مسارات الفاعلية في القرآن الكريم
الأربعاء 9 صفر 1438 الموافق 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
سعيد بن محمد آل ثابت
مسارات الفاعلية في القرآن الكريم
- (الفاعلية لا الكَلِّية)، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76].
هذان مثالان ضربهما الله تعالى، أحدهما عالة وهو يمثل (الكَلِّية) فلا قدرة ولا إرادة ثم لا خيرية وهو نتيجة حتمية، ويقابله المثال الثاني، وهو العامل المستقيم، فكان الفعل (يأمر) حاضر لإثبات الحاضر لديه والمستقبل، ودال كذلك على الاستمرار في النفع والعطاء، هو في نفس الأمر فهو آمر بالعدل الذي قامت عليه السموات والأرض، ومن لوازم الفاعلية الاستقامة ابتداء، فليس صار فاعلًا وداعيًا وهو في غير المسلك الصحيح.
- (المبادرة لا الانتظار)،قال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 10، 11].
أصحاب الإيمان الكامل واليقين الصادق لا ينتظرون كرامات مرسلة، ولا جماهير مصفقة، فمتى اعتقدوا صحة الطريق قدموا أنفسهم وأموالهم رخيصة لدين الله دون سالف تطمينات، وكان العامل منهم خير وأسمى وأقرب لله من ذلك الذي لما عمّ الخير وضمن قلة التضحيات ساهم وقدّم. الفرق بين النموذجين لاشك أنه بارز، ولذا فالعامل الصادق لهذا الدين يدرك حقيقة المراحل التي تمر بها أمته وسنن الله التي تجري وجرت عليها، فلا يتأخر أو يصيبه الخمول والركود لأي سبب كان بل الإقدام والبذل مهما رُزئت الأمة، وكل مرحلة لها نموذجها ومنهجها المناسب، المهم عدم القعود.
- (الخيرية الأزلية)، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]
قال القرطبي: قال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس، نسوقهم بالسلاسل للإسلام. وها نحن نجد اليهود يسخّرون الآخرين لهم، بينما المسلمين يسخّرون أنفسهم للآخرين، فأين الخيرية الحقة؟ وقد سبق الإلماح حول هذه الآية في المقدمة، ولكن أضيف هنا أن سعة الخيرية (العمل والدعوة) تتسع للأمة كاملة “من رأى منكم منكرًا فليغيره”، فلا يستأسد بها أحد دون الآخر، وفي الجهة المقابلة لا يلقيها أحد على الآخر، فالكل مسؤول عن هذه الخيرية بالمراتب حسب استطاعته وعلمه “بلغوا عني ولو آية”. وحتى بين العصاة ذاتهم أن ينهى بعضهم بعضًا كما قرر ذلك غير واحد من أهل العلم في مفهوم قوله تعالى: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]. لكن هذا لا يجعل هناك فئة عالمة متفقهة تقود وتفتي وتعلم وتزكي إذ لا ينفع أن يكون الناس فوضى لا سراة لهم، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
- (بلاغُ الناس مؤشرُ الرجولة)، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس: 20].
لم نعرف اسمه، بل خبره وكنه ذلك في المعنى الذي يحمله. فعلى أنه في أقصى المدينة لكنه أتى، ولم يأتِ ماشيًا بل ساعيًا تاركًا قيود الأرض تتفلت من أقدامه يمنة ويسره لينقذ القوم ﴿ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾، هؤلاء هم الأولياء دأبهم العمل والمبادأة والحرص على أقوامهم، شعارهم “يا ليت قومي يعلمون”.
- (عملك هو أنت) قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴾ [النجم: 39، 40].
ليس لك أيها الإنسان سوى عملك، والعمل إما فردي النفع أو عام النفع، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 132]، وكلما كان أثرك وتأثيرك في الخلق حسنًا كان في عداد حسناتك، والحصيف الذي يسعى لإحياء حسناته بعد موته، فلا تموت أعماله بفناء جسده.
- (التنافس للآخرة) قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148].
هذه الدنيا دار عمل وبناء لآخرة فيها المستقر والقرار، ولم يجعل الله الدعوة للسباق في الدنيا البتة ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]. إنما مشي دون إسراع وأكل دون لهث. بل لا يلتفوا لدنياهم إلا مكرهين غير ذاكرين لها، فيوصيهم الله بأن لا ينسوا بعض حقوقهم فيها ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]. أعمال الآخرة هي همّ أولي الألباب ومهجة العاملين الصادقين ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26] ومن اصطفاه الله للعمل لدينه فهو المصطفى حقيقة وحكمًا، وهو من النوادر الثمينة، فثلثي القوم بين ظالم لنفسه ومقتصد، والثلث والثلث كثير سابق ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]. شعاره (لا يسبقني إلى الله أحد)، له في الدنيا شواهد كثر على خيريته ونفعه، فأجلّ ما يقدم من الصالحات هو توريثها في الدنيا حتى يرث الله الأرض من عليها، فاسمعوا وأطيعوا لخالقكم، قال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].
- (العمل والإتقان) قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]. دعوة للعمل والإخلاص والتفاني والجودة.
- (ورثة الله في الأرض) ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، والإرث لا يأتي إلا لمن يستحق، فقد عمر الأرض خيرًا وهدى، فخصّه الله أن يرثها المتقين، وعباده الصالحين. وقد تقرر ذلك عند الرسل ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، إنهم ورثة الله في هذه الأرض بإقامة دين الله فيها وتطبيقه. وليس هذا محصورًا في أمور الآخرة فحسب، بل هم أولى الناس بالعلوم الأخرى التي يحتاجها الناس لإصلاح أمور دنياهم ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].
فحين يعلم ذلك فلا يبقى في قلب المسلم شاغر يعطله عن السعي لعمارة الأرض والسعي في إصلاح الدين والدنيا؛ لأنه الوريث الحقيقي بشهادة الحق تبارك وتعالى، وليس لأحد حق سبقه لذلك، إلا إذا تخلى عن خيريته، وهذا محال بإذن من خلق وصيّر وكوّن تبارك وتعالى.
- (المدافعة فالتمكين أو الاستسلام فالجاهلية) قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].
هل يعجز الله أن ينصر دينه؟ هل يصعب على الله أن يمحق الأعداء؟ حاشا وكلا ولكنها سنته الماضية على من قبلنا والتي ستمضي علينا رغمًا عنا، وهي المدافعة بين قوى الخير والشر حتى تقوم الساعة، مدافعة للجاهلية مهما كان وزنها وأتباعها؛ لأننا لو تركناها أو تناسيناها ولو فترة زمنية طغت وأفسدت فوجب الدفاع والعمل ولو بالنزال ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193] ما أعظم هذا الوصف حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فبعض ضعاف اليقين يعتقد الفتنة في المدافعة والصراع، وأن القعود والركود هو الذي ينحّي الفتنة، وهذا هو عين الخذلان وسلم الحرمان، بل الفتنة في القعود، والنزال والدفاع هي التي تدفع الفتنة، فنحن لله تعالى، والله استخدمنا لإقامة دينه وشرعه وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فلا خيار في الخوض في دركات الركود والقعود والله يأمرنا بالتحرك والنهوض. روى الترمذي وأبو داود عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُالإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى اللهعليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195] فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ.[1] وهذه المدافعة تضعف وتقوى حسب أعيانها وليس حسب مناهجهم، فالمنهج واحد والرسالة واحدة، ولكن المدافعين يختلفون، فمتى قووا وأحسنوا كانوا، ومتى توخوا وحذروا وتواكلوا تنكبوا الطريق وزالوا.
- (صلاحية النجوى للعاملين فقط)قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]. النجوى في الأصل حرام، للحديث:”لا يتناجى اثنان دون ثالث، فإن ذلك يحزنه”، وهي مظنة الإثم والقطيعة والعدوان ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾ [المجادلة: 10]، لكن مع ذلك فهي للعاملين الفاعلين لها خصوصية أخرى؛ ليس كرامة لهم، بل لأنهم وظفوها التوظيف الصحيح، وهذه عادتهم دائما، وهي الاستفادة من الموارد بشكل صحيح قدر المستطاع، فإذا ما نظرت إلى نجواهم رأيتهم يبثون روح الحياة بين المتقاطعين، ويحضون على إيواء وتكريم الفقراء والضعفاء من المسلمين، وهم كذلك دائمًا في صناعة مشاريع لأفراد المسلمين وعامتهم في هذه النجوى التي كانت أداة شيطانية في أيد القاعدين والمارقين؛ بخلاف هؤلاء الأفذاذ الذين جعلوها مطية لدينهم واحتياجات أمتهم، وسخروها لوأد خلافاتهم وإعداد مشاريعهم، ونشر الفضيلة والخير والمعروف بين الناس.
- (أحسن القول) ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. قال الطبري: يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك.
- (الرسول في الكتب السابقة) ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]. قال ابن كثير: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر): هذه صفة الرسول في الكتب المتقدمة[2].
- (الربانيون لا يهنون ولا يضعفون ولا يسكنون) ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. قال السعدي: أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم.
- (الدعوة والفاعلية ليست حكرًا على أحد) ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29]. قال السعدي: ﴿ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.
- (أدنى ثمار الفاعلية الإعذار إلى الله وإقامة الحجة) ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164]، وقال سبحانه: ﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ [الملك: 8، 9] قال ابن كثير: يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه. وقال سبحانه: ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وقال جل من قائل: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21]. فالداعية الفاعل لا يتوقف مهما كانت التحديات ومهما تلاشت أمام عينيه البركات، حتى أنه قد يدعو ويعمل ليس إلا للإعذار والبلاغ.
- (القيام لا القعود) ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 2]. وفي أضواء البيان: (أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين، كما في قوله تعالى: ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97] تخويفا لهم. وقد يكون للمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به كما في قوله: ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾ [يس: 11] وقد يكون للجميع، أي: لعامة الناس كما في قوله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [يونس: 2]. وأما المنذر به فهو ما يكون يوم القيامة).
- (الاستكثار يولد القعود) ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 6]. قال سيد: (ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه: ﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾. وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء. ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه. بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه. فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله. وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله. لا المن والاستكثار)[3].
- (التنظير لا يكفي لإحقاق الحق) ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7]. حين أراد المؤمنون قافلة قريش من غير قتال أراد الله أمرًا أعظم، وفيه بذل وتضحية ولكن لمرام أعلى من المال ولبغية أسمى من غنى الحال، كانت الشوكة إرادة الله لإحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، وهكذا طريق الدعوات الصادقات لا يحق لها حق، ولا ترسو لها مبادئ دون بذل وتضحية.
- (ربانيتكم في دعوتكم) ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].
- (المنافقون يأمرون بالمنكر وأنتم تنهون عنه، وينهون عن المعروف وأنتم تأمرون به) ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]. قال القرطبي: (فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه).[4]
- (الإيمان ليس كافيًا) ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 113، 114] قال السعدي: فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير، ونهيهم عن كل شر، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
- (عاملون لا متفرجون) ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾ [هود: 121]. يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد: ﴿ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي: على طريقتكم ومنهجكم، ﴿ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾ أي: على طريقتنا ومنهجنا، ﴿ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [هود: 122]، أي: فستعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون. وقد أنجز الله لرسوله وعده، ونصره وأيده، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. [5]
- (عالميون لا محليون) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28]. قال ابن كثير: وقال قتادة في هذه الآية: أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم لله عز وجل. وهذا الذي قاله ابن عباس قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة”.
- (الحشرات (النمل) والحيوانات (الهدهد) دعاة خير) ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ، وقال جل من قائل: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 20 – 24].
- (دعاة ولو بلا وسائل) ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. فهذا يوسف عليه الصلاة والسلام يعطينا درسًا في أن الدعوة والفاعلية لا تُقيَد بقيود ولا بحدود، ولا يشترط لها وسائل ولا يلزمها أدوات سوى لوازمها المعلومة، وأقامها يوسف وهو مغترب في ظلمات السجن مظلوم مكلوم، فما عذر الطلقاء الأصحاء؟!
- (الموقنون الصابرون مرشحون للإمامة) ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]. قال السعدي: فما زالوا يتعلمون المسائل، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل، حتى وصلوا لذاك، فبالصبر واليقين، تُنَالُ الإمامة في الدين.
- (اللعنة للعالِم الخامد) ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159] قال السعدي: هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله ﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ الدالات على الحق المظهرات له، ﴿ وَالْهُدَى ﴾ وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، ﴿ فأولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ﴾ أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
- (الداعية المتحرك لا يحزن) ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]. قال ابن كثير: أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. وقال سبحانه: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8] قال السعدي: فليس عليك إلا البلاغ، وليس عليك من هداهم شيء.
- (الدعاة سبب لكشف الفساد) ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116]. قال ابن كثير: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض. وقوله: ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي: قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، لم يكونوا كثيرا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غيره، وفجأة نقمه; ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. وفي الحديث: “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب” ولهذا قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
- (المجاهدون المهاجرون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الصابرون على البلاء في طريق الدعوة والجهاد صفات أغلب الموعودين بالجنة في القرآن). ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]. ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]. ﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [آل عمران: 157]. ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]. ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195]. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]. ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصف: 10، 11]. ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
[1] سنن الترمذي ح 2898 سنن أبي داود ح 2151.
[2] “تفسير ابن كثير”، (2/ 281).
[3] “ظلال القرآن”، (ص:3755).
[4] “تفسير القرطبي”، (4/ 47).
[5] “تفسير ابن كثير”.
المصدر: الألوكة