تفسير الربع الأول من سورة النحل

الجمعة 7 ذو الحجة 1437/  9 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

رامي حنفي محمود

سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [1]

تفسير الربع الأول من سورة النحل

الآية 1، والآية 2:  ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾: أي اقَترب أمْرُ اللهِ بعذابكم أيها المشركونَ ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾: أي فلا تستعجلوا العذابَ استهزاءً بوعيدِ اللهِ لكم ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾: أي تَنَزَّهَ اللهُ وتَقَدَّسَ عن شِرك المُشركين الذي جَرَّأهم على الاستهزاء بالعذاب، (واعلم أنه سبحانه لم يقل لهم – بضمير المُخاطَب -: (عما تُشركون)، بعد أن كانَ الخطاب مُوَجَّهاً إليهم في قوله: ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، وذلك تهميشاً لهم، واحتقاراً لأفعالهم التي لا يَرضى عنها العقلاء).

♦ هذا، وقد أنزل اللهُ بهم بعضَ العذاب الذي استعجلوه، فقد قَتَلَ زعمائهم المُستهزئين في بدر، ثم أصابهم القحط سبع سنين، وعَذَابُ يوم القيامة قد اقترب لمن استعجله، ولذلك عَبَّرَ عنه سبحانه بصيغة الماضي – في قوله: ﴿ أَتَى ﴾ – وذلك لتأكيد وقوعه في عِلم اللهِ تعالى واقتراب مجيئه، فإنه آتٍ لا مَحالة، وكلُّ آتٍ قريب.

♦ ولَمَّا بَرَّأَ اللهُ نفسه عَمَّا وَصَفه به أعداؤه، ذَكَرَ الوحي الذي يَجب اتِّباعه، فقال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾ أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والقلوب، وهذا يُشبه قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾، (والمقصود بالملائكة هنا: “جبريل” عليه السلام ومَن معه مِن حَفَظَة الوحي)، إذ يَنزلون بالوحي ﴿ مِنْ أَمْرِهِ ﴾: أي بأمْر ربهم سبحانه ﴿ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ المُرسَلين، بـ ﴿ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ أي خَوِّفوا الناس مِن عاقبة الشِرك، لأنه لا معبودَ بحقٍ إلا أنا ﴿ فَاتَّقُونِ ﴾: أي فاتقوني أيها الناس بأداء فرائضي وإفرادي وحدي بالعبادة.

♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴾، ولم يقل (بأمْره)، وذلك لأنّ الوحي من الأمور التي اختَصَّ اللهُ بها نفسه، وهذا كقوله تعالى: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾، واللهُ أعلم.

الآية 3: ﴿ خَلَقَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أي ليَستدِل بهما العباد على عَظَمة خالقهما وقدرته على إحياء الموتى (لأنّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانهمِن خَلْق السماوات والأرض)، وبأنه وحده الخالق القادر المستحق للعبادة، ﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾: أي تنزَّه – سبحانه – وتعاظَمَ عن شِركهم وافترائهم.

الآية 4:  ﴿ خَلَقَ ﴾ سبحانه ﴿ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي مِن ماءٍ حقير مُستَقذَر، ثم أخرجه تعالى مِن بطن أُمِّهِ لا يَعلم شيئاً، حتى إذا رَبَّاهُ وأصبح رَجُلاً: ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾:أي فإذا به يَقْوى ويَغترُّ، ويُصبح شديد الجدال لربه في إنكار البعث وغير ذلك، كقوله: “مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟”، ونَسِيَ قدرة ربه الذي خَلَقَه من العدم.

الآية 5، والآية 6، والآية 7:  ﴿ وَالْأَنْعَامَ ﴾ – مِن الإبل والبقر والغنم – ﴿خَلَقَهَا ﴾ سبحانه ﴿ لَكُمْ ﴾ – أيها الناس -﴿ فِيهَا دِفْءٌ ﴾: أي جعل فيأصوافها وأوبارها الدفء، ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ أُخرى في جلودها وألبانها وما يَنتج من اللبن (كالزُبد والسَمن والجُبن) وكذلك تنتفعون بأولادها،﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ أنواعاً مختلفة من اللحوم، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾أي: ولكم فيها زينة تُدْخل السرور عليكم، وذلك ﴿ حِينَ تُرِيحُونَ﴾:أي عندما تَرُدُّونها إلى البيوت في المساء،﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾:أي عندما تُخْرجونها للمَرعى في الصباح، ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ أي تحمل ما ثَقُلَ مِن أمتعتكم وأحمالكم﴿ إِلَى بَلَدٍ ﴾ بعيدٍ ﴿ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ﴾: أي لن تستطيعوا الوصول إليه إلا بجهدٍ شديد ومَشَقَّة عظيمة، ﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ حيثُ سَخَّرَ لكم كل ما تحتاجون إليه، إذاً فاعبدوه وحده ولا تُشركوا به.

الآية 8:  ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ﴾ خَلَقَها سبحانه لكم ﴿ لِتَرْكَبُوهَا﴾ ﴿ وَزِينَةً ﴾ أي: ولتكون جمَالاً لكم ومَنظرًا حسنًاً، ﴿ وَيَخْلُقُ ﴾سبحانه ﴿ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ مِن وسائل الركوب وغيرها (ويَدخل في ذلك: السيارات والقطارات والطائرات والغواصات، إذ هو سبحانه الذي خَلَقَ مَصدر صُنعها، وهو الحديد، ثم عَلَّمَ الإنسانَ كيف يَصنعها)، وذلك لتزدادوا إيمانًاً به وشُكراً له.

اقرأ أيضا  تفسير سورة مريم عدد آياتها 98 ( آية 1-33 ) وهي مكية

♦ واعلم أنّ هناك خلافٌ بين العلماء في جواز أكْل لحوم الخيل، والراجح: جواز أكْلها (وهو رأي الجمهور)، لحديث أسماء رضي الله عنها – كما في صحيح مسلم – أنها قالت: (فجَزَرنا – أي ذَبَحنا – فرَسَاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة وأكلناه ).

الآية 9: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ أي: وعلى اللهِ إيضاحُ الطريق المستقيم لِهدايتكم، وهو الإسلام، ﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ أي: ومن الطرق ما هو مائل لا يُوصل إلى الهداية (وهو كل ما خالَفَ الإسلام)، ﴿وَلَوْ شَاءَ ﴾ سبحانه﴿ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ للإسلام، ولكنه لم يَشأ ذلك لحكمةٍ يَعلمها، ولذلك هَدَى سبحانه مَن رَغَبَ في الهداية واتَّبع أسبابها، وأضَلَّ مَن رغب في الضَلال واتَّبع أسبابه.

الآية 10، والآية 11:  ﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾﴿ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ ﴾ أي ماءٌ تشربونه وتتطهرون به، ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ ﴾:أي وأخرج لكم بهذا الماء شجرًا (والمقصود بالشجر هنا: جميع النباتات، حيثُ يَتوقف وجودها على الماء)، ﴿ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾: أي تَرْعَوْن مَوَاشيكم في هذا النبات، ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ ﴾ أي بهذا الماء الواحد: ﴿ الزَّرْعَ ﴾ أي الزروع المختلفة ﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ ﴾ أنواع﴿ الثَّمَرَاتِ ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الإنبات ﴿ لَآَيَةً ﴾ أي دلالة واضحة على قدرته تعالى، وقد جعل سبحانه هذه الدلالة ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي يَتأملون، فيَعلموا أنه سبحانه الخالق الرازقالمستحق وحده للعبادة.

♦ ورغم أنّ الزيتون والتمر والعنب مِن ضِمن الثمرات، إلا إنه سبحانه قد ذَكَرها منفصلة، لإظهار فوائدها ومنافعها (وهذا مِن باب ذِكر العام على الخاص لإظهار فضل الشيئ وشَرَفه)، واللهُ أعلم.

الآية 12:  ﴿ وَسَخَّرَ ﴾ سبحانه ﴿ لَكُمُ اللَّيْلَ ﴾ لراحتكم، ﴿ وَالنَّهَارَ ﴾لمعاشكم، (والمقصود مِن تسخيرهما: كَونهما مَوجودين باستمرار لا يَفترقان أبداً إلى أن يَأذن اللهُ بانتهائهما)، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾سَخّرَهما سبحانه لكم لمعرفة الأيام والشهور، وإضاءة الأرض، وغير ذلك من المنافع، ﴿ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ أي مُذلَّلاتٌ لكم بأمْر اللهِ وقدرته، وذلك لمعرفة الأوقات، ونُضج الثمرات، والاهتداء بها في الظلمات، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ التسخير ﴿ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾أي يَعقلون عن اللهِ أدلته وبراهينه، إذ إنه لا يُعقَلُ أبدًا أن يَخلُقَ سبحانه ويُعبَد غيرُه، وأن يَرزُقَ ويُشكَر غيرُه!

♦ واعلم أنّ الواو التي قبل كلمة (النجوم) تُسمَّى: (واو الابتداء)، يعني كأنها تبدأ جُملة جديدة، فلذلك جاءت كلمة (النجوم) مرفوعة (لأنها مبتدأ)، ولم تأت مَنصوبة مِثل مَن قبلها (لأنها لم تُعطَف عليهم).

الآية 13:  ﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ أي: وَسَخَّرَ لكم ما خَلَقَه في الأرض – من المَواشي والثمار والمعادن – وغير ذلك مما تختلف ألوانه ومنافعه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الخَلق واختلاف الألوان والمنافع ﴿ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي لَعِبرةً لقوم يَتعظون، ويَعلمون أنَّ في تسخير هذه الأشياء علاماتٍ على وحدانية اللهِ وقدرته، فيَعبدوه وحده ولا يُشرِكوا به.

الآية 14:  ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي سَخَّرَ ﴾ لكم ﴿ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾من الأسماك وغيرها ﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً ﴾ أي زينةً﴿ تَلْبَسُونَهَا ﴾ أي تلبسها نساؤكم (كاللؤلؤ وغيره)، (واعلم أنّ المقصود مِن تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله لهم بالركوب، وتيسير الغوص – لاستخراج اللآلئ – وصيد الأسماك وغير ذلك، فهي نعمة عظيمة، وإلاّ، فلو شاءَ سبحانه لَسَلّطَ البحر عليهم فأغرقهم)، ﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ ﴾ أي ترى السفن العظيمة – رغم ثِقَلها – ﴿ مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾: أي تَشُقّ الماء ذهاباً ومَجيئاً، لتحملكم وتحمل أثقالكم ﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي: وتركبونها لتطلبوا رِزقَ اللهِ بالتجارة والربح فيها (وذلك بنقل البضائع والسِلَع من بلدٍ إلى آخر) ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ربكم على هذه النعم العظيمة، ولا تعبدون معه غيره.

الآية 15، والآية 16: ﴿ وَأَلْقَى ﴾ أي وَوَضَعَ سبحانه﴿ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً راسية لتُثَبِّت الأرض﴿ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾: أي حتى لا تميل بكم وتتحرك (إذ لو تَحَرَّكَتْ بكم: ما استقامَ العيشُ عليها، ولَتَهَدَّمَ ما عليها وتَساقط)، ﴿ وَأَنْهَارًا ﴾ أي: وجعل في الأرض أنهارًا لسُقياكم وسُقيا دَوَابِّكم وزروعكم وغير ذلك مِن منافعكم، ﴿ وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾أي:وجعل في الأرض طُرُقًاً لتهتدوا بها في الوصول إلى الأماكن التي تقصدونها، ﴿ وَعَلَامَاتٍ ﴾: أي وجعل في الأرض علاماتٍ تَستدلُّون بها على الطُرُق نهارًا (كالهِضاب والأوْدية والأشجار وغير ذلك)، ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي: كما جعل النجومليَهتدي بها المسافرون ليلاً، (فرُكَّاب البحر لا يَعرفون اتجاه سَيْرهم في الليل إلا بالنجوم، وكذلك المسافرون في الصحارى، وذلك قبل وجود آلة (البوصلة) والتي لم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته).

اقرأ أيضا  تفسير سورة العاديات عدد آياتها وهي مكية

الآية 17:  ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ﴾: يعني أتجعلون اللهَ تعالى – الذي يَخلق هذه الأشياء وغيرها – كالآلهة المزعومة التي لا تخلق شيئًا، وتعبدونها معه؟! ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتذكرون عَظَمَة اللهِ تعالى، فتتوبوا إليه وتُسلِموا له؟!

الآية 18: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾: يعني: وإن تعُدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تستطيعوا حَصْرَها ولا القيام بشُكرها; وذلك لكثرتها وتنوُّعها (لِذا فتذكَّروا نِعَمَهُ سبحانه، واشكروه عليها، مع استشعاركم – أثناء الشكر – بعَجْزكم عن القيام بشُكره كما يَجب)، واستخدِموا نِعَمَهُ في طاعته ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ إذ يَتجاوز عن تقصيركم في أداء شُكر النعم، ولا يَقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يُعاجلكم بالعقوبة.

الآية 19:  ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ ﴾ أي يَعلم سبحانهما تتحدثون به سِرَّاً وما تُخفونه في نفوسكم ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ أي: ويَعلم سبحانهما تُظهِرونه لغيركم، (ومِن ذلك أنّ اللهَ عليمٌ بما يُدَبِّرُه المشركون مِن الشر والأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالآية تَحمل أيضاً تهديداً ووعيداً لكفار مكة).

الآية 20، والآية 21: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾ يعني: والآلهة المزعومة التي يَعبدها المشركون لا تَخلق شيئًا (وإنْ صَغُر)، ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ يعني: بل هي مخلوقات صَنَعَهاالكفار بأيديهم، فكيف إذاً يَعبدونهم وهم يَعلمون أنهم ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ أي جمادات لا حياةَ فيها؟! ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي: ولا تَشعر هذه الأصنام بالوقت الذي يَبعثها اللهُ فيه هي وعابديها،ليُلقَى بهم جميعاً في النار يوم القيامة.

الآية 22، والآية 23:  ﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ يعني: إلهكم المستحق وحده للعبادة هو اللهُ الواحد الأحد، (والعبادُ قسمان: قِسمٌ مؤمن بهذه الوحدانية، وقِسمٌ جاحد بها رغم وضوح الأدلة وقوَّتها) ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾ هم الذين﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ﴾ لهذه الوحدانية، ﴿ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يَتكبرون عن قبول الحق، وعبادة اللهِ وحده، و﴿ لَا جَرَمَ ﴾ أي حَقًا ولا شك ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي يَعلم ما يُخفونه مِن عقائد وأقوال وأفعال وما يُظهرونه منها، وسيُجازيهم على ذلك كله ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾.

♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قد خَصَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة بأنهم هم المُنكِرون للوحدانية – عندما قال:﴿ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ﴾ – وذلك لعدم خوفهم من العقاب في الآخرة، إذ لو آمنوا باليوم الآخر (الذي هو يوم الجزاء على أعمالهم)، ولو تَخَلَّوا عن أهوائهم وشهواتهم، وخافوا عقابَ اللهِ تعالى: لاَستقاموا على الحق والخير.

الآية 24، والآية 25:  ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ يعني: وإذا جاءَ أُناسٌ من بلادٍ أخرى ليَسألوا عن الإسلام، فقابلوا هؤلاء المشركين وسألوهم عن القرآن: ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: إنه ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي قصص السابقين وأباطيلهم، (وهذا مِن جَهلهم وعِنادهم، وإلاَّ، فكيف يكون هذا الكتاب المُشتمل على الحقوالعدل التام، أساطيرَ الأولين؟!)، فكانوا بذلك يَصرفون الناس عن الإسلام ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: أي لتكون عاقبة افترائهم أن يَحملوا ذنوبهم كاملةً يوم القيامة – لا يُغْفَرُ لهم منها شيء – ﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾ أي: وكذلك سيَحملون مِن ذنوب الذين كَذَبوا عليهم وأضَلُّوهم، ليُبعدوهم عن الإسلام ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي: وهم لا يَعلمون أنّ مَن دَعا إلى ضَلالة، كان عليه ذنب مَن عَمِلَ بها إلي يوم القيامة،﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾: أي قَبُحَ ما يَحملونه من الذنوب، لأنها ستقودهم إلى نار جهنم ليُعَذَّبوا فيها.

اقرأ أيضا  يؤخرهم إلى أجل مسمى

♦ واعلم أنّ اللام التي في قوله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ ﴾ تسمى: (لام العاقبة)، أي: لتكون عاقبتهم أن يَحملوا ذنوبهم، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾.

الآية 26:  ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي: لقد دَبَّرَ الكفار السابقين المَكايد لرُسُلهم ﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ﴾: أي فهَدَمَ اللهُ تعالى بُنيانهم مِن أُسُسِه وقواعده، (وهذا كقول العرب: (أتَى عليه الدهر) أى: أهلكه وأفناه، وكما تقول أيضاً: (لقد أُتِيَ فلانٌ مِن مَأمنه) أى نَزَلَ به الهلاك)، أمّا إتيانُ اللهِ تعالى يوم القيامةفيكونُ إتيَانًا حقيقيًّا بذاتِهِ على الوَجْهِ اللائق بهِ سُبحانه، ففي صحيح مُسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال – وهو يتحدث عن يوم القيامة -: (حتى إذا لم يَبْقَ إلاَّ مَن كان يَعْبُدُ اللَّهَ تعالىمِن بَرٍّ وفاجر: أتاهم رَبُّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنَى صورةٍ مِن التي رأوهُ فيها).

﴿ فَخَرَّ ﴾ أي فسقط﴿ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ ﴿ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾أي: وبذلك قد جاءهم الهلاك – وهم في مَأمنهم – مِن حيثُ لا يتوقعون، وذهب باطلهم وزالَ مَكْرُهم (أفلا يَتعظ كفار قريش بهذا فيَنتهوا عن تدبير السُوءَ لنَبِيِّهم بالقتل أو النفي أو الحبس؟).

الآية 27، والآية 28، والآية 29: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ﴾ أي يُذِلُّهم اللهُ بالعذاب يوم القيامة ﴿ وَيَقُولُ ﴾ لهم – توبيخاً -:﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ﴾ الذين عبدتموهم مِن دُوني، و﴿ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾: أي كنتم تحاربون الأنبياء والمؤمنين مِن أجْلهم، فأين هم الآن ليَدفعوا عنكم العذاب؟، وحينئذٍ ﴿ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ أي قال الأنبياء والعالمون: ﴿ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾:يعني إن الذل في هذا اليوم والعذاب سيَكونُ على الكافرين ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ أي تقبض الملائكة أرواحهم وهم ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ بالكفر والمعاصي، ﴿ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ﴾: أي فاستسْلَموا لأمْر اللهِ حينَ رأوا الموت، وأنكَروا ما كانوا يَعبدونَ مِن دون الله، فقالوا: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ﴾: أي ما كنا نعمل شيئًا من الشِرك والمعاصي، فيُقال لهم: ﴿ بَلَى ﴾ أي كَذَبْتم، فـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، وسيُجازيكم على أعمالكم، ﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ يعني:فإنّ جهنم هي بئس المُستقَرّ للذين تكبَّروا عن عبادة اللهِ وحده.

[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: “التفسير المُيَسَّر” (بإشراف التركي)، وأيضًا من “تفسير السّعدي”، وكذلك من كتاب: ” أيسر التفاسير” لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.

واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلماتالتي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

-الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.