيح البخاري” ج1/ ص39 (73)، ج4/ ص1919 (4737)، ج4/ ص1919 (4738)، “صحيح مسلم” ج1/ ص559 (815)، ج1/ ص559 (816)، “صحيح ابن حبان” ج1/ ص292 (90)، “سنن النسائي الكبرى” ج5/ ص27 (8072)، “سنن ابن ماجه” ج2/ ص1407 (4208)، “سنن الترمذي” ج4/ ص330 (1936).
[3]- “صحيح ابن حبان” ج6/ ص310، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص181 (1144)، “موارد الظمآن” ج1/ ص172 (662)، “سنن أبي داود” ج2/ ص57 (1398).
[4]- “صحيح مسلم” ج1/ ص515 (747)، “صحيح ابن حبان” ج6/ ص369 (2643)، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص195 (1171)، “سنن النسائي الكبرى” ج1/ ص458 (1464)، “سنن أبي داود” ج2/ ص34 (1313)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص426 (1343)، “سنن الترمذي” ج2/ ص474 (501).
[5]- “صحيح مسلم” ج1/ ص552 (802)، “سنن ابن ماجه” ج2/ ص1243 (3782)، “سنن الدارمي” ج2/ ص523 (3314)، “مسند أبي عوانة” ج2/ ص447 (3777)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج6/ ص132 (30073)، “مسند أحمد بن حنبل” ج2/ ص396 (9141).
[6]- “صحيح مسلم” ج1/ ص544 (789)، “سنن النسائي الكبرى” ج5/ ص20 (8043)، “مسند أبي عوانة” ج2/ ص456 (3811)، “مسند أحمد بن حنبل” ج2/ ص35 (4923).
[7]- “صحيح البخاري” ج1/ ص406 (1156)، “سنن النسائي الكبرى” ج1/ ص191 (528)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص251 (763)، “مسند أبي عوانة” ج1/ ص336 (1198)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص143 (7461).
[8]- “صحيح مسلم” ج1/ ص390 (551)، “سنن الدارمي” ج1/ ص378 (1397)، “المعجم الكبير” ج8/ ص313 (8168)، “مسند أحمد بن حنبل” ج2/ ص415 (9355).
[9]- “تعظيم قدر الصلاة”: 1 – 190.
[10]- “تعظيم قدر الصلاة”: 1 – 190.
[11]- “فتح الباري” ج9/ ص45.
[12]- “التبيان في آداب حملة القرآن” ج1/ ص29.
[13]- “خلق أفعال العباد” ج1/ ص111.
[14]- مقدمة “أضواء البيان”: 4.
[15]- “رهبان الليل” للعَفَّاني: 1 – 526.
[16]- “التبيان في آداب حملة القرآن”: ج1/ ص34.
[17]- “صحيح مسلم” ج1/ ص515 (747)، “صحيح ابن حبان” ج6/ ص369 (2643)، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص195 (1171)، “سنن النسائي الكبرى” ج1/ ص458 (1464)، “سنن أبي داود” ج2/ ص34 (1313)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص426 (1343)، “سنن الترمذي” ج2/ ص474 (581).
[18]- “حلية الأولياء”: ج5 – ص79.
[19]- “مختصر قيام الليل”: 131.
[20]- “سنن أبي داود” ج2/ ص55 (1393)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص427 (1345)، “مسند أحمد بن حنبل” ج4/ ص9 (16211)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص242 (8583)، “المعجم الكبير” ج1/ ص220 (599)، “مسند الطيالسي” ج1/ ص151 (1108)، “المغني عن حمل الأسفار” ج1/ ص225 (875)، وقال: حديث حسن، “فتاوى ابن تيميَّة” ج13/ ص408، التذكار 104.
[21]- “مصنف ابن أبي شيبة” 143 (30182).
[22]- انظر: “مجمع الزوائد” ج2/ ص269، رواه الطَّبَراني في “الكبير”، ورجاله رجال الصَّحيح.
[23]- “صحيح مسلم” ج1/ ص515 (747)، “صحيح ابن حبَّان” ج6/ ص369 (2643)، “صحيح ابن خُزَيمة” ج2/ ص195 (1171)، “سنن النسائي الكبرى” ج1/ ص458 (1464)، “سنن أبي داود” ج2/ ص34 (1313)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص426 (1343)، “سنن الترمذي” ج2/ ص474 (581).
[24]- “فضائل القرآن” لأبي عبيد 95.
[25]- “كنز العمال” ج2/ ص141 (4137).
[26]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص240 (8559).
[27]- يفهم منَ السِّياق أنَّ مجيئهم هذه المرة بعد طلوع الشمس، أو أنَّ صواب العبارة (بعد صلاة الفجر).
[28]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج1/ ص416 (4784).
[29]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج1/ ص416.
[30]- “سنن أبي داود” ج2/ ص55 (1392).
[31]- “سنن الترمذي” 5 – 177 (2913)، وقال: حسن صحيح، “المستدرك” 1 – 741 (2037)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، “سنن الدارمي” 2 – 521 (3306)، “المعجم الكبير” للطبراني، 12 – 109 (12619)، “مسند الإمام أحمد”: 1 – 223.
[32]- “تاريخ بغداد” 5 – 45، “سير أعلام النبلاء” 15 – 521.
[33]- “تفسير البغوي” 4 – 407، “شُعَب الإيمان” للبيهقي، 1 – 344، “أخلاق حملة القرآن” 19.
[34]- “سنن ابن ماجه” ج1/ ص429 (1389)، قال في “مصباح الزجاجة”: إسناده صحيح، “سنن النسائي” (المجتبى)، 1 – 177، “مستدرك الحاكم” 1 – 241، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في “سنن النسائي” وحسنه الأرناؤوط في “مختصر منهاج القاصدين”.
[35]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص 25 (6037).
[36]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج7/ ص203.
[37]- “الزهد” لابن المبارك، 97
[38]- “مختصر قيام الليل” للمروزي، 151.
[39]- “مختصر منهاج القاصدين” 68.
[40]- “مفتاح دار السعادة” 1 – 222.
[41]- “الأذكار” 50.
[42]- “مختصر منهاج القاصدين” 68.
[43]- “تفسير ابن كثير”: 1453.
[44]- “صحيح مسلم” 4/ 507.
[45]- “فتح الباري” 8/ 709.
[46]- “مسند أحمد” 6/ 302، “سنن أبي داود” 4/ 294، “تحفة الأحوذي” 8/ 241.
[47]- “مختصر قيام الليل” المروزي، 150.
[48]- “صحيح البخاري” ج1/ ص269 (742)، ج4/ ص1924 (4756)، “صحيح مسلم” ج1/ ص564 (822)، ج1/ ص565 (822)، “صحيح ابن حبان” ج5/ ص118 (1812)، “سنن النسائي الكبرى” ج1/ ص344 (1077)، “سنن البيهقي الكبرى” ج2/ ص60 (2291)، “مسند أحمد بن حنبل” ج1/ ص417 (3958).
[49]- “سنن البيهقي الكبرى” ج2/ ص54 (2259)، “سنن سعيد بن منصور” (2) ج1/ ص225 (54)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج2/ ص255 (8724)، ج6/ ص140 (30152).
[50]- “الآداب الشَّرعية” 2/297.
[51]- “صحيح مسلم” ج1/ ص536 (772)، “سنن النسائي” (المجتبى)، ج3/ ص225 (1664).
[52]- “الموطأ” 1 – 201.
[53]- “فتح الباري” 3 – 89، وذكر نحوه السيوطي في “الإتقان”.
[54]- “صحيح البخاري” ج6/ ص2737 (7089)، “المستدرك على الصحيحين” ج1/ ص758 (2091)، “صحيح ابن حبان” ج1/ ص326 (120)، “سنن البيهقي الصغرى” ج1/ ص558 (1024)، “سنن أبي داود” ج2/ ص74 (1469)، “سنن البيهقي الكبرى” ج2/ ص54 (2257)، وغيرها من كتب السنة.
[55]- “صحيح البخاري” ج6/ ص2743 (7105)، “صحيح مسلم” ج1/ ص545 (792)، “سنن أبي داود” ج2/ ص75 (1473)، “سنن النسائي” (المجتبى)، ج2/ ص180 (1017).
[56]- “صحيح البخاري” ج4/ ص1547 (3991)، “صحيح مسلم” ج4/ ص1944 (2499)، “مسند أبي عوانة” ج2/ ص459 (3829)، “مسند أبي يعلى” ج13/ ص305 (7318).
[57]- “سنن النسائي” (المجتبى)، ج2/ ص178 (1013)، “سنن ابن ماجه” ج1/ ص429 (1349)، “مصنف ابن أبي شيبة” ج1/ ص321 (3672)، “مسند أحمد بن حنبل” ج6/ ص341 (26939)، وحسنه الألباني في “صحيح سنن النسائي”.
[58]- “سنن أبي داود” ج2/ ص37 (1329)، “سنن الترمذي” ج2/ ص309 (447)، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص189 (1161)، “مصنف عبدالرزاق” ج2/ ص496 (4210)، “مسند أحمد بن حنبل” ج1/ ص109 (865)، “صحيح ابن خزيمة” ج2/ ص189 (1161)، “صحيح ابن حبان” ج3/ ص6 (733)، وصححه النووي في “المجموع” 3 – 391، والحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في “صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم” ص 109.
[59]- “مختصر قيام الليل” للمروزي، 133.
[60]- “سنن البيهقي الكبرى” ج2/ ص168 (2759), “فتح الباري” 9 – 89.
[61]- “مصنف ابن أبي شيبة” ج1/ ص321 (3670).
[62]- “الزهد” لابن المبارك، ج1/ ص273 (790).

المصدر: من كتاب: مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.