الأدلة الشرعية على فضل الصحابة رضي الله عنهم

الثلاثاء 10 ذو القعدة 1436//25 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أ. د. مصطفى حلمي
الأدلة الشرعية على فضل الصحابة رضي الله عنهم
منها ما قاله تعالى في وصفهم:
﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100]، فكانوا هم الأفضل ثم يتناول الوصف من اتبعهم إلى يوم القيامة.

وأيضا ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).

كما ظهر من دراسة السنة النبوية مكانة الصحابة الخاصة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا سيما الخلفاء الراشدين وباقي العشرة المبشرين بالجنة. وفي الحديث: ((عليكم بسنتي وسنة الخلاء الراشدين المهديين. عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة))[1].

والآيات والأحاديث كثيرة في وصف أفضالهم ومكانتهم الممتازة، مثل قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110] وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: 10].

والحديث ((أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد))[2].

كما وصفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر بأنهم خير القرون وأن غيرهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيبه. وقد عانوا وكابدوا كثيرًا بعد الاهتداء للإسلام من أهلهم وعشيرتهم وقبائلهم وأقرب أقربائهم لكنهم لم يبالوا، بل صبروا وثبتوا لأنهم تذوقوا حلاوة الإيمان في القلوب وأيقنوا صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- واقتنعوا بعقيدتهم ولم تتأثر نفوسهم وقلوبهم بأية اضطهادات، أو مشاق يقابلونها بسبب عقيدتهم، ثم انطلقوا ينشرونها ويدافعون عنها ويبذلون في ذلك الأنفس والنفائس.

يقول ابن الوزير اليماني:
“لولا ثقل موازينهم في الشرف والدين ما اتبعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأدلة الدين الجديد فلم يعبؤوا أمام وضوح الأدلة ورسوخها في عقولهم ومالوا عن ألف دين الآباء والأتراب والغرباء إلى أمر شاق على القلوب، ثقيل على النفوس، لا سيما وهم في ذلك الزمان أهل الأنفة”[3].

والصحابة – رضي الله عنهم – أيضًا الواسطة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين الأمة، ولذلك امتدحهم – عليه السلام – وجعلهم الأفضل على مدى الأجيال، ففي حديث صحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيبه”[4].

قال ابن عبد البر: “وما أظن أهل دين من الأديان ألا وعلماؤهم معنيون بمعرفة أصحاب أنبيائهم، لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته”[5].

والأدلة كثيرة تدل على خطتهم وذكائهم، وأنهم كانوا أصحاب دراية وفكر ونظر، ولم يكونوا من السذج بحيث يخدعون أو يؤمنون كإيمان العامة.

يروي لنا ابن كثير في تفسيره عن أحد صالحي المهاجرين هو (جندب بن كعب الأزدي) قد رأى عند الوليد بن عقبة ساحرًا يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى!! فلما كان الغد جاء مشتملًا على سيفه، وذهب إلى مكان الساحر حيث يلعب لعبته تلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقًا فليحيي نفسه، وتلا قوله تعالى: ﴿ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 3]؟ ولا شك أنه كان يعرف الحديث ((حد الساحر ضربه بالسيف)) (رواه الترمذي).

ولا نظن أننا نغالي إذا قلنا أنهم عاشوا على أعتاب عالم الغيب وتمثلوه، وكأنه عالم مشاهد حاضر أمامهم يرونه ويعيشون فيه، فكانوا يتنافسون في طلب الشهادة للانتقال من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية تحقيقًا للسعادة الأبدية عند ربهم – عز وجل – وها هو حارثة – رضي الله عنه – يسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (كيف أصبحت يا حارثة؟) قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقا، قال: انظر ما تقول؟ فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني بعرشه ربي – عز وجل – بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: ((الزم. عبد نوَّر الله الإيمان في قلبه)). فقال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. فدعا له[6] رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنودي يومًا في الخيل، فكان أول فارس ركب وأول فارس استشهد. فأما درجة السابقين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها أحد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر)) وفي حديث آخر: ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)) وقال علي: ((كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر)) وفي الترمذي وغيره ((لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر)) ومع هذا فالصديق أكمل منه، فإن الصديق كمل في تصديقه للنبي – صلى الله عليه وسلم – فلا يتلقى إلا عن النبي، والنبي معصوم، والمحدث – كعمر – يأخذنا أحيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به، ولكن قلبه ليس معصومًا. فعليه أن يعرض ما ألقى عليه على ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده. ولهذا قد رجع عمر عن أشياء، وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه، فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا عن قلبه. فهو أكمل من المحدث. وليس بعد أبي بكر صديق أفضل منه، ولا بعد عمر محدث أفضل منه[7].

اقرأ أيضا  كيف يستفيد المسلمون مما يتعرضون له

بعد هذا التوضيح لا نرى مزيدًا لمستزيد لتقرير كمال المنهج الذي اتبعه الصحابة في معرفة أصول الدين أصولًا وفروعًا[8].

ثانيًا: الدليل العقلي:
ففضلًا عن النصوص المستفيضة عن الصحابة – رضي الله عنهم – في التفسير، والتي تدل على فهمهم للقرآن الكريم وتدبرهم، وإحاطتهم بالأدلة التي قدموها كالآيات وضرب الأمثلة واستخدام الأقيسة العقلية، فإن استخدامنا للدليل العقلي يبرهن أيضًا على أن حواري الرسل وصحابتهم هم أكثر الناس فهمًا لرسالتها من غيرهم بأصولها الكبرى وفروعها ودقائقها أيضًا. وأن المتأخرين هم أكثر الناس بعدًا عن الرسالات وفهمها باستثناء القلة الحريصة على اتباع السابقين عليهم بمنهج النقل الدقيق كما فعل أهل الحديث والسنة.

وهذا هو التفسير المنطقي المعقول الذي يشهد به تاريخ الدعوات الدينية فهي ستقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا فيها بأرواحهم وكم روى التاريخ من أخبار الرسول صلوات الله عليه أن إشارته كانت تقابل بالتنفيذ من الجميع، فإذا ما فترت الدعوة وضعفت العقيدة وحددت حرارة الإيمان الأولى، أخذ الناس يبحثون في معتقداتهم ويعللون ويناقشون ويعارضون[9].

و لم نذهب بعيدًا في التعليل والتفسير بينما كان عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- سباقاً إلى تعليل اختلاف المسلمين، متنبئًا بمًا سيحدث في العصور التالية لعصر الصحابة، مفسرًا إياه بنقص درايتهم بالقرآن وافتقادهم لفهمه على الوجه الصحيح. فقد خلا عمر – رضي الله عنه – ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فقال ابن عباس: يا أمير الآمنين إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوامًا يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا فيكون لكل قوم فيه رأي.. فإذا اختلفوا اقتتلوا[10].

وكانت طرق استدلال الصحابة مستمدة من النظر في المخلوقات والتأمل في عجائب صنع الله تعالى وما يطرأ عليها من تغيرات على مدار الأزمنة، فأيقنوا أنها لابد أنها مخلوقة من رب حكيم. أحسن كل شيء خلقه وأتقن صنع كل شيء. عن الحسن البصري (كانوا – يعني الصحابة – يقولون: الحمد لله الرب الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقًا دائمًا لا ينصرف، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق رب لحادثه، وأن الله قد حادثه بما ترون من الآيات: إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشًا وسراجًا وهاجًا، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق بظلمة طبقت ما بين الخافقين، وجعل فيها سكنًا ونجومًا وقمرًا منيرًا، وإذا شاء بنى بناء جعل فيه من المطر والبرق والرعد ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرف (من الرقفة أي الرعدة) الناس، وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحرٍ يأخذ بأنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربًا يحادثه بما يرون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة).

وترى الصحابة – طبقًا لهذا الاستدلال – قد سلكوا الطريق الفطري المطابق لطريق البرهان العقلي في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه خالق كل شيء، وهو سبحانه المحدث الفاعل لمشيئته وقدرته، ولم يفعلوا كما فعل بعض فلاسفة اليونان عندما فسروا صدور الكون بأنه معلول يقارن عنه فإن ذلك يمتنع محادثته أي إحداث الحوادث فيه[11].

من هذا يتبين أيضًا أن أدلة الشرع أدلة عقلية، فقد فطر الله تعالى عباده على معرفة الحق وقد بعد الرسل، كما يصفهم ابن تيمية – بتكميل الفطرة. قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53] وتفسيرها أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينة، لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق. فتتطابق الدلالة البرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول[12].

والتفسير العقلي أيضًا يبرهن على تجاوبهم الكامل مع العقيدة التي تغلغلت إلى أعماق نفوسهم، فإن الدارس لأحوالهم وسلوكهم خلال سنوات الأزمات والجهاد الشاق على النفس وعلى الهوى وفي مواجهة الأهل والأصحاب والعادات المألوفة والعقائد الوثنية الباطلة التي نشأ البعض عليها بالمقارنة بتصرفاتهم وعقائدهم قبل وبعد الإسلام، وفي ضوء دراسة أعمالهم وسلوكهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخشيتهم لربهم وفهمهم لدقائق العقيدة بعد أن تلقوها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد كل هذا يمكن وصفهم بأنهم الأعلم والأحكم من كل من جاء بعدهم.

ونكتفي بواقعة واحدة للمقارنة. تلك هي موقعة تبوك حيث بلغت بهم الشدة مبلغها. يقول ابن كثير: (ومن هنا تتبين فضيلة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- – رضي الله عنهم – على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وعدم تعنتهم كما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلًا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما أجهدهم الجوع قالوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم. وكذا لما احتاجوا إلى الماء سال الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هى لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع المتمشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-)[13].

اقرأ أيضا  عجز الرأي العام الجديد بعيني "عمران"

وهل نتصور أن أهل العصور التالية كانوا أكثر فهمًا للدين وأصوله من الصحابة؟ أو أنهم أفقه وأورع منهم؟ إن ذلك يعد قلبًا للأوضاع وتبديلًا لموازين القياس الصحيح، إذ سجل لنا التاريخ فضائل أعمال الجيل الأول بمثاليتهم الفهم والتطبيق فلم يشغلهم الجهاد عن التدبر والفهم العميق للإسلام بعقيدته وعبادته وأحكامه، وكثرة الروايات عن الجهاد والأعمال الصالحة تنطوي في عمق الإدراك والوعي بالرسالة والتحرك بها فانصرفوا عن الجدال واهتموا بالأعمال، ولكن الأوضاع انقلبت بعدهم، فظهر الجدل في الدين على حساب العمل، أو كان بداية لتفرقة وحدة المسلمين وتفتيت جماعتهم وظهور علامات الوهن بين صفوفهم. لذلك اعتبر علماء السنة ظهور الجدل الكلامي لونًا من الردة، وعللوه، بقلة الفقه في الدين وذهاب العلماء، يقول الدارمي: (وكانوا مقموعين أيام الصحابة والتابعين، مقهورين بسلطان الدولة وحجج العلماء، ولكنهم عندما بعد الزمن، وجدوا الفرصة لنشر مذاهبهم، عندما وجدوا من الرعاع جهلًا، ومن العلماء قلة)[14].

لقد بحث المتكلمون ونقبوا في تاريخ الصحابة وأيامهم فلم يجدوا آثار تدل على خوض الصحابة فيها بنفس طريقتهم وتبويباتهم، فاستنتجوا أنهم لم يعرفوها. وهذا منهج خاطئ في البحث والتصور، يقول السفارينى:
(ولما كان عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان خاليًا من البدع الكلامية والشبه الخيالية والخصوم المعتزلية، لم تكن أدلة علم أصول الدين مدونة هذا التدوين)[15].

كما تمادى المتكلمون بالطعن في الصحابة، فزعموا أنهم كانوا مشغولين بالجهاد عن تناول أمهات أصول الدين، وهذا خطأ جسيم وتفسير مقلوب؛ إذ لا يمكن تفسير الانتصارات المذهلة للصحابة إلا في ضوء استجابتهم لعقيدة الإسلام، وفهمها حق الفهم وتطيقها عمليًا فاجتذبوا غيرهم من الشعوب ذات الحضارات العريقة فكان الصحابة في وضع الطلائع والصفوة الممتازة.

وظهرت حروب الردة لتكشف معادن الرجال مبرهنة على أن قوة الإيمان في صف أبي بكر والصحابة وقد وقفت سدًا مانعًا لمواجهة أية ثغرة في العقيدة وكانت محكًا لأثر الإيمان في النفوس والفهم الصحيح لعقائد الإسلام، فقد كشفت الردة عن حقيقة التصور الإلهي في أذهان المسلمين وسلوكهم حين تحول إلى أعمال وحرب حتى لا يتمكن المرتدون من تشويه العقيدة، أو انتقال المنهج، أو إدخال شيء من الجاهلية في الإسلام[16].

إن هذا الفهم الممتزج بالإيمان هو الدافع الحقيقي لجهاد الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتسابق للاستشهاد، ومع الصديق – رضي الله عنه – بعده، وفي عصر الخلافة الراشدة عمومًا.

ألا يحق لعلماء أهل السنة والجماعة سلوك طريقهم واعتبارهم الجيل المثالي في العقيدة والسلوك؟
ولن يدهشنا إذن عندما نرى أحد علمائهم – وهو الدارمي- يقول: فلم يظهر جهم[17] وأصحابه – وهم أول من قالوا بالجبر ونفوا الصفات الإلهية – في زمن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكبار التابعين فيُرْوَى عنهم فيها أثرٌ منصوصٌ مُسَمَّى، ولو كانوا بينوا وأظهروا آراءهم لقتلوا، كما قتل علي – رضي الله عنه -الزنادقة – وهم أتباع عبد الله ابن سبأ اليهودي الذين قالوا بتأليه علي- والتي ظهرت في عصره، ولقتلوا كما قتل أهل الردة[18].

ويوضح لنا الدارمي بهذا الرأي كيف دارت عجلة التاريخ لتطبيق سننه في رقي الأمم وتدهورها، إذ عَبَّرَت الفلول المهزومة في الحضارات المغلوبة عن نفسها بنشر فلسفاتها ونظراتها للألوهية والكون والإنسان، أو بإثارة المشكلات العقائدية التي كانت تعاني منها إبان أزماتها.

ومما أذهل عقول مؤرخي التاريخ وفلاسفته أن المسلمين قاموا بغزو بلاد ذات حضارات عريقة، فكان من المنتظر قياسها على الغزوات المماثلة من قبل وغزوات الإسكندر الأكبر مثلًا – حيث لم تتجاوز أعماله مجال التعمير الحضري بمظهرها المادي فقط – كان من المنتظر بقاء الأفكار الفلسفية والدينية للسكان الأصليين كما هي، ولكن ما حدث نتيجة انتصار المسلمين لم يتوقع لأنه اكتسح ما لاقاه في طريقه كالسيل الجارف (فتغير كل شيء بين يوم وليلة، ولم يقتصر في هذه المرة على الواجهة السياسية والاقتصادية في المدن الكبرى فقط، وإنما تغلغل في الأعماق النفسية لهذه الشعوب جميعًا، فاللغات والأفكار والقانون والآمال والعادات وتصور العالم وعقيدة الألوهية، كل ذلك قد طرأ عليه تغير جذري سريع)[19].

والشواهد أكثر من أن يستدل بها يوما هذا الموضع وإلا اضطررنا إلى عرض حياة عشرات بل مئات الصحابة – رضوان الله عليهم – ومنهم من فسر القرآن الكريم ومنهم من تفقه ومنهم من اختص بالإفتاء والاجتهاد، والأمثلة كثيرة على مثل هذه التخصصات. ولو مضينا في دراسة أنشطتهم العلمية لخرجنا بصورة كاملة عن حقيقة عقائدهم إذا توصلوا إليها في كافة أوجه أصول الدين من عقيدة التوحيد إلى الصفات الإلهية إلى مسألة القضاء والقدر الإلهي، إلى الإنسان وحقيقته وغايته وأخلاقه، إلى المجتمع ومكوناته والحياة الإنسانية بكافة جوانبها حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: (لقد حدثت أجناس الأعمال في عصر الصحابة) ويقصد بذلك أنهم أرسوا قواعد الحياة.

وقال الإمام أحمد: (إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة)[20].

ويقصد بذلك أنهم أرسوا قواعد الحياة الإسلامية الحقيقية كلها. هذه الحياة الكاملة التي تتناول العقيدة والعبادات والأخلاق في دائرة واحدة يعبرون عنها بحياتهم اليومية العادية والمعارك العسكرية والمعاملات التجارية والعلاقات الاجتماعية في الأخوة والصحبة والزواج والعتاق والمسرات والأحزان. وهذه المزية ينفرد بها الصحابة دون من جاء بعدهم، لأنه ما إن انقضى عصرهم حتى ظهرت بواكير التحول التدريجي البطيء عن هذه النموذجية إلى حياة أقل درجة منها، ظهرت الفتن والقلاقل شأن سنة الحياة في النزول عن القمة بعد بلوغها الذروة. ومن هنا أصبحت تقاس أطوارنا تدريجيًا بالنظر إلى اقترابها أو ابتعادها عن المجتمع الإسلامي في الخلافة الراشدة وما حققته الحضارة الإسلامية في هذا الطور العظيم، فإذا تكلمنا عن الشورى والبيعة والعدالة، وإذا تكلمنا عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس، وإذا تكلمنا عن الفتوحات ورايات الإسلام الخفاقة المنتشرة في الأرض حينذاك، فلن نجد مصدرًا غنيًا كاملًا بكل ما تحقق في هذه الميادين إلا في وقت الخلافة الراشدة والقرون الأولى المفضلة.

اقرأ أيضا  إشادة فلسطينية بموقف قطر والجزائر الرافض للتطبيع

ولهذا فإن التاريخ يسجل الصلة العكسية بين ظهور الحضارة الإسلامية واتساع نفوذها وأثر إشعاعها وفتوحاتها وبين ظهور الفرق وانقسام صفوف المسلمين بين نحل ومذاهب تتطاحن وتتناحر.

وإذا عبرنا بلغة فلسفة التاريخ لفهم تاريخ المسلمين، عثرنا على الرباط الوثيق بلغت تنفيذ قواعد الشرع وفهم الإسلام من واقع مصدريه – القرآن والسنة – وبين النصر والظهور للمسلمين وبلوغ حضارتهم إلى الذروة، ففي العصور الأولى عندما كان الصحابة والتابعون يسيرون على طريق الشرع بفهم ووعي، انتصروا في الغزوات وقهروا الأعداء وحققوا مجتمعًا إنسانيًا مثاليًا لم تر البشرية مثله. ثم أصاب الوهن المجتمعات الإسلامية وظهر الضعف في أوصالها على أثر ضعف العقيدة في النفوس وظهور البدع.

ولا تخطئ عين الباحث المنقب في كتب التاريخ ملاحقة ما حققه المسلمون في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقيادته ثم الصحابة والتابعون.

وإذا شئنا تفصيلًا موجزًا، رأينا أن عصر بني أمية امتلأ بالفتوحات والانتصارات، ولكن يعاب على أمرائهم تأخير الصلاة. وكان أوائل خلفاء بني العباس أفضل ممن سبقهم من بني أمية لقيام الصلاة في أوقاتها.

وفي عصر المأمون (215 هـ) تركت الكتب اليونانية وكان ذلك على حساب العقيدة. فعندما تدخلت المفاهيم الفلسفية اليونانية انحرفت العقيدة، وزادها انحرافًا غلو التشيع ثم التصوف بمذاهبه المتطرفة كالحلول ووحدة الوجود، واختلط علم الكلام لدى المعتزلة. ومصطلحات الفلسفة اليونانية.

رويدًا رويدًا ضعفت الذاتية الإسلامية الأصيلة – المتضمنة للعقيدة والأعمال – لدي الكثيرين، وحلت محلها أفكار فلسفية أجنبية، أو مذاهب كلامية متطرفة، فضعفت من أمر العقيدة في النفوس، وحولت المسلمين إلى غير أهداف الأجيال الأولى، ونزعت من القلوب الخوف والرجاء والمحبة لله تعالى بأسمائه وصفاته الحسنى التي كان الأوائل يندفعون بها في ميادين الحياة والجهاد وتعمير الأراضي والسعي فيها، تحولت إلى مناقشات وجدال، فخمدت الجذور المشتعلة وتحولت أحيانًا إلى ما يشبه الرماد، فظهر الضعف وتغلب الأعداء!!

والآن، نحاول الإجابة على السؤال التالي:
كيف حدث ذلك؟

________________________________________
[1] جزء من حديث ص 43 رواه الإمام أمين وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
[2] الحديث رواه أحمد والترمذي.
[3] ابن الوزير اليماني: الذب عن سنة أبي القاسم ج 1 ص 55.
[4] رواه البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – والمد: ربع الصاع، وإنما قدره لأنه أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة.
[5] ابن عبد البر: الاستيعاب ج 1 ص 19.
[6] ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 1 ص 425- 426- ط الشعب، وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوم استشهاده (يا أم حارثة إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان وإن حارثة في الفردوس الأعلى).
[7] ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 513- 514.
[8] لم يكن تقسيم الدين إلى أصول وفروع معروفًا في عصر الصحابة والتابعين ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة.
[9] د. إبراهيم مدكور: في الأخلاق والاجتماع ص 26 ط الهيئة العامة للنشر.
[10] الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 107 ط دار الشعب.
[11] ابن تيمية: جامع الرسائل- المجموعة الأولى ص 139 تحقيق: محمد رشاد سالم 1389 هـ 1969 م ط المدني القاهرة.
[12] منهاج السنة ج 1 ص 82.
[13] ابن كثير: التفسير ج1 ص139 ط الشعب.
[14] عقائد السلف تحقيق د. علي سامي النشار ود. عمار الطالبي- منشأة المعارف بالإسكندرية سنة 1971م.
[15] مختصر شرح الإسفرابيني، ص 5.
[16] محمد حسن بريغش: ظاهرة الردة في المجتمع الإسلامي الأول ط مؤسسة الرسالة- بيروت 1394 هـ-1974م.
[17] جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي، الضال المبتدع لرأى الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين وما علمته روى شيئًا ولكنه زرع شرًا عظيمًا، الذهبي: ميزان الاعتدال ج 1 ص 197 ط الخانجي 1325 هـ.
[18] عقائد السلف ص 349.
[19] د. دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 4 5 ط دار القلم- الكويت 391 1 هـ 1971م.
[20] ابن تيمية: معارج الوصول إلى أصول الدين وفروعه، قد بينها الرسول ص 43، ط. المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.