آيات من سورة المؤمنون بتفسير الزركشي

الأربعاء 26 ذو الحجة 1437/  28 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

د. جمال بن فرحان الريمي

آيات من سورة المؤمنون بتفسير الزركشي

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1].

قال الزركشي رحمه الله: اعلم أنه ليس من الوجه الابتداء بـقَدْ إلا أن تكون جوابًا لمتوقع، كقوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1]؛ لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله[1].

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4].

قال رحمه الله: ومن الألفاظ التي يُظنُّ بها الترادف وليست منه: “عَمِل” و”فَعِل” والفرق بينهما: أن “العمل” أخص من “الفعل”؛ فكل عملٍ فعلٌ ولا ينعكس، ولهذا جعل النجاة “الفعل” في مقابلة “الاسم”؛ لأنه أعم، والعمل مع الفعل ما كان مع امتداد؛ لأنه “فَعِل” وباب “فَعِل” لما تكرر، وقد اعتبره الله تعالى فقال: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ أي: يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير، فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع[2].

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 5 – 7].

قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ القصد منها: مدح قوم صانوا فروجهم عما لا يحل، ولم يواقعوا بها إلا من كان بِمِلك النكاح أو اليمين، وليس في الآية بيان ما يحل منها وما لا يحل، ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح ومِلك اليمين صيرَ إلى ما قُصِد وتفصيله بقوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23] [3] كذا قاله القَفَّال الشاشي[4] وفيه نظر.

وفي الآية تقديم وتأخير والمعنى: الذين هم حافظون لفروجهم[5].

وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [المعارج: 30] استثنى الأزواج ومِلك اليمين، ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والرابّة بالآية الأخرى[6].

وقد استنبط الإمام الشافعي[7] رحمه الله تحريم الاستمناء باليد من قوله تعالى: ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [المعارج: 30] إلى قوله: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المعارج: 31] [8].

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12، 13] قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾، يعنى: آدم، ثم قال ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ فهذا لولده، لأن آدم لم يخلق من نطفة[9].

﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15، 16].

قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15، 16]، أُكِّدت “الإماتة” تأكيدين وإن لم يُنكروا؛ لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت، وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان أكثر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرةً كان جديرًا بألا يتكرر ويتردد فيه، حثًّا لهم على النظر في أدلته الواضحة[10].

وقال رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15، 16]، فإنه سبحانه أكد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين، وأكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدًا واحدًا، وكان المتبادر العكس؛ لأن التأكيد إنما يكون حيث الإنكار؛ لكن في النظم وجوه:

أحدها: أن البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكِر له كالمنكر للبدهيات؛ فلم يحتج إلى تأكيد، وأما الموت فإنه – وإن أقروا به – لكن لما لم يعلموا ما بعده نُزِّلوا منزلة من لم يُقِر به فاحتاج إلى تأكيد ذلك؛ لأنه قد يُنزَّل المنكِر كغير المنكر إذا كان معه ما لو تأمَّلَه ارتدع من الإنكار، ولما ظهر على المخاطبين من التمادي في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده والانهماك في الدنيا، وهي من أمارات إنكار الموت، فلهذا قال: “ميتون” ولم يقل: تموتون؛ وإنما أكّد إثباتَ البعث الذي أنكروه تأكيدًا واحدًا؛ لظهور أدلته المزيلة للإنكار، إذا تأملوا فيها، ولهذا قيل: “تبعثون” على الأصل، وهو الاستقبال بخلاف “تموتون”.

الثاني: أن دخول اللام على “ميتون” أحق؛ لأنه تعالى يرد على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني، خلَفًا عن سلف، وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن، وأكَّده وكذَّب منكره، كقوله: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [التغابن: 7][11] قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح[12].

الثالث: أنه لما كان العطف يقتضى الاشتراك في الحكم استُغنى به عن إعادة لفظ اللام، وكأنه قيل: “لتبعثون” واستغنى بها في الثاني لذكرها في الأول.

الرابع: قال الزمخشري[13]: بُولغ في تأكيد الموت، تنبيهًا للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقبه؛ فإن مآله إليه؛ فكأنه أكِّدت جملته ثلاث مرات؛ لهذا المعنى، لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي؛ كأنه مخلَّد، ولم يؤكد جملة البعث إلا بـ “إنّ” لأنه أبرز بصورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكارا.

قلت: هذه الأجوبة من جهة المعنى؛ وأما الصناعة فتوجب ما جاءت الآية الشريفة عليه وهو حذف اللام في “تبعثون”؛ لأن اللام تُخلِّص المضارعَ للحال، فلا يجاء “به” مع يوم القيامة لأنه مستقبل، ولأن “تبعثون” عامل في الظرف المستقبل[14].

اقرأ أيضا  وما يخفى على الله من شيء

﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ [المؤمنون: 20].

قيل: في قوله تعالى ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ [المؤمنون: 20] إنّ “الباء” زائدة، والمراد: “تنبت الدهن”[15].

﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 22].

قال رحمه الله: “على” للاستعلاء حقيقةً نحو: ﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 22] [16].

﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 33].

جعل السكاكي[17] من أسباب التقديم والتأخيركون التأخير مانعًا، مثل الإخلال بالمقصود، كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، بتقديم الحال أعنى مِنْ قَوْمِهِعلى الوصف أعنى الَّذِينَ كَفَرُوا ولو تأخر لتُوُهِّم أنه من صفة الدنيا؛ لأنها – هاهنا – اسم تفضيل، من الدنو، وليست اسمًا، والدنو يتعدى بـ”من”، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهُمْ: من قومه أم لا؟ فقدَّم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود؛ وهو كون القائلين من قومه، وحين أمِنَ هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24] [18]، بتأخير المجرور عن صفة المرفوع[19].

قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، فقدم المجرور على الوصف؛ لأنه لو أخبر عنه -وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف، وتمامه ﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [20]– لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا، واشتبه الأمر في القائلين أهُم من قومه أم لا؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24] [21]، فإنه جاء على الأصل[22].

﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ [المؤمنون: 35].

قوله تعالى: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ ﴾، فمن قدّر في “أنّ” الثانية البدل، فينبغي أن يقدّر محذوفًا ليتم الكلام، فيصحّ البدل، والتقدير: أيعدكم إرادة أنكم إذا متم، ليكون اسم الزمان خبرًا عن الحدث، ومن قدّر في الثانية البدل لم يحتج إلى ذلك[23].

﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ [المؤمنون: 36].

قال رحمه الله: تأتي “هيهات” لتبعيد الشيء، ومنه: ﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ [المؤمنون: 36] قال الزَّجَّاج: البعد لما توعدون[24]، وقيل: وهذا غلط من الزَّجَّاج أوقعه فيه اللام، فإن تقديره: بَعُد الأمر لما توعدون، أي: لأجله[25].

﴿ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 40].

قال رحمه الله: تأتي “عن” بمعنى “بعد” نحو: ﴿ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 40] [26].

﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 47].

قوله تعالى: ﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾، أي: لا نؤمن[27].

﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50].

قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ ، يعني: مريم وعيسى، وقال ﴿آيَةً ﴾ ولم يقل آيتين وهما آيتان؛ لأنها قضية واحدة وهي ولادتها له من غير ذكر[28]، وقال رحمه الله: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ معناه: صيرناه، لأن مريم إنما صارت مع ولدها – عليه السلام – لما خُلق من جسدها لا من أب، فصارا عند ذلك آيةً للعالمين، ومحال أنه يريد “خلقناهما” لأن مريم لم تخلق في حين خلق ولدها؛ بل كانت موجودة قبله، ومحال تعلق القدرة بجعل الموجود موجودًا في حال بقائه[29].

﴿ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 51 – 54].

قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ إلى قوله: ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ إذ لا نبي معه قبله ولا بعده[30].

وقال أبو بكر الصيرفي[31]: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ إذ لا نبي معه ولا بعده[32].

﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].

قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾، أي ولأني ربكم فاتقون، فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له[33].

﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 67]

قوله تعالى: ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 67]، يعني: القرآن أو المسجد الحرام[34].

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]

قوله تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، تقديره: لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق[35].

اقرأ أيضا  سُنَّة التفاعل مع القرآن

وهذه حجة عقلية تقديرها: أنه لو كان خالقان لاستبدّ كل منهما بخلقه، فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر، ويؤدي إلى تناهى مقدوراتهما، وذلك يبطل الإلهية، فوجب أن يكون الإله واحدًا، ثم زاد في الحِجاج فقال: وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، أي: ولغلب بعضهم بعضًا في المراد، ولو أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصح ارتفاع مرادهما؛ لأن رفع النقيضين محال، ولا وقوعهما للتضاد، فنفى وقوع أحدها دون الآخر وهو المغلوب، وهذه تسمى: دلالة التمانع، وهي كثيرة في القرآن كقوله تعالى: ﴿ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 42] [36].

﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: 92].

قال ابن عبد السلام[37] في قوله تعالى: ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ إنما قدم الغيب مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات، والتمدح به أعظم، وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح.

وأجاب بأن المشاهدات له أكثرُ من الغائب عنا، والعلم يشرف بكثرة متعلقاته؛ فكان تأخير الشهادة أولى.

وقول الشيخ: إن المشاهدات له أكثر، فيه نظر؛ بل في غيبه ما لايحصى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8] [38]، وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترقٍّ، فالمقصود – هنا – بيان أن الغيب والشهادة في علمه سواء، فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترقّ في المعنى، لإفادة استوائهما في علمه تعالى، ويوضحه قوله تعالى: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ [الرعد: 10] [39] فصرَّح بالاستواء[40].

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ [المؤمنون: 99].

قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ أي: ارجعني، وإنما خاطب الواحد المعظَّم بذلك؛ لأنه يقول: نحن فعلنا، فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب، وقيل رَبِّ استغاثة، وارْجِعُونِ خطاب للملائكة، فيكون التفاتًا أو جمعًا لتكرار القول، كما قال: “قفا نبك…”[41].

وقال السهيلي[42]: هو قولُ من حضرته الشياطين وزبانية العذاب، فاختلط ولا يدري ما يقول من الشطط، وقد اعتاد أمرًا يقوله في الحياة، من رد الأمر إلى المخلوقين[43].

﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100].

قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ على معنى “ألا”، واختار قوم جعلها بمعنى: “حقًا” وهو بعيد؛ لأنه يلزم فتح “إن” بعدها ولم يقرأ به أحد[44].

﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]

قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ﴾ المعنى: فإذا نفخ في الصور تقاطعوا، ودل عليه قوله: ﴿ فَلَا أَنْسَابَ ﴾ [45].

﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 114].

قوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، تقديره: “لآمنتم” أو “لما كفرتم” أو “لزهدتم في الدنيا” أو “لتأهبتم للقائنا”[46].

﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 117]قوله تعالى: لَا بُرْهَانَ لَهُ ، هي وصف لهذا الدعاء، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان[47].

[1] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات – من معاني قد التوقع 4/ 189.

[2] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه 4/ 55.

[3] سورة النساء: 23.

[4] هو الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الشافعي؛ قال الحاكم: كان عالم أهل ما وراء النهر بالأصول، وأكثرهم رحلةً في الحديث، قال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من فقهاء عصره، له مصنفات كثيرة منها: “دلائل النبوة، محاسن الشريعة، آداب القضاء، شرح الرسالة، وغيرها”، مات في ذي الحجة بالشاش 365هـ. شذرات الذهب 4/ 245.

البرهان: معرفة أحكامه – قاعدة في العموم والخصوص 2/ 13.

[5] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – مما قدم النية به التأخير 3/ 179.

[6] هي قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23].

البرهان: معرفة تفسيره وتأويله – تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان 2/ 121.

[7] هو فقيه العصر والإمام الكبير والجليل الخطير، أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، تقدمت ترجمته عند تفسير الآية رقم 93 من سورة مريم. انظر: تفسير ابن كثير، مؤسسة الريان، بيروت، لبنان، ط/ 3، ت/ 1428هـ – 2007م، ج/ 3 ص/ 1587.

اقرأ أيضا  يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين

[8] البرهان: معرفة أحكامه – ما يؤخذ بطريق الاستنباط 2/ 6.

[9] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – قاعدة في الضمائر 4/ 24.

[10] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – التوكيد الصناعي 2/ 241.

[11] سورة التعابن: 7.

[12] هو أبو محمد عبدالرحمن بن إبراهيم بن سِباع الفزاري الدمشقي الشافعي، تاج الدين الفركاح، فقيه الشام، وشيخ الإسلام، مولده في ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة، سمع من ابن الزبيدي وابن الصلاح والسخاوي وغيرهم، قال الذهبي: فقيه الشام، درس وناظر وصنّف، وانتهت إليه رئاسة المذهب في الدنيا، توفي في خامس جمادى الآخرة سنة 690هـ، شذرات الذهب 7/ 721.

[13] هذه العبارة لم ترد في الكشاف، انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة 5/ 1640.

[14] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – زيادة اللام 3/ 58.

[15] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – زيادة الباء 3/ 56.

[16] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات – من معاني على 4/ 177.

[17] هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي أبو يعقوب السكّاكي، سراج الدين الخوارزمي، إمام في النحو والتصريف والمعاني والبيان والاستدلال والعروض والشعر، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون، له كتاب: مفتاح العلوم؛ فيه اثنا عشر علمًا من علوم العربية، مات بخوارزم سنة 626هـ. بغية الوعاة 2/ 364 رقم الترجمة 2204.

انظر قوله في: مفتاح العلوم للسكاكي، دار الكتب العلمية، بيروت/ لبنان، ط/ 1، ت/ 1420هـ-2000م، ص/ 345.

[18] سورة المؤمنون: 24.

[19] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – أسباب التقديم والتأخير 3/ 150.

[20] سورة المؤمنون: 33.

[21] سورة المؤمنون: 24.

[22] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – ما قدم في آية وأخر في أخرى 3/ 181.

[23] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – وعد 4/ 106.

[24] معاني القرآن وإعرابه، للزجاج 4/ 12.

[25] البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات – هيهات 4/ 264.

[26] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات – عن 4/ 178.

[27] المصدر السابق: أقسام معنى الكلام – استفهام الإنكار 2/ 204.

[28] المصدر السابق: علم المبهمات 1/ 115.

[29] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – لفظ جعل 4/ 84.

[30] البرهان: وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن الكريم 2/ 147.

[31] هو محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي، الإمام الجليل الأصولي، أحد أصحاب الوجوه المُسفِرة عن فضله، والمقالاتِ الدالة على جلالة قدره، وكان يقال: إنه أعلم خلق الله تعالى بالأصول، بعد الشافعى، تفقه على ابن سُريج، وسمع الحديث من أحمد بن منصور الرَّمادى، روى عنه على بن محمد الحلبي، ومن تصانيفه “شرح الرسالة” و”كتاب فى الإجماع” و”كتاب فى الشروط”، توفى سنة ثلاثين وثلاثمائة. طبقات الشافعية 3/ 186، رقم الترجمة 152.

[32] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – الخروج على خلاف الأصل وأسبابه 3/ 7.

[33] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – وضع النداء موضع التعجب 3/ 220.

[34] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – قاعدة في الضمائر 4/ 20.

[35] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنون البليغة – حذف الحرف 3/ 137، الكلام على المفردات من الأدوات – لو 4/ 227.

[36] سورة الإسراء: 42. البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – إلجام الخصم 3/ 286.

[37] لم أقف على قوله في تفسيره.

[38] سورة النحل: 8.

[39] سورة الرعد: 10.

[40] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – قواعد في النفي 3/ 250.

[41] من قول امرئ القيس في أول معلقته: قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل…، انظر: ديوان امرئ القيس، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/ 5، ت/ 1425هـ-2004م، ص/ 110.

[42] انظر قوله في: الروض الأنف، للمحدث عبدالرحمن السهيلي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ت/ 1410هـ-1990م، ج/ 5 ص/ 34.

[43] البرهان: وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن الكريم – خطاب الواحد بلفظ الجمع 2/ 147.

[44] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات – من معاني كلا 4/ 195.

[45] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات – إذا 4/ 126.

[46] البرهان: أساليب القرآن وفنون البليغة – حذف الأجوبة 3/ 120.

[47] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة – قواعد في النفي 3/ 244.

-الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.