مضايا يلتهمها الجوع
رشاد أبو داود
السبت 6 ربيع الثاني 1437//16 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
مصيف يصبح متحفاً. ليس لمنحوتات فنية بل لهياكل بشرية حية. أطفال ونساء ومسنون لم يبق منهم سوى العظم. خريف حياة. أرض أول الثلج تحترق، تختنق برائحة الموت، وليت الموت بالرصاص والبراميل المتفجرة، ليته موت طبيعي بمرض نقصان المناعة، إنه موت بسبب نقصان الطعام، الجوع كافر قالوا، بل قاتل كما يحدث الآن في مضايا وبقين والزبداني.
أعرفها جيداً الطريق من الشام إلى الزبداني، بالباص كان يمكنك أن تصلها وبالقطار قبل أن تدخل عصر الدمار. الثلج يصلها قبل دمشق، بردها دافئ وصيفها أخضر بارد.
بساتين تنضج فاكهتها قبل الموسم، تين وعنب وبرقوق وخوخ، جوز ولوز وعلى الشرفات يتعمشق الياسمين. أطفال، صبيان وبنات، خدودهم يلفحها برد تشرين وكانون فتحمر كتفاح الزبداني. يلعبون بالثلج، يتراشقون بضحكات مزركشة بلون الفرح الأبيض. اليوم لا خدود تحمر ولا ضحكات وربما لا أطفال. لقد التهمهم الجوع. في مضايا شقيقة الزبداني وبقين لا صوت سوى الأنين.
أعرفها جيدا مضايا وشقيقاتها المتناثرات على السفح كنجمات سقطن من السماء على الأرض. كانت وجهة رحلاتنا الجامعية وساحة شقاوة الطلبة في مواسم الحنين. كنا في العشرينات والتاريخ أوائل السبعينات. مصايف للزائرين وساحات فرح للتزحلق على الثلج.
شباب في أول العمر وآخر الموضات ورجال بالشراويل والطرابيش جنبا إلى جنب والطرق ضيقة تتسع لسنين، سلال قش تمتلئ بالتين والتفاح، أكياس خيش وشنكليش، رائحة يانسون ومتّة وزهورات شراب للطيبين.
«مضايا» تتذكر ما مضى، تضع يدها على خدها وتبكي. تبكي دمعا ودماً، تمد اليد الأخرى للعالم «أنقذونا.. إننا نموت جوعاً»، ومتى كان العالم يسمع لغير صوت القنابل والقذائف والمصالح؟ متى كان للإنسان مكان في حسابات الساسة والسياسيين؟
مجرد أرقام، القتلى والجرحى والأسرى، مجرد أرقام في نشرات الأخبار، نستمع لأول قتيل وأول مجزرة ونبكي لضحية أول مجنزرة ثم. نعتاد رؤية الجثث في الشوارع وتحت الأنقاض وفوق الجسور ويستمر العداد كما لو أننا في محطة بنزين.
موجعة قصص الموت في مضايا التي تمتلئ بها مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والفضائيات وموجع أكثر قصة الموت العربي بالمجان في هذا الزمن الجبان. يصف طبيب وهو أيضا عضو مجلس محلي الزبداني تمكن قبل نحو شهر من الهرب من حصار بلدة مضايا بريف دمشق، «إن قوات النظام وحزب الله اللبناني، أطبقت حصارها بشكل كامل على البلدة، مما أنهك المدنيين جوعا».
ويضيف: «بعد أن جاع الناس ويئسوا، بدأوا البحث عن الطعام، وخرج الأطفال لجمع الأعشاب، لكنهم أصيبوا بالقصف أو بالقنص..
لكن الأهالي ظلوا يبحثون عن أي شيء يؤكل في أي مكان، الناس بدأت تغلي ورق العنب المصفرّ مرتين، مضيفين له البهارات والملح ثم يأكلونه، أمّا بالنسبة للأطفال وحليبهم، فلم يعد موجودا في أثداء الأمهات الجائعات ولا في الصيدليات ..
ولا في السوق، وإن وجد فهو أغلى من الذهب». يقول بمرارة المعاناة وفرح النجاة «الواقع سيئ للغاية، فبعد بداية الحملة في الزبداني (قبل أشهر) انتقلت النساء والأطفال إلى مضايا وحشروا فيها، وبعدها بعشرة أيام قطعت عليهم الطريق، وقطعت المواد الغذائية، لا ربطة خبز، ولا حتى كيلو غرام من الطعام».
وأوضح الطبيب أنه انتقل إلى مضايا بعد استمرار واشتداد الحملة والحصار على الزبداني، من أجل دفع عملية التفاوض بين النظام والمعارضة لفك الحصار عن الزبداني.
وأشار أن محاولات التفاوض لم تنجح، إلا من خلال دخول الهدنة في شمال البلاد وجنوبها، مبيناً أن حالة من الفرح عمت البلدة، وزغردت النساء عندما علمن أن وقفاً لإطلاق النار سيسري منتصف الليل، إلاّ أنه مع وقف إطلاق النار بدأت مأساة الجوع والحصار، وأخذت الأسعار ترتفع، والمواد تنفذ من البيوت ومن الأسواق.
وتابع: «هناك بلدتان (بقين) و(مضايا)، وسط الأولى شارع رئيسي، كان فيه سوق عامر بمختلف الأشياء، وحاليا هو سوق لبيع الأرواح لبارئها، حيث تموت الناس جوعا أمام البشرية جمعاء، والأمم المتحدة لا تحرّك ساكنا».
وروى بعضا من صور المأساة: «امرأة لديها خمسة أطفال يتضورون جوعا، تسمع صراخهم، تبحث المرأة عن أي شيء يؤكل في السوق إن وجد المال، ثم تعود بلا شيء، تأتيهم بورق الشجر أو الأعشاب، إلا أنها لا تجدي نفعا، فالأطفال لا يستطيعون القيام عن الأرض بسبب الجوع، وأيضا المسنّون وأصحاب الأمراض المزمنة، والذين بدأت الوفيات بهم قبل غيرهم».
وأضاف «رأيت بعيني من شرفة منزلي صراخ طفل، تخرج أمه بحثاً عن طعام، لأن زوجها إما معتقل أو قتيل، تسأل أصحاب الدكاكين (المحال التجارية) من أول السوق لآخره، وتتوسل إليهم، ثم تأتي لأوله مجددا تسأل يمنة ويسرة، ولا تجد شيئا غير أنياب الجوع»
تباً للربيع العربي فهذا الجوع حصاده، تباً للمصالح الدولية فهذه نتيجة حساباتها وألف لعنة على الإنسان الذي يأكل أخاه الإنسان من أجل كرسي أو شقفة أرض.
المصدر : فلسطين أون لاين