رجلان تحابا في الله ( خطبة )

الجمعة 28 شوال 1436//14 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ محمد كامل السيد رباح
رجلان تحابا في الله
((رجلان تحابا في الله))، قوله صلى الله عليه وسلم: ((ورجلان))، هذا على الغالب، ولا يراد ظاهره على الحقيقة؛ فقد يحب مجموعة من الرجال بعضهم البعض في الله، وكذلك الحال في النساء، سواء امرأتان ومجموعة من النساء يُحببن بعضهن البعض في الله، وقد يتصوَّر هذا بين الرجل وإحدى محارمه، أو بين الزوج وزوجته…. وهكذا، ويشهد لهذا حديث الصحيحين عن أنس مرفوعًا: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار)).

وقوله: ((تحابا)) أصله تحابَبا في الله، فحُذفت إحدى الباءين للتخفيف، والمعنى هنا أوقع من قوله: ((وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله))؛ لأنه قد يكون حبًّا من طرف واحد، ((تحابا في الله))، أما قوله فيُفيد معنى المشاركة في الحب، وأن كليهما يُحبُّ صاحبه في الله، فكل منهما محب ومحبوب.

أحبابَنا في الله:
للإنسان في هذه الحياة حاجات يودُّ قضاءها، ومطالب يرجو نوالها، ومصالح يتمنى نجاحها، وله أيضًا ميول ورغبات وشهوات يحاول إرضاءها وإشباعها والتمتع بها، وكل من ساعده على قضاء حاجة أحبَّه، ومَن وافقه على هواه مال إليه، ومَن خالفه في مصلحة، أو صادمه في أهوائه، كَرِهَه وأبغضه.

فالحب والبغض من طبيعة الإنسان، ومِن صفاته المتأصلة فيه، لا مفرَّ منهما، ولا عاصم عنهما، ولن يَخلو إنسان من حب أو بغض؛ فقد وجد الحب مع أبينا آدم عليه السلام، وكان الحب والبغض بين أولاده سببًا في قتل قابيل هابيل، وشربت الأرض دم أول قتيل نتيجة حب القاتل لحسن حظ المقتول، فتولد البغض لأخيه الذي أنتج القتل؛ ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27] إلى قوله تعالى: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]، فهكذا يتسلَّط الحب والبغض على النفس، فتصدر الأعمال والأقوال تبعًا لهما، يصدر عن الحب الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة، فتسعد الجماعات والأمم والأفراد، ويصدر عن البغض القطيعة والهجران والتفرقة والاختلاف والخذلان والقسوة والشدة، فتفرق الجماعة وتفسد الأمم، وكثيرًا ما يَسير الإنسان وراء هواه في حب الناس وبغضهم، ويُحكِّم أغراضه في الرضا عنهم أو كرههم، ولا يوجِّه حبَّه وبُغضه في وجه الحق والدين والعقل، لهذا كله وضع الإسلام ميزانًا للحب والبغض، وحدَّ حدودًا للرضا والسخط؛ حتى لا تضيع الحقوق ويفنى الأفراد بين حبٍّ أعمى وبغض عقيم؛ لهذا يضع الإسلام الميزان الحق في الحب والبغض، يَمنع شرَّهما، ويجعلهما سلاحين من أسلحة الحق والعدل وإسعاد الأفراد والأمم.

فالميزان الحق في ذلك أن يكون حبُّك وبُغضك لله، فأنت تحب لله وتُبْغض في الله، تُحبُّ المؤمنين الصالحين، وتبغض الكافرين المُفسِدين، تحب أولياء الله، وتبغض أعداء الله، تحب من أحب الله ولو خالف آراءك، وتبغض من يُبغضه الله ولو وافقك أحيانًا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))؛ أبو داود:4681.

سَلهُم عن الحب الصحيح ووصفِه
فلسوف تسمع صادق الأخبار
إحياء سنَّته حقيقة حبِّه
في القلب، في الكلمات، في الأفكار

وفي منزلة الحب يقول العلامة ابن القيم – رضي الله عنه -: “هي المنزلة التي إلى عالمِها شمَّر السابقون، وعليها تفانَى المُحبُّون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقَدَه فهو في بحار الظلمات.

نِعمة الحب في الله:
تَلتقي فيها الأرواح قبل الأجساد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف))؛ متفق عليه.

• تجمع القلوب التي لا تجمعها أموال الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 62، 63].

اقرأ أيضا  الدروس المستفادة من خطبة النبي في حجة الوداع

• نعمة الله المُنقِذة من النار؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].

• ومِن ثمَّ كانت أسمى علاقة، وأقوى من علاقة النسب؛ قال تعالى: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 45 – 46]، ولذا كان الحسن – رحمه الله – يقول: “إخواننا أحب إلينا من أهلينا، فإخواننا يُذكِّروننا بالآخرة، وأهلونا يُذكِّروننا بالدنيا”.

فهذا الحب المجتمعي المتقارب الذى حثَّ عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم هو من تآصر الأمم غرائزها، ومن نهضتها مقابسها، وما فرَّطت فيه المجتمعات إلا ظهرت فيها المِحَن والفِتن.

فلا والحق لولا الحبُّ صارت
قلوبُ الناس خاليةً يَبابا
به ذُبْنا كأنساب وذابت
مواجدنا وقد كانت صعابا

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه كان إذا تذكَّر أخًا له في الله في الليل، تَململ، وقال: يا طولها من ليلةٍ، حتى إذا صلى الغَداةَ ذهب إلى أخيه واعتَنَقه، وعن عمر رضِي الله عنه أيضًا: إذا رزقكم الله – عز وجل – مودَّة امرئٍ مسلم، فتشبَّثوا بها.

وكان ابن مسعود رضِي الله عنه إذا خرَج إلى أصحابه، قال: أنتم جلاء حزني.

وكان بلال بن سعد يقول: أخٌ لك كلَّما لقيَك ذكَّرك بحظِّك من الله، خيرٌ لك من أخٍ كلَّما لقيك وضَع في كفِّك دينارًا.

قال كعب الأحبار: “في الجنَّة عمود من ياقوتة حمراء، في أعلاه سبعون غرفةً هي منازل المُتحابِّين في الله مكتوب في جباههم: المتحابون في الله، إذا أشرف الرجل منهم على أهل الجنة أضاء لأهل الجنة كما يُضيء الشمس لأهل الدنيا، فيقولون: هذا الرجل من المتحابين في الله”.

قال الفضيل في بعض كلامه: “هاه تريد أن تسكن الفردوس وتُجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، بأي عمل عملته؟ بأي شهوة تركتها؟ بأي غيظٍ كظمته؟ بأي رحم قاطعٍ وصلتها؟ بأي زلة لأخيك غفرتها؟ بأي بعيد قاربته في الله؟

وقال مجاهد: المتحابون في الله إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض، تتحاتُّ عنهم الخطايا كما يتحاتُّ ورق الشجر إذا يَبس.

وقال الفضيل: “نظَرُ الرجل إلى وجه أخيه على المودَّة والرحمة عبادة”.

أيها الفضلاء:
وفي زمن غاب فيه طعم الأخوة، وندر الصديق الوفيّ، فكم نحن بحاجة إلى التذكير بحقوق الصُّحبة؛ لتكون الأخوة صادقة، وليدخل أصحابها في وصف المتحابين في الله؛ رجاء أن يكونوا من المُستظلِّين بظل العرش.

فمن حقوق الصحبة:
المواساة بالمال، فالمتآخيان إذا احتاج أحدهما لمالٍ سدَّ خلتَهُ صاحبُه، وأي صداقة وأخوة تُدَّعى إذا كان الأصحاب يظل أحدهما محتاجًا والآخر موسرًا لا ينظر لحال أخيه؟! وقد رأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: صديقان، فقال: فما بال أحدهما غنيًّا والآخر فقيرًا؟

إن الأخ الصادق يُعين في سداد دَيْنِ إخوانه تقربًا لله؛ لقي حكيم بن حزام عبدالله بن الزبير بعدما قُتل الزبير فقال: كم ترك أخي عليه من الدين؟ فقال: ألفي ألف، فقال: عليَّ نِصفها، وكان ابن سوقة له جرار فيها مال، وعندما دخل عليه إخوانه قال لهم: مَن احتاج إلى شيء فليأخذ.

وقال الحسن: كنا نعدُّ البخيل الذي يُقرض أخاه، وقال: ليس من المروءة أن يربَحَ الرجل على صديقه.

وقال يزيد بن عبدالملك: إني لأستحي من الله أن أسال الجنة لإخواني وأبخل عليهم بدينار أو دِرهَم.

قال سفيان بن عُيَينة: “سمعتُ مساور الورَّاق يحلف بالله – عزَّ وجلَّ -: ما كنتُ أقول لرجل إني أحبك في الله – عز وجل – فأمنعه شيئًا من الدنيا”.

اقرأ أيضا  الاعتصام بالكتاب والسنة

قال علي رضي الله تعالى عنه: “لعشرون درهمًا أُعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدَّق بمائة درهم على المساكين”، ومعلوم أن هذه أمثلة لقومٍ لديهم القُدرة في أموالهم.

نعم، إنها أمثله ونماذج عالية لربما لم تجدها في زماننا، ولكن؛ لا أقل من أن يتفقَّد المرء إخوانه، ويسدَّ حاجتهم، فذاك من حق أخوَّتِهم عليك، وكمال ذلك بأن تتفقَّدهم قبل أن يتعرَّضوا لشيء، ويدوم التفقد لهم ولأهلهم ولو بعد رحيلهم بسفر أو بموت.

قال الغزالي: وقضى ابن شُبرُمَة حاجةً لبعض إخوانه كبيرة، فجاءه بهدية، فقال: ما هذا؟ فقال: لما أسديته إليَّ، فقال: خذ مالك، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضَّأ وكبِّر عليه أربع تكبيرات، وعدَّه في الموتى.

وكان في السلف من يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم ويتردَّد إليهم ويُموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه.

وإن من حقوق الإخوان عليك أن تقضي عنه دينه، تفكَّ حاجته، ترفَع فقره وعِوَزه وإن كان في المشرق وأنت في المغرب، وبهذا تكون أخاه ويكون أخاك، قال محمد بن خالد: قلت لأبي سليمان: “يكون الرجل بإفريقية والآخر بسمرقند وهما أخوان؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: تكون نيته متى لقيَه واساه، فإذا كانت نيته كذلك فهو أخوه”.

ومن حقوق الصحبة:
إطعام الطعام، وكسوة الإخوان؛ عن علي رضي الله عنه قال: لأن أجمع نفرًا من أصحابي على صاع أو صاعين أحب إليَّ مَن أن أَخرُج إلى سوقكم فأعتق نسمة.

ولله در أبي سليمان الداراني حين يقول: لو أن الدنيا كلها لي في لقمة، ثم جاءني أخ لأحببتُ أن أضعها في فيه، بل ما أطيبه حين يقول: إني لألقم اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي.

عباد الله:
والتزاوُر والتواصل حق من حقوق الصحبة، وكم تطيب الزيارة يوم أن تكون لله! ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: وجبَت محبتي للمتحابين فيَّ، وجبَت محبتي للمُتزاوِرين فيَّ))، فأين التزاور في الله أيها الإخوان؟

وفي الصحيح: ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له، على مدرجته ملَكًا فلمَّا أتى عليه، قال: أين تُريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله – عز وجل – قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).

إن مشاغل الدنيا لا تنتهي، فما أجملَ أن يقطع المرء من وقته وقتًا يسيرًا ويؤمَّ أخًا له في الله، ويخلص قصده لله؛ ليتحادثا في خير أو مُباح! فكم لهذه الجلسة من أثر وأجر عند الله! وفي الحديث: ((وجبَتْ محبتي للمتزاورين فيَّ)).

ولله درُّ ليث بن أبي سَليم حين يقول: “ما من رجل يزور أخاه لا يزوره إلا ابتغاء مرضاة الله – عز وجل – وتنجيزًا لموعوده، والتماس ما عنده، وحفظًا لحق أخيه – إلا حيَّاه كل ملك بتحية لا يُحيِّي بها صاحبه، ثم صاح ورق الجنة وسبَّح، ثم قيل: هذا فلان زار أخًا له”.

قال محارب بن دثار: سمعت عمر بن الخطاب يقول: “لقد أحببت في الله – عز وجل – ألف أخٍ كلهم أعرف اسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته، وأعرف مكان داره”، قال محارب: حيث قال: “أعرف مكان داره” علمت أنه كان يَزورهم ويأتيهم.

ولله در القائل:
قد يُقطَع الرحم القريب وتُكفَر النْ
نَعماء، لا كتقارب القلبين
يُبدي الهوى هذا، ويبدي ذا الهدى
فإذا هما نفس تُرى نفسَين

أيها المسلمون:
ورفع الأكف بالدعاء للأصحاب في حياتهم وبعد مماتهم من روائع الحقوق، وذاك دليل على أن المرء لم ينسَهم يوم أن يُفتح له باب الدعاء، لقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي الدرداء -: ((ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملَك: ولك بمِثل)).

والأئمة نُقل عنهم أنهم كانوا يَدعون لإخوانهم وأصحابهم، فيَحيى القطان يدعو لألف إنسان كل يوم، ولقيَ أحمد بن حنبل ولد الشافعي فقال له: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم كل سحر، وكان لأبي حمدون صحيفة مكتوب فيها ثلاثمائة من أصدقائه يدعو لهم كل ليلة.

اقرأ أيضا  ثبات الإسلام واستقراره

فهل يظفر منك إخوانك بدعوة في ظهر الغيب؛ لتنفع نفسك وإخوانك؟ وهذا من حقهم عليك، ولا سيما يوم أن يرحلوا عن الدنيا، رحم الله محمد بن يوسف الأصفهاني إذ يقول: وأين مثل الأخ الصالح؟ أهلُك يَقتسِمون ميراثك ويتنعمون بما خلَّفت وهو منفرد بحزنك، مهتمٌّ مما قدَّمت وما صرت إليه، ويدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى!

حقوق الأخوة في القلب:
من حق الأخ على أخيه في الله – عز وجل – الوفاء والإخلاص في محبته، وحسن الظن به، والتواضُع لإخوانه، ويُسيء الظن بنفسه.

فداء الأخ بالنفس:
إذا صحَّ الودُّ، وقع فداء الأخ بالنفس؛ عن محمد بن داود قال: سمعتُ أبا بكر القطبي، وأبا عمر الآدمي يقولان – وكان يتآخيان في الله تعالى-: خرجنا من بغداد نريد الكوفة، فلمَّا سِرنا في بعض الطريق، إذا نحن بسبعَين رابضين على الطريق، فقال أبو بكر لأبي عمرو: أنا أكبر منك سنًّا، فدعني أتقدمك، فإن كانت حادثة اشتغَلا بي عنك وجزتَ أنت، فقال أبو عمرو: نفسي ما تُسامحني بهذا، ولكن نكون جميعًا في مكان واحد، فإن كانت حادثة كنا جميعًا، فجازا جميعًا بين السبعين فلم يتحرَّكا، ومرَّا سالمينِ”.

يوم اليرموك، وما أدراك بقصة الحب في يوم اليرموك؟!
ومِن هذه الصور المُشرقة للمحبة الصادقة: ما رواه القرطبي عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك من أيام فتوح الشام أطلب ابن عمٍّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: “إن كان به رمق سقيته ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي إليَّ: انطلق به إليه، قال: فجئته، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال:آه، فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات – رحمة الله عليهم أجمعين”.

لا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا، وكلُّك لأخيك إلا ما حرمه الله ورسوله:
لقد عبَّر القرآن أصدق التعبير عن الأخ في الله ونعته بالنفس، وليس بعد القرآن وعلوِّ بيانه وعلوِّ رياضه علوٌّ:
• قال الله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 54]؛ أي: إخوانكم، في توبة بني إسرائيل.

• وقال تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النور: 61]؛ أي: إخوانكم.

• وقال تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: 12]؛ أي: بإخوانهم خيرًا.

• وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]؛ أي: إخوانكم.

لا تَكتمِل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا، وإذا أحببتَ أخاك في الله فأعلِمْهُ بذلك؛ فهذا ما أرشد إليه النبي – عليه السلام.

وبعدُ، معاشرَ المسلمين:
فلا خير في الدنيا إذا لم يكن بها
صديقٌ صَدُوقٌ صادق الوعد مُنصِفًا

لأجل الإخوان بكى الصالحون عند الموت؛ حزنًا على فراقِهم، وبالإخوان يكون المؤمن من قوم يَستظلون بظل العرش إذا كانت المحبة لم تجمَعهم على دنيا ولا مال، ولا يَزيدها بِرٌّ ولا يَنقصها جفاء، فلتكن همَّتُك أن تكسب في الدنيا أخًا، يُعينك إذا أحسنت، ويُناصِحك إذا عصَيت، ويُذكِّرك بالآخرة في زمن شغلتنا الدنيا، فهذه هي الأُخوَّة الباقية، يوم أن تَتهاوى الصداقات، وتَنقلب يوم القيامة إلى عداوات، والله من وراء القصد.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.