جورين قدح تروي تفاصيل ثلاثة أشهر من جحيم الأسر

الأربعاء 2 جمادى الأولى 1437//10 فبراير/شباط 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
غزة
أن تكون آمنا نائما في بيتك، فيحدث ما لم تكن تتوقع حدوثه يوما، وترى جنود الاحتلال المدججين بالسلاح يقتحمون منزلك، ويقتادون ابنتك مقيدة اليدين ومعصوبة العينين، والخوف يظهر جليا على جسدها المرتجف، فاعلم أنك في فلسطين.
زنازين التحقيق
جورين قدح (19 عاما) من قرية شقبا غرب رام الله، طالبة في جامعة بيرزيت تدرس الصحافة المكتوبة/ علوم سياسية، اقتحمت قوة كبيرة من جيش الاحتلال منزل عائلتها بتاريخ 28/تشرين ثاني الماضي، حينها استيقظ كل من كان نائما سوى جورين، وبدأ جنود الاحتلال باستجواب الوالد عن أبنائه عن عائلته المكونة من ابنتين وولدين.

سأل الجندي سعيد عن اسم ابنته الكبرى، فقال له: “هذه صابرين”، وعندما علم الجنود أن من تنام في سريرها هي جورين، توجهوا برفقة مجندة إلى غرفتها، وتم إيقاظها بطريقة صادمة لها، إذ نخزتها المجندة في خاصرتها بسلاحها، لتستيقظ جورين مذعورة وتنظر لتجد نفسها محاطة بالجنود.

صاحت المجندة على صابرين طالبة منها مساعدة جورين في ارتداء الملابس، وعندما قالت صابرين للجندي: “ما تحلموا انكم تاخدوها معكم”، ضربها ووبخها.

جورين لم تكن تتخيل يوما أنها ستصبح أسيرة في سجون الاحتلال، ولكن ذلك حدث فعلا، إذ اقتادها جنود الاحتلال بعد أن قيدوا يديها من الخلف، وعصبّوا عينيها، وفي أثناء اخراجها من المنزل وبينما كان الجنود يحاولون تشتيت تركيز العائلة عن ابنتهم، أمسكت المجندة جورين من مؤخرة رأسها وصدمتها بالحائط فسال دمها.

من الساعة الثانية فجرا حتى منتصف ليلة اليوم التالي، بقيت جورين في الدورية العسكرية لا تعلم أين هي، حتى وصلت إلى أحد المكاتب التابعة لسجون الاحتلال، ترجلت المجندة من الدورية تقتاد جورين، ووضعت أمامها ورقة باللغة العبرية والعربية، تحتوي على العديد من الأسئلة.

وتوضح جورين لـ قُدس الإخبارية، أنه من بين الأسئلة التي احتوتها الورقة، إن كانت تعاني من أمراض معينة، أو إن كانت قد تعرضت للضرب أثناء الاعتقال، فأجابت جورين: “لا” ووقعت على الورقة، ما إن سلّمتها للمجندة حتى اعتدت عليها بالضرب المبرح، وأصابتها برضوض قوية في ركبتها، على إثرها لم تستطع المشي بشكل جيد لمدة أسبوع.

قبل أن تنقل جورين لسجن “هشارون” وضعت في الخارج لبرهة من الزمن، وفي تلك الليلة كانت الأجواء باردة جدا والأمطار غزيرة، وبينما كانت تجلس في إحدى الزوايا رأت السجانين وهم يصرخون، ويتصرفون بطريقة غير لائقة بين بعضهم، فبدأت بالبكاء.

اقرأ أيضا  مئات المستوطنين يقتحمون شوارع القدس وباحة البراق

نُقلت جورين لغرفة الأسيرات اللواتي كن نائمات في تلك الساعة المتأخرة، بعد ساعة فقط تم إيقاظ جورين، وأخبروها بأنها ستعرض على إحدى المحاكم، ولكن قبل ذلك تم اقتيادها إلى مكتب أحد المحققين في السجن من أجل استجوابها.

10 دقائق فقط كانت مدة التحقيق، السؤال الوحيد الذي شعرت جورين أنه كان جديا: “هل تنتمين لفصيل؟”، فأجابت: “لا”، أما باقي الأسئلة فكان المحقق يسألها ويضحك.

وتبين جورين، أن من بين الأسئلة التي سألها المحقق، “ما لونك عينيكِ؟ لون شعرك؟ أريني غمازتك! لماذا لا تخلعين الحجاب وأزوجك لأحد الشبان الوسيمين في الخارج؟ سألها أيضا عن فحوى إحدى الرسائل العشوائية من الجامعة، وعن مصدرها”.

قبل أن ينهي المحقق أسئلته، دخل أحد الضباط وطلب منه دخول حسابها على فيسبوك، كان آخر منشور كتبته جورين: “إذا رحلت تحت الثرى دثروني بجوامع الدعاء”، تلك العبارة كانت بالنسبة للمحقق تهمة كافية لإدانتها.

المحقق سأل جورين عن العبارة ووجه لها تهما تتعلق تضمنت نيتها تنفيذ عملية ما، أو أنها تحرض على العنف، هذا ما نفته جورين، وأكدت أنها لا تقصد شيئا محددا من هذه العبارة.

الاعتقال الإداري

بعد انتهاء التحقيق، نقلت جورين إلى محكمة “عوفر” بواسطة البوسطة، فكانت عذابا جديدا تعيشه جورين، ونظرا لتأجيل محكمتها بضع ساعات، فقد تم نقلها إلى زنزانة صغيرة لا يوجد فيها أي شي حتى سرير، ولأنها كانت متعبة جدا، ولم تأكل طيلة يوم كامل حيث كانت في الجيب العسكري، استلقت على الأرض ونامت.

وعقدت جلسة المحاكمة عند الرابعة عصرا، ترافع محامي جامعة بيرزيت عن جورين، وخلال مرافعته قال: “جورين طالبة تبلغ من العمر 19 عاما، في بداية عمرها، ولم تفعل شيئا، لا تستحق أن تسجن من أجل عبارة على الفيسبوك”.

في المقابل تمسك القاضي بالزعم أن جورين تحاول “التحريض على العنف”، ولأنه لا يوجد ما يدين جورين، أصدر القاضي حكمه عليها بالسجن لثلاثة أشهر تحت بند الاعتقال الإداري، بحجة أن التهمة سرية.

جورين التي كانت متفائلة بأنها سوف تعود إلى عائلتها في ذلك اليوم، وقع صدى الحكم عليها كالصاعقة، وبقيت تبكي لمدة يومين، تفكر في أهلها الذين كانت النار تكوي قلوبهم في ذلك الوقت، فهم لم يجتمعوا يوما على المائدة منذ غياب جورين، وأصبح شقيقها الأكبر ينام خارج البيت.

اقرأ أيضا  القوات الإسرائيلية تعتقل ثمانية فلسطينيين من بلدة عزون

“عندما تمنيت الموت”

نُقلت جورين بعد ذلك إلى سجن “هشارون”، لتصبح أكثر إداركا للواقع الذي ستعيشه، فالمكان الذي كان مظلما عندما وصلته وجدت الضوء ينتشر في كل زواية منه، فأخذت تنظر من حولها محاولة استيعاب ما تراه.

تقول جورين، “في تلك اللحظة شعرتُ وكأني في كابوس، وتمنيت الموت على أن أعيش في سجن ويتحكم بحياتي سجان، رأيت أسيرات صغيرات في السن مصابات منهن استبرق نور ومرح بكير، وضعهن جدا صعب”.

جورين التي استقبلتها الأسيرات بكل حب وحنان وقد أدركن الخوف والألم اللذان تحس بهما، خففن عنها، وكن بمثابة أمهات لها في السجن، تجمعن من حولها وحاولن طمأنة قلبها، تتذكر جورين على وجه التحديد النائب في المجلس التشريعي خالدة جرار، وعميدة الأسيرات لينا الجربوني، والأسيرة منى قعدان.

وتضيف جورين، أن كل الأيام في الأسر متشابهة، تستيقظ الأسيرات الساعة الخامسة على “العدد”، إذ يأتي سجانون لعد الأسيرات، ثم يرجعن للنوم، وبعد ذلك يأتي جنود لتفتيش القسم، وعقب مغادرتهم تبدأ الأسيرات بتنظيف الغرفة وترتيبها، ومن ثم إعداد الفطور.

ويسمح للأسيرات بالخروج إلى “الفورة” في ساحة السجن مرتين في اليوم (صباحا وعصرا)، وعندما يحين موعد الغداء تتولى إحدى الأسيرات مهمة إعداده وتقديمه، إذ تقدم إدارة السجن لهن الرز واللحم أو الدجاج، وهن بدورهن يضفن ويعددن ما يرغبن بتناوله.

وتبين جورين أنها لم تواجه مشكلة من ناحية الملابس والأغطية الشتوية، فالأسيرات القدامى زودنها بكل ما تحتاجه، لكن عندما نقلت إلى سجن “الدامون” نظرا لاكتظاظ القسم في “هشارون”، واجهت مشاكل كثيرة.

خدعة ضابط السجن

برد شديد، وشعور بالغربة مجددا، بعد أن تم إبعاد جورين عن الأسيرات القدامى اللواتي كن مثل أمها، وكن معظمهن أسيرات جدد، تمثلهن الأسيرة صابرين أبو شرار التي تم اعتقالها خلال الانتفاضة.

في سجن “الدامون” حاول ضابط السجن أن يلعب لعبة مخادعة مع الأسيرات، فكان يتم استدعاء إحدى الأسيرات لوحدها دون أن تحضر معها ممثلة الأسيرات كما يفترض أن يحدث.

اقرأ أيضا  قوة الاحتلال تقصف شمال غزة مع سقوط صاروخ على سديروت

وتوضح جورين أن الضابط كان يحاول إثارة الفتنة بين الأسيرات وشق صفهن، عن طريق إقناعهن بأن ممثلة الأسيرات يجب أن لا تمثلهن كلهن، وأن كل واحدة تمثل نفسها وأن يكون لها مطلب.

جورين تتنسم الحرية

السابع والعشرين من كانون الثاني كان موعد انتهاء الحكم الإداري بحق جورين، استيقظت باكرا وأدت صلاة الفجر وابتهلت إلى الله أن تستعيد حريتها وأن لا يتم تجديد اعتقالها الإداري مرة أخرى، ولقتل الوقت الذي يمر بطيئا وساعات الانتظار شديدة الصعوبة لجأت إلى النوم.

عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا، تنظر جورين نحو باب القسم على أمل رؤية إحدى السجانات جاءت لاصطحابها، ومن أجل بث الراحة في نفس جورين نظمت لها الأسيرات حفلة وداع.

وأخيرا، جاءت المجندة وأخبرت جورين بأنه يجب أن تجهز نفسها، في حين أن العائلة كانت تنتظر بفارغ الصبر أي خبر جديد، تتساءل هل ستلقتي بها اليوم.

حوالي الساعة الثالثة جاء اتصال لوالد جورين، شاهد على هاتفه رقما غريبا، أجاب سريعا متأملا سماع صوت مدللته جورين، أجابت “يابا”، ليهبط أرضا ويبكي فرحا. وقبل أن تغادر جورين السجن قال لها الضابط: “اعتقالك كان مجرد قرصة أذن لغيرك”.

عادت جورين إلى حضن عائلتها من جديد بجسد هزيل، وانقلبت حياتها رأسا على عقب، تجربة قد يظنها البعض سريعة وبسيطة، لكنها بالنسبة لجورين لم تكن كذلك أبدا، ففي تلك الفترة تغير كل شيء في حياتها، ففي ليلتها الأولى نامت جورين تضع حجابها بجانب رأسها، وتستعد لأن تستيقظ على “العدد”.

وتشير جورين إلى أنها أصبحت تخشى من سماع صوت قوي يدل على اقتحام جديد للقرية، وتهاب إعادة اعتقالها مرة أخرى، وتقول، “في ليلتي الأولى عقب الافراج عني نمت وأنا أشعر بالخوف، هل من إنسان ينام وهو يشعر بالخوف؟!”.
-السبيل-